يعتبر مفهوم “الثقافة” مفهوما غامضا، وهو ما ينطبق على “الثقافة الفلسطينيّة” التي يكتنفها الغموضُ أكثر من غيرها بحكم الظروف التاريخية المعقّدة والإشكالية التي ولدت في سياقها. فقد وُلدت الثقافة الفلسطينية الحديثة، كالوطنيّة الفلسطينيّة الحديثة، في المنافي، أي في جغرافيا ثقافات أخرى، أكان هذا في مخيمات اللجوء أم في عواصم دول اللجوء، حيث طُبعَ كل النتاج الثقافيّ الفلسطينيّ تقريبا؟
لئن أطلق البعض تعبير “اللاجئين” على حالة الفلسطينيين بعد النكبة، فقد كان التعبير، مرذولا من الفلسطينيين أنفسهم؛ فهم عاشوا الغياب بوصفه استمرارا للوجود في الوطن، وحملوا معهم الأسماء والذكريات وبعض الأشياء الصغيرة. فكان أن نقلوا ما يستطيعون نقله من الرموز، ليتحولوا أنفسهم إلى “بلاد تتنقّل”.
معجزة العيش
يشرح إلياس صنبر الحالة الفلسطينية بعد النكبة ليقول: “إنّ ضياع الوطن قد عدّل جذريا التشكيلة الثقافيّة الفلسطينيّة: فبدل أن يشكّل العام 1948 لحظة أصليّة، فإنّه شكّل رابطا مفصليّا، أكّد بعضَ الجوانب الثقافيّة المحليّة، ولكنّه تمخّض عن أنماط تعبيريّة جديدة، فلئن لـم يكن العام 1948 مؤشرا على ولادة ثقافة فلسطينية جديدة، فمن المؤكد مع ذلك أنّ الفلسطينيين سيبدؤون اعتبارا منه بالكلام أكثر من أي وقت مضى بصوت “شخصيّ” ونبرة جديدة، ويعبّرون عن قلقهم الخاص، ينشدون أو يبكون القدر الذي صار قدرهم. يولِّد المنفى قلق الانتماء بين مكان الوجود اليومي والمكان الذي أتى منه المرء وينتمي إليه، في ذلك التوزع بين اليومي القائم وبين العاطفة التي تعيد إلى أماكن أخرى. كان على الفلسطيني أن يجترح معجزة العيش، أن يخترع وطنا وجغرافيا وثقافة”.
تجربة الكفاح
شكّل الضغط الخارجي القادم من الدول المضيفة، والمتمثّل في عدم الرغبة فيه، عاملا إضافيا لإنتاج “الغيتو الفلسطينيّ” (المخيّم) والحفاظ على استمراره بأشكالٍ مختلفة. وُلدت الثقافة الفلسطينيّة في أماكن الآخرين، إنها ثقافة المؤقت، الانتقالي إلى الطبيعي الذي لم يتوفّر لهم إلى اليوم. ولأن الظلم الذي عاشه الفلسطينيون كان من الكثافة بحيث حوّلهم إلى حالة خاصة لا تقاس إلا بنفسها، فإنهم لم يستطيعوا سوى أن ينتجوا ثقافة نقديّة، منشقّة، ثقافةَ الألم، ثقافةَ المرفوضين، المهمّشين، المكنوسين تحت السجادة في المنطقة، لكنها في جميع الأحوال كانت ثقافة المؤقت أيضا. ومن أراد من الفلسطينيين أن ينتج ثقافة تقليديّة ومحافظة وتمالئ السلطان، فقد كان عليه أن يلتحق بسلطات دول المنافي واللجوء ومؤسّساتها. فالانتماء الفلسطينيّ -أو الإعلان عنه- كان انتماء إلى وسط عربيّ رغما عنه، وعربيّتُه لم تنف غربته.
كان يكفي أن تكون فلسطينيا حتى يجعل ذلك منك متهما. لذلك لم يكن غريبا أن تستقطب الحالة الفلسطينية، ممثّلة في منظمة التحرير وفصائلها ومؤسّساتها ودوريّاتها الثقافيّة والبحثيّة، جزءا مهمّا من كبار المثقفين العرب النقديين في نهاية الستينات وبداية السبعينات؛ فلقد شكّلت التجربة الفلسطينيّة الكفاحيّة تجربة اعتراضيّة ونقديّة في الواقع العربيّ بعد هزيمة العام 1967، وكانت موقع استقطاب للاتجاهات النقديّة العربيّة. لكنّ هذه الحالة النقديّة دخلت مسيرة التأقلم مع الواقع الإقليميّ وأفق “الحلّ” الذي رسمت معالمه حرب أكتوبر 1973، التي كرّست “الحلَ” المتوافق عليه دوليّا وإقليميا للقضيّة الفلسطينيّة على أساس إفرازات هزيمة عام 1967 ونتائجها.
