بعد أن تغذت الرواية العربية والتونسية خصوصا، بتاريخ المنتصرين والسلطويين، تشهد السنوات الأخيرة توجها بارزا نحو كتابة تاريخ روائي ينتصر للمقموعين والمهزومين، ومن رفضهم التاريخ الرسمي ولفظهم ومنع سردياتهم.
وبما أن الرواية لا تستطيع كتابة التاريخ في حقيقة الأمر، وعليها تجنب مطابقة النص المرجعي الرسمي، فقد اتجهت إلى الذاكرة الجماعية تدور على هامشها وتلتقط ما تورده من تفاصيل منسية عن أزمنة غابرة.
وتأتي محاولة الكاتب محمد الصغير العموري في روايته «اليامنة» ضمن هذا الإطار.
«اليامنة»
حكاية الرواية استوحاها صاحبها من ذاكرة مخصوصة وهي ذاكرة الأهالي في فترة معينة من تاريخ البلاد التونسية. وهي تروي أحداثا في فضاء ريفي، هو بعض أرياف الرقاب والجهات المجاورة لها. فإذا نحن بين جبالها وأوديتها نجول في مضاربها (واد اللبن/ واد ران/جبل المطلق/جبل قبرار/ فولاب/ السكبة/ الرضاع/ عين رباو/ فايص، إلخ). فالرواية من هذا الجانب تدور في فضاء محلي حميمي خاص هو فضاء الكاتب الخاص الذي يعيش فيه، ولعل هذا يعيدنا إلى مقولات، دور السرد في الحفاظ على الهوية.
يتعرض الأهالي إلى بطش أعوان الباي وسلبهم، لهم وتشريدهم في جهات مختلفة ثم يعودون بعد زمن إلى مواقعهم. وبينما هم يتأهبون لاستعادة نمط حياتهم يبلغهم خبر توقيع اتفاقية الحماية بين الصادق الباي وفرنسا، فيحزنهم ذلك، ويشرعون في الاستعداد للانتفاض على الباي وعلى المستعمر في آن.
في ظل هذا الوضع يصيغ الكاتب حكاية حب المنسي ـ الشاب الذي اختطفه رجال الباي وجنوده، ثم فر بعد وصول الاستعمار وعاد لأهله ـ واليامنة التي قتل والدها الرجبان من طرف رجال الباي، وتم سبيها وفرت بدورها إلى أحد مقامات الأولياء في توزر وعادت بعد الاحتلال ـ واستعدادهما للزواج والانطلاق في العمل المقاوم.
ففي لحظة الاتفاق على الزواج اتفاق على المقاومة، وهذا الأمر له دلالات كثيرة. فالزواج يغدو حلقة اتصال ووحدة بين القبيلتين من أجل الوطن، بل هو تكاتف كل القبائل والعروش وانصهارها مقاومة للمستعمر.
تقول اليامنة للمنسي لحظة الاتفاق:
«ثأري كبير وفي أي وقت تضطرم شرارة المقاومة وتستعيد جذوتها ستكون في ميدانها يا منسي وسأكون هناك».
وتختتم الرواية بمشهد رمزي: «وسحب الرصاصة من جيبه، رصاصة الفرنسيين الثلاثة ووضعها في كف اليامنة، فأطبقت عليها إطباق عزم وتصميم». عندما نتأمل في هذه الحكاية ندرك أنها محاولة لتخييل تاريخ هذه الربوع، وهذه الفئات الاجتماعية في أواخر سنوات البايات وبدايات عهد الاستعمار بعد توقيع الحماية.
