جونيه عروس الشاطئ اللبناني
بيروت- كتبت .. ناديا الياس : «شو همّ جونيه من هدير البحر» قول مأثور في لبنان للدلالة على صلابة هذه المدينة الساحلية الهوى رغم أنها «جارة الأمواج «. إنها مدينة جونيه عروس الشاطئ اللبناني، المستلقية على أجمل شواطئ المتوسط. هذه الفاتنة التي تتكئ بأطرافها ما بين جبلٍ شاهق هو جبل حريصا وبين بحرٍ مرصّعٍ تختال فيها أشعة الشمس متباهيةً وتتمايل بأهدابها بين جبلها وساحلها وأسواقها القديمة حاملةً في أنسجتها روائح طيبة من ذاك الزمان القديم، وتتراقص وهي تلفح رمالها الذهبية لتنسج مع كل موجة في مدّها وجزرها أنغاماً تعود بك إلى تاريخ تختزن منه الذاكرة ليال حالمة.
إنها جونيه إحدى المناطق اللبنانية السياحية بامتياز في قضاء كسروان في محافظة جبل لبنان المحروسة بقدرة ملكة السماء «سيدة لبنان «من فوق جبل حريصا الذي يحيط بها وهي دخلت صفحات التاريخ برجالاتها ومعالمها التراثية ومرافئها السياحية وفنادقها ومهرجاناتها الدولية التي تضيء سماءها سنوياً بأنوار السهر وأصوات الفنانين العالميين التي تصدح في أرجائها وأصداء المفرقعات وعرض الألعاب النارية الذي تتفرد به «مهرجانات جونيه الدولية» مترافقاً مع موسيقى خاصة متناغمة تستقطب عشرات الآلاف يتجمعون على طول خليج جونيه وحوله في احتفالية ضوئية تعكس وجه المدينة السياحي ووجه لبنان الحضاري.
وجونيه التي لم تكن يوماً مساحةً جغرافيّة، بل شكّلت عبر تاريخها القديم والحديث واحةً روحيّةَ وفكريّةَ وثقافيّة وسياحيّة بامتياز حاضنة في الوجدان وفي القلب وفي الروح ما يحيط بها غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، تقع في وسط شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي وسط الساحل اللبناني الممتد على طول 238 كيلومتراً ووسط الاوتوستراد الساحلي الواقع بين بيروت وطرابلس وسط ساحل محافظة جبل لبنان وهي عاصمة قضاء كسروان – الفتوح وتقدّر مساحة بلداتها، صربا، غادير، حارة صخر، ساحل علما مجتمعة حوالي 8.5 كلم2. ويقدّر عدد سكانها بحوالي 150 ألف نسمة وهي تبعد عن بيروت حوالي 16 كيلومتراً.
وجونيه العروس الفاتنة تعتبر من أهمّ المراكز السياحية الساحلية في لبنان، ولديها مؤهّلات طبيعية مميزة أبرزها: تلال خليجها الهلالي المشرفة على البحر بأشجارها الخضراء وهي الأجمل على سواحل شرق البحر المتوسط ، ومرفأ جونيه بأحواضه الأربعة المخصّصة لليخوت ولزوارق الصيد والحوض العسكري ومجمّع نادي الضباط وسواها من المواقع الطبيعية كما تملك مقوّمات سياحية بشرية متكاملة، تتمثل في شبكة متنوعة من الفنادق والمطاعم والملاهي والكازينوهات، منها تلفريك جونيه – حريصا بسلاله الملونة، وكازينو لبنان، الأقدم والأرقى في منطقة الشرق الأوسط.
وتاريخيّاً تمتاز المدينة بتراثها القديم العريق الذي يعود إلى العهد الفينيقي حيث تقع على أطرافها صخرة الشير العظيمة الشبيهة بصخرة «موناكو» مزار الباطية الفينيقي السامي حيث أسطورة الحبّ الأولى بين إله العشق أدونيس وآلهة الخصوبة عشتروت، وعلى بضع أمتار منها مرفأ جونيه الذي شهد أيام عزّ التجارة اللبنانية، وفي أعلى هذا الشير قلعة أثرية تقوم على بيت عائلة آل خضرا الذين كانوا من تراجمة قناصل فرنسا في العهد العثماني، ومن أبرز تجّار الحرير في المنطقة، ومن روّاد النهضة العربية التي انبعثت بذورها الأولى من هذه المدينة.
الأبنية الأثرية تتّوزع بكثافة في أرجاء المنطقة المصنفة تراثية بالجزء البحري من المدينة والممتدّ من محيط الملعب البلدي في حارة صخر ومدخل المرفأ في صربا الشير وتشمل الخطّ الداخلي الذي كان يربط بيروت بطرابلس قديماً حتى العام 1964 تاريخ إنشاء الأوتوستراد الحالي المعروف بالـ A1 كما وتشتمل المنطقة على أبنية تراثية تشكل وحدة معمارية رائعة بُنيت بشكل متناسق على جهتي الشارع الرئيسي ويعود تاريخ بناء هذه المنطقة إلى القرن التاسع عشر.
