قرأتُ كتاب " مرايا الأسر" - قصص وحكايا من الزمن الحَبيس - للكاتب الفلسطيني حسام كناعنة، الصّادر عن "دار فضاءات" للنشر والتوزيع الأردنيّة وهو يحوي في طيّاته 232 صفحة من الحجم المتوسط .
حسام من مواليد عرابة الجليليّة ، سجين محرّر من السجون الاسرائيلية بعد أن قضى محكوميته أربعة عشر عامًا .
كتابه عبارة عن قصص قصيرة وخواطر وشطحات تصوّر معاناة الأسرى الفلسطينيين في غياهب سجون الاحتلال وعزلتهم عن العالم الخارجي، فيؤنسن أوجاعهم وآلامهم وهمومهم اليومية الصغيرة/الكبيرة ، ويصوّر أحزانهم وما يلوج في صدورهم تلك الساعات المقيتة الثقيلة خلف القضبان بكاميراته ونطرته الثاقبة.
أدب السجون هو أدب يُعنى بتصوير الحياة خلف القضبان، يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يومياتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إذا صح التعبير، رواية السيرة الذاتية. وأخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنك إن فعلت، صارت رقبتك بيد جلادّك، وصرت تتقبّل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنها قبلة في خدّ الرضى، وقيل: ليسَ على هذه البسيطة، مخلوقٌ أشدُّ قسوةً وهمجية من الإنسان !
يُعنى أدب السجون بالأساس بالمواطن المقموع، وأبرزهم السجين السياسي المثقف الذي يسعى إلى التغيير. "شرق المتوسط" للروائي عبد الرحمن منيف تعتبر أول رواية عربية تنتمي لأدب السجون، وبفضلها تجرّأ الكتّاب على التطرّق لهذا النوع من الأدب، حيث تلاها سيل من الروايات التي تُصنَّف تحت أدب السجون. تناقش الرواية الاعتقال السياسي، والقمع في الدول العربية دون تحديد أسماء أو مدن، لذلك كل عربي يقرأ هذه الرواية أياً كانت جنسيته، يشعر وكأنها تتحدث عن بلده، فالقمع هو الشيء الوحيد الذي يجمعنا، علامة عربية فارقة مطبوعة على جبين كل المدن، معلّقة على أبواب البيوت، موجودة في كل مكان، في الشوارع، البيوت، الغرف، وقد تجدها في جيوبنا أيضاً.
"أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع صوت الصراخ الإنساني ليلًا ونهارا" مصطفى خليفة.
في روايته "القوقعة" جسّد لنا مصطفى خليفة قصة سجنه وتعذيبه طوال 13 عاما في السجون السورية، بعدما تم القبض عليه في مطار سوريا أثناء عودته من فرنسا، وظل طوال هذه السنين يُعَذَّب بكافة أنواع واشكال ومفاهيم التعذيب، النفسية والجسدية، دون ان يعرف التهمة الموجهة إليه ومن المضحك حقاً أن مصطفى خليفة (المسيحي) تم سجنه بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
وها هو حسام يصوّر حياة الأسر وهو داخله على امتداد مئة وأربعة عشر مشهدًا بانوراميًا وخاطرة، صوّر حياته وحياة زملائه الأسرى اليومية ، لكل منها عنوانها المُمَيَّز وموضوعها، وتصبّ في وصف تلك المعاناة اليومية للأسير ، مثال العزلة (الغُرفة ص 36 ، عُمر ص 39 ، أمنيَة ! ص 43) والشعور بفقدان من يحب دون وداع (أبو الهول ص 169 ، شمعةٌ في السجن ص 172 ، ذهب الذين نحبُهم ص 173) ونقلهم من قسم إلى أخر داخل السجن للتعذيب (الرحّال والمُقيم ص 37).
"نعم، كانت معنوياتنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتنا هي أن نموت ميتةً فجائيةً تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين ينقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة " هذا ما كتبه أحمد المرزوقي في روايته " تزممارت، الزنزانة رقم 10 " والذي يروي معاناة 18 عاما داخل السجن لتورطه في محاولة انقلاب ضد ملك المغرب الحسن الثاني، فشلت المحاولة وتمت محاكمته عسكرياً، وترحيله إلى سجن تزممارت وهناك تلقى أشد أنواع العذاب. الرواية مؤلمة جدًا، ومن ضمن المواقف المؤلمة التي يتعرّض لها الكاتب، ان يوضع في قبر مظلم، ويُعطى الفتات والماء المُلوَّث طيلة 18 عامًا ، لا يرى أحدا ولا يعلم بمكانه أحد !!! ما يتنافى مع قوله تعالى عن الأسرى في كتابه العزيز: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . [الإنسان: 8]
يصوّر حسام المعاناة ومنع العلاج الطبّي للسجناء، ففؤاد يُحرَم من عملية زراعة قرنيّةٍ في كلتا عينيه رغم أنه محكوم بالسجن ثلاثون عامًا (الأعمش ص 24) أو يُحرم من علاج خلل في أداء الغدّة الدرقيّة (المريض مُعافى حتّى يُثبتَ العكس ! ص 129، عيادة السجن ص 131) أو يُحرم من علاج مرض السرطان ليموت (أبو طارق ص 174).
