أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
رسالةٌ إلى أبينا بولس اليازجي!!
بقلم : آمال عوّاد رضوان ... 18.04.2014

وما انفكَتْ أوتارُ قلبي مشدودةً مُتوتّرةً، تلك الّتي دوْزنَها بتناغُمٍ إخوةٌ وأحبّةٌ وأدباءٌ وأصدقاءٌ غوالٍ سوريّون، عرفتُهم برِقيٍّهم الأخلاقيّ الثقافيِّ السامي! ولمّا يَزَلِ الألمُ والأرقُ يُفتّقانِ روحي إلى ما وصلتْ إليه سوريا الحبيبة إلى الآن، وخاصّة، منذُ علمتُ بخطفِ أستاذي المطران بولس اليازجي في خضمِّ الأحداثِ السوريّةِ الراهنةِ، مَن عرفتُهُ عن كَثبٍ بروحانيّتِهِ العالية المُسالِمةِ، ومحبّتهِ العارمةِ لعروبتِهِ ولسوريا وللإنسان، عساهُ وجميعُ الأهل يَعودون إلى أحضانِ سوريا بسَلامٍ وحياةٍ آمنة، وعسى جميع أسرانا يَتحرّرونَ مِن سجونِ الظّلمِ وكمائنِ الشرور، لنحيا وسوريا وفلسطين والعراق وكافةِ بلدانِنا العربيّةِ والبشريّةِ في هذا الكوْن فصحًا مجيدًا، وعيدَ قيامةٍ وخلاصًا لإنسانيّتنا مِن الحروب والآلام!
أستاذي الحبيب بولس اليازجي..
ربّةُ الذكرى ما انفكّتْ تُوصِدُ الذكرياتِ على بخورِ المَسافاتِ العتيقةِ، وما فتِئتْ تَجدلُ فتيلَ الماضي لحنًا بيزنطيًّا جَهوريًّا، يَتبَوْلَسُ مُتعَمْلقًا في شقوقِ الرّوحِ، ويَتقَبْرَصُ الوجعُ نُحاسيًّا ويَتقرفَصُ، يَطرُقُ بعكّازِ شُموخِهِ دمعًا خانقًا تحجّرَ في صخبِ المَدامع.
هناكَ في نيقوسيا/ قبرص
لقّنتَني الموسيقا البيزنطيّة.. وهَبْتَني مَفاتيحَ أبوابِ الرّوحِ.. جعلتَ قلبيَ المغمورَ باليقينِ، يَتسلّقُ سُلّمَ الحياةِ فرحًا، ويُحَلّقُ بأجنحةِ الملائكةِ إلى سَماواتِ السّلامِ الرّوحيّ.
كانَ صوْتُكَ الحاني الشّاخصَ بي يَلكُزُني، يُدَثّرُني بنُذورِ الأولياءِ، يَجُرُّني إلى سَماواتِ الأنبياء: هيّا احْمِلي الأمانةَ ورَتّلي!
ويتأجّجُ ارْتِباكي أمامَ إصرارِكَ المُؤمِنِ بتِلميذتِكَ، وأنتَ المُشِعُّ بالإيمانِ، تُزجي غيومَ روحي بحنانٍ، وَتسوقُها إلى قُدسِيّةِ سعادةٍ تَكمُنُ في إنسانيّتِنا، وأدْمَعُ ببَسْمَتِكَ المُشعّةِ نُورًا، وتَغرَوْرِقُ عينايَ برُوحِكَ الواثقة.
حَمَلْتَ صوْتي مُصَوَّرًا في أحشاءِ كاميرَتِكَ، وحَمَّلْتَني صليبَ البارالايي والصّولفيج البيزنطيّ أمانةً عشّشَتْ في خلايا كياني..
ويَضحَكُ ليَ الزّمانُ الأعرجُ.. يُضَمّخُ روحيَ بالزّوفا، ويُطِلُّ الأرشمندريت فيلوثيوس في الناصرة قادِمًا من حيفا، لتعليمِ أصولِ الموسيقا البيزنطيّة.
مدفوعةً مضيتُ إلى هناك، بعدَما ألزمَني تشجيعُ زوجي الحبيب أن أتابعَ موْسقتي البيزنطيّة، فجَلسْتُ وحيدةً (أنا الأنثى) على حياءٍ، خلفَ جمْعِ المُرتِّلينَ الذكور، أحملُ رضيعي ذا الشهورِ الثلاثة، وأُصغي بصمْتٍ نَهِمٍ. لكن، بعدَ شهور قليلةٍ انفضَّ جمعُ المُرتّلينَ، ووحدي بقيتُ في الغربالِ دونَ الأربعينَ الآخرين.
