أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
سليمة عذاوري الناقدة التي قالت كلمتها ومضت!!
بقلم : واسيني الأعرج ... 04.01.2023

كلما انتهت سنة وحلّت سنة جديدة، بحثت في أرشيفي عن أجمل لحظات العمر وربما عن أصعبها. فتصدمنا أحياناً وثائق ظلت مخفية زمناً طويلاً، عندما نفتحها نتدحرج فجأة في ألم يتخطى قدراتنا على التحمل.
تمر اليوم الذكرى 14 لعودتي إلى الحياة والكتابة من جديد بعد أن قرر القلب أن يتوقف نهائياً من شدة الإنهاك لأني لم أرحمه قط. منذ ذلك اليوم أصبحت أقيس جدوى صحتي وعمري الحقيقي بقدرتي على الجلوس على كرسي في مكتب متواضع، والكتابة. جئت اليوم للحديث بتواضع وانحناء عن شخص آخر خرج من هذه الدنيا في وقت مبكر، عن الدكتورة سليمة عذاوري، طالبتي (ليسانس، ماجستير والدكتوراه) ومساعدتي في التدريس في أوقات غيابي خارج الوطن، قبل أن تصبح أستاذة محاضرة في جامعة بومرداس (بودواو)، وتختط مسلكاً نقدياً مهماً بمؤلفاتها الفارقة في مسألة التلقي النقدي العربي، والتناص، ونظرية التأويل، وشبكة القراءة، والمؤثرات الثقافية، وأسئلة ما بعد الحداثة…
عثرت وأنا أفتش في وثائقها على هذه الرسالة التي كتبتها يوم علمت بوجودي في العناية المركزة، على حافة موت قريب بعد أن كاد قلبي يتخلى عني. نشرتْها في جريدة الخبر بتاريخ 31-03-2008، عبرت فيها عن وفائها وصدق مشاعرها. مسّتني سليمة بكلماتها في العمق، وجعلت لغتي ترتبك، ولم أتمالك من كتم شهقة الألم. وهذا جزء من تلك الرسالة التي حملت عنوان «رسالة إلى واسيني في مستشفى كوشان سان-فانسون/ باريس»:
«ربّما يتساءل الكثيرون: كيف يمكن لرجل أن يتواجد في كلّ مكان، أن يدرّس في الجامعة المركزية، وفي السّوربون أيضاً، أن يكتب روايات طويلة النّفس، أن يحصل على الجوائز الكثيرة، أن يتعامل مع الصّحف العربية والأجنبية والتلفزيون و.. و.. و… هل هو جنيّ؟ أم رجل مسحور؟ أم أنه يملك وقتاً لا يملكه الآخرون؟ سيكفي جواباً أنّ واسيني ينام الآن في المستشفى في باريس، بكلّ بساطة لأنّ قلبَه قرّر في لحظة تعب أن يتخلّى عنه لفرطِ ما أنهكه وسرق من نبضه الكثير ليمنحه للآخرين. أتساءَل في الغفوات الصّادقة إن كانوا كلّهم يستحقّون ذلك؟ أجزم أن الكثيرين منهم يتشفّون الآن وينتظرون خبر الموت ليركضوا نحو المقبرة لتأدية واجباتهم الأخيرة. قد يكون كلامي قاسياً، ولكنّه في صلب الحقيقة… ما يزال واسيني يظنّ الخير في كلّ البشر. أليسَ هو صاحب شعار: «كل النّاس طيّبون حتى إشعار آخر»، وهو لا يدري أن الضّغائن تولد معهم في شكل نظرات مريبة، وأحقاد صغيرة تكاد لا تُرى، وحسد غير مبرّر، وغيرات شديدة لكل ما لا يشبههم قبل أن يتحوّل ذلك إلى قنبلة موقوتة في دواخلهم. واسيني.. رجل يأتي إلى الجامعة المركزية كل صباح بعينين منكسرتين وجسد يحاول أن يجعله نشطاً وحيويًّا. ينزل من السّيارة قبل أن تدبّ الحياة في الجامعة، لأنّه استيقظ باكراً؟… يكتفي بساعات قليلة يسرقها من نهايات اللّيل وبدايات الفجر… نصف حياته مرهون لشخصيّات يصنعها من البنفسج، وورق الحلفاء، وعطر المواسم، ثم يصدّق أنها موجودة، فيحبّها، يضعها في قلبه وعينيه، ويخاف عليها، يقول إنّها هشّة ولا نصير لها في الحياة غيره. ثمّ يحكي عنها طويلاً؛ عن مشقّة العيش، وعن تفاصيل حياتها الدّقيقة كما يفعل أجداده الأندلسيّون عندما يجلسون وراء برّاد الشاي ويبدأون سرد الخفايا وقصص العشّاق. جدّه الذي شقّ البحر إلى نصفين كسيّدنا موسى، ومشى على الماء من «ألْمٍيريا» حتى «سيدي يوشع»، كان يفعل ذلك بحماسة… يأتي صباحاً حتى حين لا يكون مرتبطاً بالتّدريس، لأنّ الجامعة محطّة ضروريّة ويوميّة تشبه الأكل والنّوم، ومقهى نشأت فيه أجمل الأحاديث وأكثرها صدْقاً. يبدأ يومه بلا مواعيد، ولا قرارات معيّنة، ولكنّه لا ينهِيه إلا بعد أن ينصرف الجميع، لأنه سيجد دائماً من يحتاج إليه، وهو لا يستطيع أن يصمّ أذنيْهِ ويدير ظهره. أمه الطّيبة، المليئة بالأشواق الدّفينة، التي لم تشبع من وجهه، لم تعلّمه كيف يدير ظهره… واسيني كان يعلِّم الناس أن يحبّوا كلّ ما يقومون به، ويتجاوز بروح سخيّة كلّ ما يقال ضدّه، ويتصرّف مع الجميع بالتّساوي، حتى حين يعرف أن الخديعة تتخفى خلف بعض الوجوه المبتسمة.
