(قصّة؛ ليست من بنات الخيال!)
اتّخذ الرجل الستينيّ حجرًا على جانب الطريق الترابيّ، علّه يأخذ عنه بعض آلام جسده؛ رجليه المتعبتين حدّ الإعياء، وقدميه المنازعتين حذاء مهترئا ضاق بحشوته كاشفًا بعض أجزائها وقد فعل بها طول مسير فعله خدشًا؛ فتقاطعت الخدوش مشوّهَة الألوان بين الأسود والأحمر والأكثر احمرارًا. كان مرفقاه يتّخذان من ركبتيه متّكأ وتوسّدت رأسه المكسوّة بحطّة سوداء باهتة كفيّ يديه، وعيناه تصبّان في نقطة ما على الأرض بين فخذيه المنفرجتين لا يرى ما فيها وما حولها.
معطفه الصوفيّ غزاه التمزّق في أكثر من مطرح. "قمبازه" المخطّط؛ أسود وأبيض، مترامٍ الأطراف حول الحجر مفترشٌ التراب حوله كيفما اتُّفِق، ولم تكن تقّل معاناته من التمزّق عن معطفه. وطال جلوسه دون حراك.
نجيبة فتاة في مقتبل العمر كانت تجمع، على عَجلٍ، ما تيسّر من الحطب عند "كعْبْ" البيّادر، وكانت رأت الرجل الغريب عن بعدٍ فتابعته، كان ناظراها يتنقّلان تباعا بين الرجل وأعواد الحطب التي تلمّ حثيثًا، فأمّها تنتظرها لإطعام الموقدة قبل أن يفور العجين.
كانت حطّت في البلد قبلًا أسرة ملتجئة قبِلها أهل البلد رغم تخوّفهم من كلّ رِجْلٍ غريبة، وخصوصًا في الظروف التي كانت تحيق بالبلاد؛ "قيامِه وقايمِه". لم يفتّشوا عن أصل العائلة وفصلها وما وراءها، مكتفين بقول ربّ العائلة مِتعب المِتعب المقتضب: "نِحْنَ من سوريا... ظاقت عْلِينا بلادنا... وِحْسبونا ظيوف حتّى يفرجها الله... وما راح تشوفوا منّا أسيّة.".
كان يلفي على العائلة بين فترة وأخرى قريبٌ اسمُه هبّاش المِتعِب؛ متطوّع في "الهجَناه"، ولم تطُل المدّة حتّى شعر من عرفه من الناس أنّه ثقيل دمّ، تحمّلوه على مضَضٍ، ليس خوفًا من بدلته العسكريّة وإنّما لأنّه غريب بلاد فاعتبروه كما الأسرة ضيفًا.
الحقّ يُقال إنّ "الفار لعِب في عبّ" أهل البلد، توجّسًا من هؤلاء القوم. ولكن لم يجد شيخها؛ الشيخ صالح الأحمد، أن يخرج عن تقاليدها، ومهما كان، ويرفض لاجئًا دخيلًا على البلد، فتقبّلوا نصيحته باستيعاب الأسرة، وتحمّلوا ثقل دم هبّاش. عزاؤهم كان سُمعة البلد بألّا يقال بين قرى الجيرة إنّ البلد لم تلفِّ من قصدها لاجئًا محتاجّا دخيلًا، وهي المضيافة الفاقع صيتها في كلّ فلسطين.
طلّ هبّاش عند ناصية الطريق ببدلته العسكريّة، يتدلّى من قِشاطه العسكريّ مسدّس دأب أن يظهر عند أسفل خاصرته من الأمام، وحين حاذى الرجل ورأى الغربة وأكثر عليه وقف قبالته وتنحنح عاليّا بتصنّع. رفع الرجل رأسه، وما أن رأى عسكريّا أمامه حتّى وقف على عجل مهتزّ الوقوف بعض الشيء.
_ شو تسوّي هون؟ منين انت؟!
_ السلام عليكم...
_ بلا سلام... بلا بطّيخ... شو تعمل هون؟
بصوت منكسر.
_ يا عمّي أنا غريب بلاد.... هاجج من بلدنا... رايح أدوّر على مرتي واولادي... ومارق طريق.
_ شو حامل؟
_ شوفة عينك...