وهو ما دفع الحالةَ الفلسطينيّة الاعتراضيّة والنقديّة إلى التأقلم مع الواقع الجديد من خلال تعديل الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ للتوافق مع الوقائع الجديدة. وهذا ما عكس نفسَه في الخلافات الفلسطينيّة ـ الفلسطينيّة حول “البرنامج المرحليّ” الذي أسّس لـ”حلّ نهائيّ” للصراع العربيّ/ الإسرائيليّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وترافق ذلك مع ترسيم منظمة التحرير الفلسطينيّة عضوا رسميّا في جامعة الدول العربيّة والنظام الرسميّ العربيّ، ما خلق تمايزا داخل النخبة الفلسطينيّة: بين المتكيّفين مع شروط النظام الرسميّ العربيّ، وبين الرافضين لهذا التكيّف المحافظين على الخط النقديّ. كان من الواضح أنّ منظمة التحرير تتحوّل إلى سلطة في النظام السياسيّ الفلسطينيّ الذي وُلد بفعل الاعتراف الرسميّ العربيّ وتكريس منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطينيّ في منتصف السبعينات.
منذ ذلك الوقت والتحوّل الذي جرى لمكانة المنظمة، أخذت الحالة الفلسطينيّة الاعتراضيّة تخلق فرزا داخل النخبة الثقافيّة الفلسطينيّة، وظهر خطاب سياسيّ وثقافيّ يؤسّس لتسوية سياسيّة ستأتي بأسوإ الحلول بعد عقدين من أوسلو. لقد أنتج النظامُ السياسيّ الفلسطينيّ، على الرغم من عدم امتلاكه جغرافيا خاصة به، أو بسبب فقدان هذه الجغرافيا، ما يمكن تسميته “قبيلة العمل السياسيّ الفلسطينيّ” التي تنقّلتْ ما بين الأردن ولبنان وتونس ودمشق لتعود إلى الأراضي الفلسطينيّة بعد اتفاقات أوسلو. هذه “القبيلة” أمسكتْ بتلابيب القرار السياسيّ الفلسطينيّ منذ نهاية الستينات إلى اليوم.
المثقف السعيد
إذا كان التمايز قد أظهر خلال السبعينات والثمانينات خلافات داخل الصف الوطنيّ الفلسطينيّ الواحد -وصلتْ إلى الصدام المسلّح في النصف الأول من الثمانينات-، فقد كانت عودة “قبيلة العمل السياسيّ الفلسطينيّ” إلى الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة عبر اتفاقات أوسلو -وإنْ سمّى الفلسطينيون إدارتهم الذاتيّة وزارات- انتقالا إلى سلطة معترفٍ لها على الأقلّ بالسيطرة على السكّان. وفي اللحظة التي أصبحتْ “قبيلة العمل السياسيّ الفلسطينيّ” تسيطر على جزء من الأرض الفلسطينيّة، وقبل أن تكتمل هذه السيطرة بدولة وطنيّة، اكتمل تبلورُ المثقف التقليديّ المحافظ في الساحة الفلسطينيّة، ليولد مع ولادة السلطة الفلسطينيّة ما سمّاه مريد البرغوثي «المثقف السعيد» هكذا، وفي ظلّ السلطة الذاتيّة العظيمة، أصبح هناك العديدُ من المواقع، والوزارات، ووكلاء الوزارات، والمؤسسات الثقافيّة، لا تنتج أيّ ثقافة، تمّ شراء ذمم العديد من المثقفين وأشباه المثقفين لملء شواغرها.
ولد النتاج الثقافي الفلسطيني الرئيسي في الشتات وداخل إسرائيل، وكانت مساهمة الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة هي المساهمة الأضعف في اللوحة الثقافيّة الفلسطينيّة خلال السنوات الخمسين الماضية. وعندما وصلت النخبة الفلسطينية السياسية والثقافية التي تربعت على قمّة العمل السياسيّ والثقافي الفلسطيني خلال أربعين عاما إلى اتفاقات أوسلو كانت قد تعفّنت. تكمن أزمة الثقافة الفلسطينيّة في الفصام بين نتاجها التاريخيّ النقدي وواقعها اليومي، أو في الانفصال بين انتمائها النقديّ وواقع السلطة التكيّفيّ.
تفكك الثقافة الوطنية الفلسطينية !!
بقلم : سمير الزبن ... 28.01.2014
المصدر : العرب