رقدته في المستشفى، وقلبه الذي قد يتوقف في أي لحظة يحتاج إلى وقفة أمام إنسانيته ومحبّته، كيف؟ حين يطلب من طالبته أن تكمل رسالتها، ويرجوها أن تفعل ذلك بسرعة لأنه لا خيار لها كامرأة سوى أن تنجح في مجتمع ذكوريّ اختلت فيه كلّ الموازين… كنت طالبة تعملُ عملاً بسيطاً لا يوفّرُ لها إلا مصروف المواصلات وتصوير الكتب. كان يأخذ منها كلّ الوقت الذي يمكن أن تكملَ فيه رسالتها. متأزمة نفسياً كانت، لأنها تشعر بضيق الوقت الذي يفرض عليها قانونياً للمناقشة. يطلُب واسيني منها أن تتوقف عن العمل مقابل أن يدفع لها راتِبها الشهري لمدّة معينة إلى أن تنتهي من رسالتها. تستغربون؟ لقد حدث هذا هنا، في جامعتنا الموقرة، وفي بلدنا الذي يتقاتل فيه النّاس على البطاطا والبصل، وينسون أن الإنسان ليس معدة بل رأس بفكّر أيضاً… لقد ناقشت الطّالبة رسالتها (الماجستير)، وتحصّلت على علامة جيّدة، وأصبحت أستاذة، وعاد إليها بريق عينيها وثقتها في نفسِها. لم تكن جميلة بالقدر الذي يهزّ العابرين أمامها، ولم تكن غنيّة حتى نتّهمه، ولم تكن مُتسَيِّبَةً حتّى نتهمها. كانت طالبة، ولم يكن أكثر من أستاذ، عفواً كان أكثر من ذلِك؛ كان إنساناً. هل سأحكي أيضاً، وأفضح أسراراً أعرِفها؟ عن طالِبه المسكين… الذي لم يكن يملك ثمن الانتقال من مدينته إلى الجامعة، ولم يكن يملِك ثمن العصير الذي يقدّمه للحضورِ بعد مناقشة الماجستير. لم يشتكِ الطّالِب يوماً، ولكن واسيني كان يحسّ بآلامِنا الصّغيرة ومآزِقنَا. لم يقل شيئاً، أعطى لإحدى الطّالبات مبلغاً ماليّاً كبيراً، وطلب منها أن يُقام للطّالِب الاحتفال الذي يليق به ويجعله سعيداً. وألحَّ ألا يعرف طالِبُه شيئاً عن مصدر المال… هو ذا يدفع اليوم ثمناً غالياً في عزلة لا شيء فيها إلا ابتساماته التي تنكسر على بياض المستشفى، والأطبّاء الذي يتوقّفون عند رأسه قليلاً، يطمئنونه، ثمّ يمضون نحو مريض آخر. الحبّ قد يقتل أحياناً، أليس هذا كلامه؟ … عليه أن يُشفَى، ليس من أجل عائلته الصّغيرة، ولا من أجل قرّائه في كلّ أراضي الدّنيا، أولئك الذين يعرفونه ولا يعرِفهم، ولا من أجل طلبته الذين يحزنون من أجله، ولا من أجلِ كتُبِه ومشاريعِه المقبِلة. ليس لكلّ هؤلاء فقط، بل لأنّ الحياة نفسها تحتاج لإنسانيته التي تذيب الصّدأ عن النّفوس… من أجله هو فقط الذي كان يقول: الحياة ليست هبة فقط، ولكنّها استحقاق أيضاً، وهو يستحقّها… يقف اليوم على تلك الحافة المخيفة بين الحياة والموت. لو كلّفنِي واسيني، سأطبِّقُ عليه أمنية نيكوس كازانتزاكي، وأشحذ من أجله على الأرصفة بعض العمر من المارة، من هذا ساعة، من تلك يوماً، من آخر شاب مليء بالحياة، شهراً كامِلاً، وعندما أعود في المساء إلى البيت، أجمع الثّواني والسّاعات والأيّام والشّهور وربّما السّنوات، وسأمنحه بعض عمر يسمح له بالكتابة أكثر. من أجل هذا الرّجل الذي ينام اليوم تحت الرّقابة الطّبيّة المشددة، وهو الذي سخر دائِماً من الرّقابة ولَعنَها ورفضَها بعنادٍ شديد، أكتُب… «
الناقدة الدكتورة سليمة عذاوري، قالت كلمتها ومضت. فقد توفيت في 23 يوليو / تموز 2018، بالضبط بعد عشر سنوات من كتابة هذه الرسالة، إثر مرض عضال، في عز عطائها النقدي والفكري. أتذكرها اليوم لأقول لها شكراً لك، فأننت هنا دوماً، وشكراً للصدفة التي لاقتني بك وبرسالتك وبجهدك الفكري. وعد أخير منّي: سأجيب عن أسئلة حوارك الطويل الذي بدأناه ولم ننهه بسبب المرض.

*المصدر: القدس العربي
1