_ لا... في جيوبك... وين الذهب اللي عمّال تحملوه معكو؟
مادّا يده إلى جيب معطفه.
_ والله يا عمّي ما حيلتي ألّا هَـ الليرة الفلسطينيّة.
_ هات!
_ يا عمّي الله...
سحب الليرة من يد الرجل.
_ بلا عمّي بلا بلّوط... يالله انقلع!
كانت نجيبة قد اقتربت مسافة تستطيع منها أن تسمع الكلام.
_ حرام عليك... خلّي هَـ الزلمة في حالُهْ.
_ لا تتدّخلي... يا نجيبة!
استغربت نجيبة كيف عرف هبّاش اسمها، وغادر مع غنيمته.
عاد الرجل ليقتعد الحجر، والله وحده يعلم ما كان يدور في رأسه.
_ يا عمّي... فوت على البلد واسأل عن بيت الشيخ صالح!
ولم تزِد نجيبة، ولا هو طلب المزيد.
كان "قبْو" الشيخ صالح يعجّ ب"ختياريّة" وبعض شبابٍ من كلّ البلد يتوسّطهم الشيخ محمّد الديِّن العلّامّة يحكي لهم ما تيسّر من سير الأنبياء والأقدمين. وإذ بالرجل يقف في الباب، طارحًا السلام بصوت كسير. قطع الشيخ محمّد كلامه وردّ سلام الرجل ووراءه ردّ الحضور بأطيب منه.
_ تفظّل يا رجل... فوت أهلا وسهلًا.
وسّع له بعض القعود مكانًا على الدِّكّة فجلس.
_ أنا اسمي أبو العبد محمّد العبد من حطّين... وحظراتكو عارفين اللي صار لبلدنا وغيرها... حُرمتي وأولادي هجّوا وأنا برّاة البلد... وعند عودتّي قال لي أهل الجيرة إنّهْ يمكن رحلوا على لبنان... وأنا هيّاني رايح وراهم أدوّر...
استرسل الرجل يروي والقوم صامتون... وأنهى:
_ أنا في افظالكم واللي تشوفوه على راسي...
_ تِعِرْفُه؟
_ لا والله... لكن كانت صبيّة تجمع حطب... قالت لُهْ "حرام عليك"... قلْها "لا تِدّخَلي يا نجيبة".
_ ارتاح يا عمّي... أهلًا وسهلًا فيك... انشالله ما يصير إلّا الخير!
_ .....
_ هات يا إبراهيم للزّلَمِهْ شُربِة ميّ.
التعدّي على "غريب بْلاد" في حياض البلد كان بالنسبة لأهل البلد من المحرّمات، وفيه إهانة لهم جميعًا ما قبلوها يومًا ولن يقبلوها اليوم.
خمّن الشيخ صالح أنّ نجيبة لن تكون إلّا ابنته، فأرسل من يستدعيها. جاءت وسلّمت.
_ اطّلّعي في هَـ الزلمة... شفتيه؟!
التفتت حيث أشار والدها، وحكت ما رأت.
علت متتابعة حوقلة بين الحضور. نادى الشيخ صالح الناطور إبراهيم وأسّر له بعض كلمات، خرج إبراهيم على إثرها. لم يغب طويلًا، فالقرية صغيرة وبيوتها متقاربة، وعاد وبرفقته هبّاش. دعا الشيخ هبّاش للجلوس إلى جانبه بينه وبين الشيخ محمّد. لم يمهله كثيرًا وبعد قليل كلام وسلام، سأله مشيرًا بيده نحو محمّد العبد.
_ تعرف هَـ الزلمة؟!
_ لا...
_ ما شُفتُه أبدًا؟!
_ وحياةةةة... الله...
_ مين حلّفك؟!
_ لا... ما في عمري شُفتُه!
لم ير "ختياريّة" البلد جلّاس القبو، ولا كلّ أهل البلد، من الشيخ محمّد المجلّل علمًا وتُقى وهدوء ورزانة، ما رأوا هذا اليوم. لم يكد هبّاش يقسم حتّى لطمه الشيخ بكفّ يُمناه على سحنته، فطارت معه قبّعته العسكريّة التي كان جاء يعتمرها، وما لبثت أن لمعت عيناه وسال أنفُه.