كتب أدب السجون أيضا، من رصدوا تجارب سجناء عرفوهم. "تلك العتمة الباهرة" كتبها طاهر بن جلون ، وهي رواية أخرى تتحدث عن معتقل “تزممارت” ، تروى مأساة أحد السجناء الذين تورطوا في انقلاب الصخيرات، وهو السجين عزيز بنبين، الذي قضى عامين في السجون المغربية، ثم نُقل إلى جحيم تزممارت ليقضي فيه 18 عاما آخر و يوثّقها هذه المرة طاهر بن جلون، فبعد خروج عزيز من سجنه ذهب إلى بن جلون وأدلى بوجعه ومأساته له، طالباً منه توثيق هذه الأحداث بقلمه، وبالفعل جسدها جلون بشكل لا يُصَدق ومن شدة تأثر جلون بما حدث لعزيز، تنافيًا مع قول الرسول (ص) "استوصوا بالأسرى خيرا"، ذكر أنه كان يرتجف ويتصبب عرقاً وهو يكتب الرواية ، وكانت تعتريه لحظات من البكاء الهيستيري جراء الآلام النفسية التي تعرض لها عزيز ومن معه.
يصوّر حسام الخلافات والنزاع وحالة التشرذم والصراعات الفئوية والتنظيميّة بين فصائل المقاومة داخل السجن رغم أن هناك عدو غاشم مشترك (سَواسِية أمامَ المُعاناة والحِرمان ص 18، لا تكن كالدجاج ص 32 ، جُهَينَة ص 77) ليصل إلى نتيجة حتمية "علينا ألّا ننسى أن لنا عدُوًّا مشتركا يتربّص بنا، حين يأتي ليقمعنا .... هراواته لا تُفرّقُ بيننا" (كُلّنا في الغاز سواء ص 92) ولهذا تكون ضرورة للتكاتف من أجل صراع ونضال مشترك لنزع الحقوق الأساسيّة من السجّان ويصوّر حسام تلك المعارك الصغيرة/الكبيرة ضدّ سجّانه.
"يا صاحبيّ السجن" للروائي الأردني أيمن العتّوم، والتي يروي فيها الفترة التي قضاها في سجون الأردن في مطلع التسعينات، رائعة إلى حد لا يوصف، وأكثر ما يميزها هو أن الكاتب قام بتقسيم الرواية لفصول، وقام بتسمية كل فصل بآية من آيات القرآن الكريم، ولا أبالغ إن قلت إن الرواية تجعلك تشتهي السجن ولو ليوم، ليس لرفاهيته بالتأكيد، وإنما لروعة الخلوة بالنفس التي صوّرها الكاتب بإبداع! وكاتبنا حسام يصوّر الدور التثقيفي في حياة السجين وتخطيطه لتنفيذ الحلم.
بلغته السهلة الانسيابيّة وأسلوبه نجح حسام بتصوير واقع الأسير، يومياته، تخبُطاته، هواجسه، أفكاره، تساؤلاته، أمنياته، مشاعره، قلقه، ترقُّبه وانتظار يوم الإفراج والحرية.
يصوّر حسام في قصصه وحكاياته معاناة الأسير اليوميّة، دخوله الأسر وتأقلمه مع زملائه الأسرى، مشاكل وصعوبات زيارة الأهالي، التواصل مع العالم الخارجي، التغذية داخل القضبان، أزمة العلاج الطبّي وشتى وسائل التعذيب النفسية والجسديّة التي يتعرّض لها الأسير، بعيدًا عن المزاودات والشعارات البغيضة.
وأخيرًا، لفت انتباهي غيابُ الفنّان صاحب صورة الغلاف ولم يُنصفاه حسام والناشر ولم يُعطِياه حقَّه وتساءلتُ: لماذا ؟؟
تحية خالصة وخاصة لجميع أسرى وأسيرات الحرية في السجون آملاً لهم إفراجا قريبا
قراءة في كتاب مرايا الأسر لحسام كناعنة !!
بقلم : حسن عبادي ... 23.02.2017