كان المشوارُ البيزنطيُّ شاقٌّ وطويلٌ، يحتاجُ إلى دراسةٍ جدّيّة ومتابعةٍ، فهرَّ الجمعُ مِن ثقوبِ الموسيقا على الدروب، ومضيتُ بروحي إلى حيفا، لأتابعَ تلقّي دروسي الفرديّة بإخلاصٍ من قِبل الأرشمندريت فيلوثيوس، ولمْ أتوَانَ لحظةً عن حَمْلِ أمانَتِك، إلى أنْ أتقنْتُ القراءةَ، وحِفظَ جَميلِكَ الماطِر العاطر بفترةٍ وجيزةٍ مُكثفةٍ.
يا البولسُ اليازجي راعينا..
يا مَن تجسّدتَ في ابتهالاتي طوْعًا، تُعِدُّ أجِنّةَ السُّحُبِ مَلائكةَ نورٍ للأرضِ، بالأمسِ القريبِ عاينتُ الأعوامَ تحْمِلُكَ على أعناقِها سَنابلَ أحلامٍ، وقفتُ أمامَ أيقونةِ الآلامِ، تنسِجُني خيوطُ الدمعِ والآمال، وكما في كُلِّ عامٍ، يَدايَ مَبْسوطتانِ مَزاميرَ اسْتِغفارٍ، أُسَبِّحُ مُرتّلةً بصوتٍ متهدّجٍ متهجّدٍ ما لقّنتَني وصوّرتَ:
"ها هو ذا الختنُ يأتي في نِصفِ اللّيل، فطوبى للعبدِ الّذي يَجِدُهُ مُستيقِظًا، أمّا الّذي يَجِدُهُ مُتغافِلًا، فهوَ غيرُ مُسْتَحِقٍّ، فانظري يا نفسي لِئلّا تَغرَقي في النّوم، ويُغلَقُ عليْكِ خارجَ المَلكوتِ، وتُسَلَّمي إلى الموتِ، بل كوني مُنتبِهةً صارخةً، قُدّوسٌ قدّوسٌ قدّوسٌ أنتَ يا الله، بشفاعةِ القِدّيسينَ ارْحَمْنا".
يا اليازجي بولس سيّدنا..
يا المحفوفُ بصلواتِ ودعواتِ مُحِبّيكَ الخلاصيّة، ويا المُكَلّلُ بإبَرِ شوْكِ الفُصولِ المُهمّشةِ، ها أنتَ لمّا تزَلْ حاضرًا فينا ومعَنا في هذا الأسبوعِ العظيمِ مِن آلامِ المسيح وفي كلِّ آنٍ، تُرَتِّقُ جِراحَ مَناراتٍ مُمَلّحةٍ، وتُواسي المحزونين بإيمانِك وروحِك الطاهرة، فالمجدُ لطولِ أناتِكَ!
يا أبانا البارّ بولس اليازجي..
ها عيناكَ تنبثقانِ مِن ثقوبِ صوْتي خاشِعتانِ، تُمَسِّدانِ بدَمْعِهِما شَعرَ طفولةٍ وأمومةٍ وكهولةٍ وشيخوخةٍ مضَمّخٍ بالدّمِ، تُرمّمان ِأقبيةَ حُزنٍ تَرَسَّبَ فوْقَ طواحينِ الوَقتِ المُهشّمةِ، براحتِكَ اليُمنى تَهُشُّ عرائشَ اليأسِ، وتَدُسُّ قلبَكَ خلاصًا مُقدّسًا في صدورِ عرائسِ المَنفى، وتَمسَحُ عن وجْهِ التُّرُهاتِ أنفاسَ المُتعَبينَ المَغموسةَ بنبْضِ النّارِ، يَترَعْرَعُ الرّجاءُ في شفتيْكَ، وتَطبَعُ قبلةَ حنينٍ على جَبينِ سوريا الحبيبةِ، وأسمعُ صوتُكَ هاتِفًا:
سوريا أيا آخرَ عذراواتِ الموسيقا المُهَلِّلةِ بالشّعرِ/ ويا وَريثةَ الكرامةِ والخُلودِ، مَنْ أباحَ عِطرَكِ المُعَتَّقِ في جِرارِ الياسمينِ والبنفسجِ/ ليَتطايَرَ نخيلًا نحيلًا خاويًا مِن فِراخِكِ البَرَرة؟/ مَنْ أرْخى جُفونَ الحرْبِ على مُقَلِكِ المُدَمّاةِ بالخوْفِ والعُرْيِ وظِلالِ الضّلالِ؟/ بَنوكِ يَلِجونَ أزِقّةَ الضّياعِ/ يَتقَوّسونَ فسائِلَ خيْبةٍ/ يَتعثّرونَ في غَياهِبِ هَواجِسَ تَتلاحَقُ/ تَتكَثّفُ عُقْمًا مُتَعَكِّرًا على وجهِ الوطَنِ/ أيّتها الحبيبةُ سوريّتَنا/ أتيحي لنا الحياة!

1