والروائي طبعا لا يكتب التاريخ المرجعي ثابتا ولكنه يتخيله ويستوحى منه. فهو يمارس نوعا من التطريس ويشتق من النص التاريخي نصا أدبيا لا يحتمل التصديق أو التكذيب يحافظ على ملامح المرجعي لكنه يختلق له شخصيات وأحداث وتفاصيل دقيقة. ولعل هذه الكتابة الروائية للتاريخ تميل عادة إلى الاستنجاد بالذاكرة الاجتماعية وما فيها من تفاصيل لم يدونها التاريخ الرسمي الذي اقتصر على تدوين تاريخ المنتصرين وممن أصبحوا في السلطة مشيدا بهم وبخصالهم، وتلك ميزة من ميزات كتابة التاريخ عموما. لكن الجهات المنسية ظلت تبحث دوما عمن يكتب تاريخها ويسجل دورها التاريخي. وفي هذا الإطار تأتي كتابة هذه الرواية لتستجيب لذاكرة هؤلاء. فمحمد الصغير العموري ينهل في هذه الرواية من ذاكرة المقموعين، انتصارا لهم.
تصور الرواية ذاكرة المقموعين في مستويات عديدة:
ـ المستوى الاجتماعي بما في ذلك من حياة بدائية صعبة، ومن حياة ترحل سنوي نحو الشمال، ضمن ما يعرف في المجتمع بالهطايا. فإذا نحن مع الهطايا في مساربهم وقوافلهم وأيامهم وقطاع الطرق ومعاركهم معهم. وإذا نحن أمام حياة بدوية، لا تخلو من كرم وجمال على صعوباتها. ولعل الرواية هنا تنهل من أنثروبولوجيا المكان، بوصفها ملامح الحياة الأولى، فإذا نحن أمام وجوه كثيرة من هذه الحياة، أدوات وملابس وطقوس وأقوال مسكوكة مثل، الأحاجي ومواسم مثل زردة سيدي المثناني.
ـ المستوى السياسي: تصور الرواية في هذا المستوى الوضع في العقود الأخيرة من حكم البايات، فإذا به حكم قاس يمارس العنف على المتساكنين، ويسلبهم أملاكهم ويشردهم ويضبط نفوذه بالقوة: «صودرت حلي النساء، القليل من ذهب وفضة وأكثر الجمال، وما بقي من الحبّ، إلا شيء قليل يقيم أودنا وجلّ الخيول وبعض البغال والحمير ونصف القطيع وجاء الأمر بالانطلاق بكل ذلك نحو أرض القيروان، وهناك نسلم ما دوّن في الدفتر والويل إن ضاع رأس.. وتحت التلويح بالسيوف والسياط جهزت القافلة وبدأت تدب شمالا تعترضها ريح ما فتئت تزداد جدة في حين انطلق آخرون بالشبان المقيدين جنوبا نحو معسكر المحلة». ثم تتواتر الأحداث ويسلم نظام البايات البلاد إلى الاستعمار إثر اتفاقية الحماية وهو ما آثار الناس. «البلاد ماجت بطولها البلاد وعرضها أمام الصدمة الجدية التي أحدثها الباي، بقبوله التوقيع على ما قرأه عليه قائد عساكر فرنسا».
في هذه اللحظة تعبر شخصيات الرواية عن تبرمها وتشرع في الاستعداد للمقاومة، والرواية هنا تكتب شيئا من تراث المقموعين على الباي والاستعمار، من خلال الإشارة إلى ثورتي علي بن غذاهم وعلي بن خليفة. ولعل الكاتب يسجل من خلال هذا صورة الهامش الثائر أو المظلومين والمقموعين، الذين ثاروا لأجل الوطن رغم ما تعرضوا له…
هكذا جاءت رواية «اليامنة» ضاربة في التاريخ المعاصر، ملامسة تلك الخدوش والجراح، جراح المقموعين وقد قمعتهم سلطات البايات قمعا فظيعا، ثم استسلمت وسلمت البلاد للمستعمر، وهي في الوقت منتصرة لضمير هؤلاء الذين قاوموا بما أوتوا وبذلوا الثمين والنفيس في سبيل الوطن رغم فقرهم. والرواية إلى ذلك جميلة اللغة والأسلوب سرعان ما يلتحم القارئ بها وبشخصياتها وهي تضرب في تلك الربوع الجميلة وتخوض صراعها الروائي.
رواية «اليامنة» للتونسي محمد العموري: ذاكرة المقموعين!!
بقلم : رياض خليف ... 11.10.2024
*كاتب تونسي