وقد شكلّت هذه الأبنية نواة مدينة جونيه وفي مطلع القرن العشرين عُرفت هذه المنطقة بالميناء الجديدة في جزئها الجنوبي وبالميناء القديمة بجزئها الشمالي.
والمنطقة المصّنفة تراثية في المدينة تتألف من الأسواق التجارية التي شيّدت من الحجر الطبيعي والقرميد الأحمر، ولا يتجاوز عدد طبقات البناء منها الطبقتين أو الثلاث وهي متناسقة، وتفصلها ممرات فضائية تسّمى بالحارات، وتتمّيز الطبقات الأرضية من هذه المباني بالحجر المعقود على شكل قناطر وكذلك الحال بالنسبة إلى الطبقات العلوية مع سقوف قرميد وسقالة من الخشب، أما مقر الحاكم الإداري للمدينة والذي يشكل حالياً مبنى البلدية فقد شّيد في عهد المتصرف واصا باشا في العام 1879 وهو يشرف على الأسواق شمالاً وجنوباً والبحر غرباً والسهول الزراعية شرقاً.
أما أجمل معالمها الطبيعية التي تستوقف الزائر هو خليجها، خليج جونيه الذي صّنف قبل أعوام بين المواقع الساحلية العشرة الأجمل في العالم، لن ترى معالمه الساحرة الأجيال المقبلة، منظره الذي وصفه عضو الأكاديمية الفرنسية موريس باريس الذي زار لبنان قبل قرن تقريباً، بقوله «لا يمكن النظر البشري ان يتمتع بأجمل منه». ودفعت مناظره الطبيعية الخلابة في عشرينيات القرن الماضي، المفوض العسكري الفرنسي الجنرال مكسيم ويغان ليقول مندهشاً مخطوفاً: «ليتني أدفن هنا وسط هذه الجمالات!». كما أيقظ موقعه الرائع قريحة العديد من الشعراء والزجالين، ومنهم علي الحاج الذي قال فيه:
«لما ربّ المسكوني كوّنها بكلمة: كون الدني زيّنها بلبنان
وزيّن لبنان بجونيه».
هذه البقعة الفاتنة، التي وصفها الجغرافيون والمؤرخون والرحالة العرب والأجانب، أمثال الادريسي، والمونسنيور ميسلن، والأب لامنس، وجورج سيقلدي، وهنري غيز، وبروس كونديه، ولويس لورته وغيرهم، بأنها أجمل خليج طبيعي في شرق المتوسط من الاسكندرون حتى الاسكندرية.
في ستينيات القرن الماضي، وضع الرئيس فؤاد شهاب عدداً من المخططات للحفاظ على الطابع الجمالي لهذا الخليج، مستعيناً بمهندسين وخبراء على رأسهم المهندس الفرنسي ايكوشار، ليبدأ الحديث عن جونيه كمونتي كارلو، وكافاكادو «الريو» ونيس، وهونغ كونغ، ونابولي.
جونيه التي تعّد مركز استقطاب سياحّي متكامل مع الشبكة السياحية التي قامت في أرجائها وأطرافها «إسمها مشتقٌ من الآرامية gonia واليونانية guine ما يعني الزاوية لوقوعها على الطرف الجنوبي لخليج هو بمثابة ميناء طبيعي اعتبره المستشرقون كالأب لامنس اليسوعي والمؤرخ إرنست رينان وعضو الأكاديمية الفرنسية موريس باريس من أجمل خلجان العالم. وفي تعريف للمعلم بطرس البستاني في القرن التاسع عشر جاء عن جونيه على أنها موقع في ساحل كسروان ، به مخازن ودكاكين ومصبغة، تأتيه السفن والقوارب بالغلال وغيرها. وتجارة الحبوب فيه رائجة كثيراّ. قراها صربا وغادير وحارة صخر وساحل علما، وحتى القرن الثامن عشر كانت هذه القرى موجودة على سفح جبل حريصا ومشرفة على سهول مدينة جونيه التي عُرفت بسهول النواعير لكثرة المياه الجوفية فيها.
وللصداقة حصّة الأسد في جونيه فلديها «ساحة الصداقة» وفي امكان الزائر التنّزه فيها والجلوس على أحد مقاعدها للتمّتع بمنظر خليج جونيه المطّل على البحر، كما تختزن نفحة ثقافية بامتياز كونها تتضمن تماثيل منحوتة لرجال عالميين لعبوا دوراً بارزا في بلادهم فأصبحوا من ضمن لائحة أيقونات البطولات السياسية في العالم، وتصل مساحتها إلى نحو 500م تغطيّها سجادة طبيعية من العشب الأخضر إضافة إلى شجر الزيتون والورود الملونة. وتنتصب في الساحة تماثيل برونزية لشخصيات عالمية أمثال خوسيه أرتيغيس (أورغواي) وبرناردو هيكيوغينز (تشيلي) وفيليب حبيب (الولايات المتحدة) في إشارة من فعاليات المدينة إلى ضرورة الحفاظ على وصلات الصلة وروابط الصداقة بين لبنان والعالم.
