مازال الكاتب عامر بشة يثري المكتبة التونسية ويسعى إلى تسجيل حضور في المشهد، من خلال استمراره في تجربته الروائية التي انطلقت في نهاية التسعينيات برواية «البعيد». واستمرت بأعمال أخرى منها «فيضان الثلوج» و«البرج» و«حورية الوطن» و»في غابة الإنسان» و«الإنسان والوحش» و«زمن المسخ» و»في حالة انتظار وخشوع تحت المطر» و«هروب معلن»، ثم تأتي هذه الرواية الجديدة لتكون إضافة أخرى لتجربته ولتجسد اهتمامه بالإنساني والاجتماعي، ونزعته إلى كتابة تلامس الجانب الوجداني لشخصياته الروائية وتنطلق منه. إن روايات عامر بشة هي رواية الإنسان في صراعه من أجل الحياة ومن أجل وجدانه… هي ذلك الاحتكاك بالحياة الذي يمس الجوانب الإنسانية، ولعل هذه الرواية لم تخل من هذا التوجه ولم تخرج عن الكتابة المؤمنة بالنفسي والإنساني في حياة الفرد…
الحبكة والحكاية
بعد اتمام قراءة هذه الرواية ترسخ في ذهني ما فيها من تشويق وحبكة سردية، فالكاتب استطاع أن ينجز عملا روائيا يناسب الرواية الكلاسيكية في بنيتها، فثمة هذا التشويق وتلك المخاتلة الروائية، التي تمسك بالقارئ وثمة تلك الصدمة السردية عندما نكتشف الخيط الرابط بين الأحداث. ويلقي لنا الكاتب المفاجأة السردية التي تبتلع كل الأحداث… إنها المفاجأة على طريقة القصة القصيرة، حيث تنقلب الأحداث في النهاية وتبعث الذهول.
ومن الطبيعي أن هذا التشويق لم يعد ذا بال في النقد الحديث، الذي تسلل إلى زوايا أخرى ووجد مضارب بحث أخرى فتحها له التجريب، لكن لا بد أن نسجل أن القارئ يتناول الرواية كحكاية قبل أن يتناولها كبنية خطاب، أو كمنظومة دلالات، وهو ما يعني محورية الحكاية وأهميتها في العمل الروائي، ذلك أن غياب الحكاية قد يخرج الرواية من روائيتها ويجعلها مجرد نص سردي.
قد يتقبل النقاد والأكاديميون رواية النص المفتوح، ولكن القارئ العادي سينفض عن الرواية إذا غابت الحكاية وغاب التشويق، ذلك أن الرواية تفقد جانبا من جماليتها ولذتها، لذلك أشيد في هذا العمل الروائي ببنية الرواية وما فيها من تخطيط سردي لشد انتباه القارئ وتشويقه ومن صمود حتى الصفحات الأخيرة في إخفاء اللغز السردي لها.
ينطلق بنا الراوي من مناخات طفولة غائمة، حيث خلود وشهرزاد ونادر زمن الطفولة، وحيث الحادثة المثيرة التي شغلتهم وهي حادثة مشاهدة رجل وامرأة في وضع غريب.. حصل هذا حين كان الأطفال بصدد ممارسة لعبة التخفي، وهي لعبة شعبية تنتشر عند أطفال تونس.
ونتابع حيرة خلود وهي لا تعلم شيئا عن الذي حصل وتحاول فهمه، ثم تمر السنوات وتدخل خلود وصديقتها صراع الحياة وينتهي زمن لعب الطفولة، وتطرح قضايا العمل والزواج باخفاقاتها وصعوباتها، وتعيش خلود خيبات عاطفية كثيرة حتى تأخذها العاصفة التي حلت حينما كانت ترافق صديقتها وزوجها وتنقل إلى المصحة للتداوي. في تلك اللحظات تكون المفاجأة وتجد خلود نفسها أمام خفقان الحنين فالممرض ليس سوى صديق زمن اللعب والمرح، وهو الذي صدمها بسيارته وهو الذي قام باسعافها.
«اذن أنت نادر صديقي
أجل أنا هو يا صديقتي»
وهو ما جعل الرواية تنتهي بشكل عاطفي رومانسي:
«لقد اشتقت إليك خلود كنت أعيش في حنين إلى لقائك
أنا أيضا اشتقت إليك نادر
كان الحنين إلى رؤيتك وإلى استرجاع ما عشناه في طفولتنا يخفق في ذاتي باستمرار عازفا موسيقى الحياة…»
تقنيات السرد
هذا الالتزام ببنية كلاسيكية للحدث الروائي لا يخفي حرص الكاتب على إثراء نصه بعناصر اعتاد كتاب الحداثة على توظيفها، ففي الرواية توظيف لتقنية التداعي الممزوجة بالرؤية من خلف ذلك أن الراوي لم يشارك في الأحداث واقتصر دوره على السرد…
«عائدة هي الآن إلى الشاطئ
عائدة بخطى حثيثة
وعندما أصل سأجد صديقتي شهرزاد واقفة أمام الخيمة…».
ففي هذا المقطع وفي غيره يتغير المتكلم فجأة ففي الجملتين الأوليين يتكلم الراوي، غير أن شخصية خلود تقتحم السرد في الجملة الثالثة، وهكذا يبدو السرد ممزوجا إلى درجة انعدام الحدود بين الراوي وبين الشخصية.. إنه سرد متداخل الأصوات.
سجلات القول
الرواية تبدو ذات طابع اجتماعي وعاطفي ولكنها لا تخلو من رسائل سياسية وتناول للشأن السياسي، ومثلنا في ذلك ما تطرحه قصة خلود مع أحد الذين خطبوها وكان سياسيا ويعدها باتمام مراسم الزواج بعد نجاح حزبه في الانتخابات:
«بعد الفوز في الانتخابات سوف يتغير الوضع، قليل من الصبر فحسب، في انتظار أن تفتح لنا الجنة أبوابها»، ثم يضيف، «لقد وعدني الحزب في الحقيقة بأن يمكنني من وظيفة راقية…».
غير أن هذه الأحلام تبخرت وتدهور معه وضع الرجل فسحبت منه المنحة والشاحنة التي كان يستخدمها في الدعاية. هذه الصفحات تكشف عن جملة من الظواهر السياسية أهمها الوهم السياسي الذي باعته الأحزاب لمنخرطيها وأنصارها، كما يكشف جانبا من العمل السياسي القائم على الاستقطاب بالمال وهي ظواهر على صلة بالمشهد السياسي المحلي…
كما تلوح في الرواية مسحة عجائبية ذلك أن الكاتب حاول توظيف تقنيات الخطاب العجائبي والإحالة إليها وهذا يظهر في مواقع عديدة منها اختيار المغارة كأحد الأماكن وطريقة تقديم الصوت الغريب:
«يتناهى الآن إلى سمعها صوت… كأنه ينبعث من فتحة المغارة وهي تهم بالنزول إليها فتتراجع قليلا
خلود
من من يناديني
فتسمعين جوابا تعالي خلود لا تخافي
إنه ينطق باسمي همست مشدوهة….
وختاما لا بد أن أؤكد على ما في هذا النص من تعدد خطابات وما فيه من انغماس في الواقع المحلي فهو حكاية ولكنه جملة من الرؤى والصرخات وهو خطوة أخرى في مسيرة الكاتب الروائي عامر بشة…
رواية «خفقان الحنين» للتونسي عامر بشة: مغامرة النص ومغامرة الحياة!!
بقلم : رياض خليف ... 31.01.2016
كاتب وناقد تونسي