لا أحبذ أن أضم رواية «تعويذة العيفة» لتوفيق العلوي الصادرة هذه الايام عن دار زينب في تونس إلى روايات أدب السجون، رغم انتساب بعض مفاصلها لهذه النوعية من النصوص، ورغم حضور القمع بين طياتها، ذلك أن هذا الأمر قد يعزل الكثير من خصائصها الفنية ومضامينها الدلالية ويحصرها في مجال ضيق…
فهي رواية ذات صلة كبيرة بالواقعية لارتباطها بفترة محددة من تاريخ المجتمع، ويمكن أن ندرجها في مجال أدب وروايات الإفراج عن الذاكرة الحية، وهو مصطلح أعني به الأعمال السردية التي ظهرت بعد سقوط النظام، والتي اتجهت نحو الذاكرة لإفراغها مما كانت تختزنه من ذكريات وحكايات ممنوعة سياسيا، لا من باب الشهادة التي تحيل إلى محاولة توثيق، وإنما من باب الأدب الذي يعتمد الخيال والمشابهة ويلتقط الصور ويصيغها في سياق خيالي فني… ولعل هذه الرواية تندرج ضمن هذا المسار، فهي تطرق جانبا من المسكوت عنه وتكشف وجوها من معاناة المبدع والمثقف والمتعلم عموما… فالراوي الذي اتخذ من العيفة شخصية رئيسية مر بنا على صفحات من معاناة الطلبة الفقراء وحملة الشهادات العلمية وأصحاب الطموحات الإبداعية وأطل بنا على فضاءات متنوعة كاشفا الكثير من الزيف والظلم والحرمان والانكسار… والحقيقة أن باب هذه الرواية مشرع للدخول إليها من مداخل عدة من عتباتها أو بنيتها أو تركيبها، ولكنني اخترت دخولها من لعبة سردية مهمة تكررت فيها وبدت لي تحمل نوعا من الطرافة، فلعبة تزييف الأسماء تشكل مدخلا مهما لهذه الرواية، ذلك أنها تكررت في مواقع كثيرة من الحكاية حاملة معها سياقات ودلالات متنوعة… إنها لعبة تخف وتقنع، اشترك في نحتها الراوي والسياق الاجتماعي، فلم تكن مجرد حركة نصية، وإنما كانت محركا أساسيا للحبكة السردية ومولدة للأحداث والشخصيات… فكيف انتظمت هذه اللعبة السردية وما هي دلالاتها وإيحاءاتها؟
يتعلق التزييف الأول بشخصية العيفة الهويمل، وهي الشخصية الرئيسية في هذا العمل، التي تلعب أحيانا دور الراوي- وهذا حديث آخر- وهو خريج جامعي وروائي صاحب جملة من الروايات منها رواية «حذاء السجان» يضطر إلى إصدار أعماله في فرنسا تحت اسم «روائي مجهول»، ولعل هذا الأمر يحيلنا إلى ظاهرة حقيقية في الساحة الأدبية، وهي ظاهرة الأعمال المجهولة التي اضطر أصحابها للتخفي خوفا من السلطات السياسية والاجتماعية، وهروبا من القمع، ولعل اضطرار العيفة لهذه العملية إشارة إلى المرحلة القمعية التي عشناها في ثوبها القديم. وإشارة إلى جهود عدد من المثقفين الذين حاولوا طوال سنوات كشف المستور واتخذوا من الموضوع الحقوقي مدخلا نضاليا، ولعل رواية «حذاء السجان» تحمل بدورها هذا المدلول. أما السبب الثاني للتخفي فهو عقدة شخصية وخوف من السخرية من هذا الاسم لما يحمله من مدلول اجتماعي ناتج أساسا عن فعل «عاف»… فالعيفة اضطر للعيش مغتربا عن أعماله الأدبية رغم نجاحاتها، وهو ما يحيلنا إلى اغتراب المثقف، من دون أن ننسى أن الاسم الحقيقي في حد ذاته يحمل دلالات أخرى، فهو المنبوذ والمكروه والمنسي والمهمل وهي إشارة لوضعه الاجتماعي من جهة ولصورة المثقف في هذه البلاد من جهة ثانية…
أما التزييف الثاني فاعتمدته الأجهزة الداخلية للدولة التي قدمت شخصا ثانيا زاعمة أنه المؤلف المجهول، وقد تمتع بالدعاية الحكومية ونال حظوة وتم تكريمه مرارا، ولعل هذه العملية تكشف لنا بتتبع مراحلها عن خور كثير في المشهد الثقافي الذي يغيب المبدع الحقيقي ويملأ الفراغ بشخصيات وهمية… وهذا يحيلنا إلى صورة مثقف السلطة وما يمارسه من تزييف وادعاء وما يناله من اهتمام.
أما التزييف الثالث فطابعه اجتماعي ويتعلق بمريم التي أعطتها العائلة اسم اختها راضية المتوفاة عشية نتائج السيزيام قبيل إعلان نجاحها، وقد التجأت العائلة إلى تبادل الاسماء وتسجيل راضية في قائمة المتوفين وتمكينها من مواصلة الدراسة بوثائق اختها الناجحة فعليا… فمريم تحمل اسم اختها المتوفاة لاختيار عائلي، وهذه ممارسة اجتماعية، لكن ظهور مريم في صفة المسؤولة ثم الصحافية ثم تبين اشتغالها بالمخابرات يجعل من هذا التزييف حاملا لمعاني أخرى أشد عمقا…
وأما التزييف الرابع فارتكبته راضية ابنة مريم والعيفة، التي أخذت بدورها اسم امها القديم حين شاركت في مسابقة مدرسية وكتبت لقب صديقتها على الورقة تهربا من لقبها الحقيقي…
…انها لعبة الاسماء تدور على مفاصل الرواية تزداد غموضا ثم تنكشف في الصفحات الأخيرة فتنكشف معها الأدوار والألاعيب وتسقط الحجب وتلوح الحقائق الموجعة ويقاد العيفة إلى السجن جراء انكشاف علاقته برواياته…
ليس الحديث عن لعبة الاسماء المزيفة إلا محاولة للاقتراب من تعويذة العيفة وفك طلاسمها وملامسة سريعة لقضاياها التزاما بمساحة النشر، وما من شك أن هذه الرواية تستحق المزيد من البحث والنقد، فرحلة العيفة متعددة الوجوه: هي رحلة سردية وميتاسردية وهي رحلة سياسية واجتماعية ووجودية وثقافية يكشف من خلالها توفيق العلوي عن قدراته السردية وقدرة قلمه على التقاط اليومي وتخزينه في الذاكرة وإعادة صياغته ليكتسب أدبية ولتتسع دلالاته….
رواية «تعويذة العيفة» لتوفيق العلوي: لعبة الأسماء المزيفة!!
بقلم : رياض خليف ... 05.03.2016
كاتب تونسي