وإلى جانب معالمها الطبيعية والاثرية يطالعك سوق جونيه الأثري الذي أبصر النور عام 1804 عندما أقام الأمير حسن شهاب شقيق الأمير بشير شهاب الثاني حوانيت ومخازن في أروقة المدينة لتصريف منتجات الحرير وتعزيز تجارته، فوضع ميزاناً خاصاً للحرير للمضاربة على ميزان ذوق مكايل، كما واشتهرت أسواق المدينة القديمة بأعمال تخزين المواد الغذائية وتوزيعها في ظلّ الحكم العثماني. وإذا كان الأمير حسن شهاب قد أنشأ سوق جونيه والميناء القديمة فإن الفضل في إنشاء الميناء الجديدة يعود للرئيس فؤاد شهاب، ابن جونيه الذي انتخب رئيساً للجمهورية، فهو من أرسى التصاميم العصرية ليكون راعي النهضة الحديثة لمدينة جونيه، حيث وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1958 أسّس مدينة حديثة تكون مركزاً للقضاء فاستدعى خبراء التنظيم المدني وتُذكر من أهمّ إنجازاته الحديثة للمدينة شقّ اوتوستراد نهر الكلب جونيه عام 1966 وإنشاء مرفأ جونيه عام 1968 وشقّ طرق في سهل المدينة بين السّكة والبحر وهذا ما عُرف بمشروع الضمّ والفرز، كما أنشأ الملعب البلدي وسرايا جونيه والتلفريك فضلاً عن وضع التصميم التوجيهي للبناء في جونيه وضواحيها.
في الذاكرة الحقيقية للتاريخ إن الزائر لهذه المدينة أو العابر فيها كانت تعبق في أنفه رائحة زهر الليمون، وعلى مدى نظره تتناثر بساتين الخضار التي ترتوي من مياه النواعير، فالزراعة ظلّت ناشطة في سهول المدينة لغاية العام 1975 حيث تلاشت المساحات الزراعية أمام الهجمة العمرانية لتحلّ المباني مكان الحدائق والسهول، انطلاقاً من منطقة صربا أولاً فغادير فحارة صخر وأخيراً ساحل علما، وأخذت بعض البنايات المحدودة تتوزع في أرجاء المدينة.
ومع بداية حرب 1975 هرب الكثيرون إلى المناطق الآمنة وبدأوا في تنظيم أوضاعهم تبعاً للظروف الأمنية، ومن 1980 حتى 1990 عرفت جونيه نزوحا كثيفاً إلى أرجائها، فانتقل قسم كبير من تجار بيروت إلى أسواقها، واتسّع النزوح إليها وأخذت البنايات تلتهم مساحتها الخضراء وتتوزع في مناطقها، وتتمركز المجمعات السياحية الضخمة على شاطئها حتى باتت تملك كلّ مقومات الحركة التجارية والسياحية والثقافية على مدار السنة، وهذا ما تختزنه أسواقها الحديثة والقديمة وتنتشر في السوق القائم في قلب جونيه المحلات التجارية المختلفة التي تجمع مختلف أنواع البضائع المستوردة من مختلف مناطق العالم، كما تنتشر مجموعة من فروع المصارف اللبنانية والبالغ عددها 39 مصرفاً وعلى رأسها فرع لمصرف لبنان، وفي المدينة وضواحيها أكثر من عشرين صالة عرض لأفلام السينما وأكثر من 25 مجمّعاً سياحياً وثلاث مستشفيات ومجموعة كبيرة من المطاعم الشرقية والغربية وجامعة الروح القدس الكسليك وهي من كبرى الجامعات.
ولا يمكننا الحديث عن جونيه من دون ذكر القرية الميلادية والزينة التي أقامتها بلديتها هذا العام حيث ضاهت أنوار زينتها كبرى عواصم العالم.
باختصار تعّد جونيه العاصمة الكسروانية، لؤلؤة الشرق وواجهة البحر الأبيض المتوسط من خلال بوابتها البحرية التي شرّعت لاستقبال ثقافة شعوب وبلدان كثيرة وكتب عن خليجها الشعراء والأدباء من بينهم الشاعر اللبناني الراحل الياس ابو شبكة أحد مؤسسي «عصبة العشرة» إذ تغّزل بالخليج على طريقته الشعرية قائلاً «أعطيت لبنان ما لم يعطه بلد ففي صعيدك أزراق السما نخب، يا شاطئ الحسن في الدنيا، وقمته اليك كل عيال الوحي تنتسب، هذا الجمال …. لماذا لا توزعه على القلوب، فينقي الجهد والتعب هذي الربى، اثدي الحبّ الخصبة هذا الخليج، انبع الفجر منسكب؟»
تستلقي في حضن جبل حريصا وتغتني بمعالمها التراثية!!
بقلم : ناديا الياس ... 21.01.2018
المصدر: القدس العربي