إذا كان وصل الأمر بالشيخ محمّد هذا الحدّ فالتالي لا يعلم به إلّا الله، وقد رأى هبّاش أنّ نارًا تكاد تقفز من عيون القوم والشباب بينهم يتحفّزون. فاعترف. وعندما أمره الشيخ صالح أن يعيد "اللّيرة"، أخرج من جيبه كبشة من العملة المعدنيّة قائلًا إنّه اشترى بالبقيّة ديكًا غداء له ولزوجة عمّه مِتعِب، فعمّه هذا ومنذ حلّوا في البلد "غيباتُه" كثيرة وطويلة.
_ قدّيش ثمن الديك؟!
_ سبعة قروش!
_ وين الدّيك؟
_ ذبحتُهْ... عند مرْة عمّي وعمّال تحضّره غدا.
_ قوم انقلع... وهذا الناطور معك... وبتعطيه الدّيك... والأيّام قُدّامنا معك ومع عمّك!
قبل أن يغادر الناطور عاد الشيخ صالح وأسرّ له أمرًا. قام بعض الشباب وراء الناطور وهبّاش دون أن يطلب منهم ذلك أحدٌ.
عاد الديوان إلى سابق عهده، ولكنّ الحديث هذه المرّة راح إلى الحرب والتهجير والهجيج. أمطروا الضيف بالأسئلة التي كان يجيب عنها باقتضاب كسيرًا تخنقه الكلمات، ولكن كلماته وشكل حديثه بيّنا أن الرجل "ابن أصل". دخل الناطور. طالت القعدة وطابت. خرج الناطور وعاد.
_ عمّي... تفظلّ كلّف!
وقف الشيخ صالح وتوجّه إلى محمّد العبد.
_ تفظلّ يا عمّي عَـ الميسور.
_ زاد فظلك... لو تسمح لي طريقي طويلة.
ضاحكًا.
_ شو ما بدّك تمالحنا؟!
قام الرجل ورافقه الناطور إلى غرفة جانبيّة صغيرة تتوسّطها طاولة صغيرة ناءت تحت طبق من القشّ مليء بما تيسّر، يتوسّطها طائر مطبوخ محشو بالرزّ والصنوبر. جلس الرجل وانتظر الناطور أن يفعل، فلم يفعل، فرجاه غير أنّ الناطور ظلّ على وقفته.
_ أهلا وسهلا فيك يا أخي... قيمتنا مش قيمتك... صحتين وعافية.
وهمّ أن يغادر. استغرب الرجل ورجاه أن يبقى ويشاركه.
_ البيت بيتك خذ راحتك!
وخرج.
عاد الرجل بعد فترة لم تطّل، دخل ووقف قبالة الديوان شاكرًا حامدًا.
_ يا عمّ صالح... خيركم في رقبتي للمَمات... وانت يا شيخ محمّد الله ينفّعنا من بركاتك... ترخصوا لي وانتو عارفين اللّي وراي...
_ بات عنّا يا أبو العبد... والصباح رباح!
همّ الرجل على المغادرة، فتناول الشيخ يده واضعًا في كفّه كبشة من نقود معدنيّة، تفحّصها الرجل.
_ يا عمّي... حقّي سبعَهْ وتسعين قرش... وهون في أكثر بكثير. وبدأ يعدّ. أطبق الشيخ صالح كفّه على كفّ الرجل.
_ هديّة الأوادم (مشيرًا إلى الديوان) ... تْردّ الهديّة؟!
غلب الرجل البكاء.
_ قْلادِه معلّقه في عنقي من ولدي لولد ولدي... ترخصوا لي!
وغادر ورافقه الناطور حتّى خرج من البلد، وودّعه عناقًا.
_ الطريق الطريق... لا شمال ولا يمين... وبتوصل لَـ رْميش!
حين عاد الناطور دخل غرفة السُّفرة فاستغرب ما رأى. سارع إلى القبو.
_ عمّي صالح... الرجل أكل من خبزنا ودامِتنا.. والدّيك على حالُه!
_ ابن أصل هَـ الزّلمِهْ... يلعن أولاد الحرام!
الدِّيك وابن الحرام!!
بقلم : سعيد نفّاع ... 22.01.2025