قراصنة، أمراء حرب، مجموعات سطو مسلح، مليشيات إجرامية، ليس هنالك أي تعبير جميل يمكن أن يصف به العالم شعب الصومال الذي يئن تحت لظى الحرب الأهلية، والصراعات القبلية، والخلافات السياسية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وما تزال تحصد كل يوم المزيد، رغم الاستقرار النسبي الذي آلت إليه البلاد في الآونة الأخيرة. وفي كل موجة جفاف، واستعار لهيب الفوضى، وانزلاق البلاد نحو التدخل الإقليمي والدولي كانت المجاعات تفتك بأمعاء الصوماليين في ظل عجز الحكومات العسكرية والمليشيات المسلحة القابضة على شتى مفاصل الحياة عن إطعام الفقراء وسد رمق الجوعى الرازحين في أكواخ الفقر أو أحياء الصفيحِ التي تهتك ستر الكرامة ونبل النفس، اللهم فتات المساعدات الأممية والحملات الإغاثية التي تطلقها بعض المؤسسات والهيئات الإنسانية. وبذلك غدا مصطلح "الصوملة" من التعبيرات المعجمية والاستعارات المجازية والأدبيات السياسية المخيفة الدالة على الدولة الفاشلة المفككة، والغارقة في بحر الاضطرابات والفوضى، ولا أمل في تحسين أوضاعها وإعادتها إلى جادة الاستقرار والتنمية.
كيف لا يكون الصومال كذلك والعسكر استهلوا حكمهم للصومال عام 1969 كعادتهم في جميع البلدان باغتيال الرئيس المدني المنتخب، وشرعوا بحل البرلمان، وتعطيل الدستور، واعتقال القادة السياسيين، وحظر الأحزاب السياسية، وفرض قيود صارمة على الصحافة، ومصادرة أموال المواطنين دون وجه حق؛ فنزح الكثير، وهاجر آخرون خارج البلاد بحثاً عن الأمن والعيش الكريم. وقد تعرض الصومال لأبشع أنواع البلقنة في العصر الحديث على يد الاستعمار الأوروبي الثلاثي الذي وضع قبضته على البلاد في ثمانينات القرن التاسع عشر، وشرع في تمزيق ترابه إلى مناطق نفوذ ومحميات استعمارية خاضعة لإنجلترا وفرنسا وإيطاليا، ونهب خيراته وموارده الطبيعية، وتبديد ثرواته البشرية.
ولم تتأخر المقاومة الصومالية في الكفاح ومناجزة سلطات القهر الاستعماري الغربي بنفس النفس الذي واجه فيه الصوماليون الخطر البرتغالي في القرن السادس عشر، ووصلت المقاومة أوج عنفوانها تحت راية العالم والأديب محمد عبد الله حسن الذي جاهد الاستعمار لأكثر من عشرين عاماً قبل أن تأخذ المقاومة الصومالية طابعها السياسي الحزبي في أربعينيات القرن المنصرم. وما أن بدأ يلوح في الأفق فجر الاستقلال وانتصار الحراك الوطني، امعنت الدول الاستعمارية في تمزيق الصومال بقضمها جزءًا من أراضيه لصالح أثيوبيا وكينيا حتى يبقى هذا البلد الغني يرسف في أغلال الحروب البينية والنزاعات الحدودية والمناوشات المتكررة.
غير أن هذا الصومال الحائر المضطرب، الممزق الأوصال المبعثر الأشلاء، الهائم على وجهه في بحر الدماء والقبلية التي ساقت الشعب إلى توابيت الموت لم يكن يعش على هامش التاريخ البتة؛ فمنذ إعلان الاستقلال عام 1960 كان الصومال يلقب "سويسرا أفريقيا"؛ لغنى أهله ووفرة موارده، وامتداد شطآنه في عمق القرن الأفريقي، وإطلاله على المحيط الهندي والبحر الأحمر وخليج عدن الممسك بالطرق الملاحية الواصلة بين الشرق والغرب؛ فعلى أرضه المنبسطة مارس الصوماليون حرفة الزراعة وتربية الماشية، وإلى شواطئه المترامية وجهوا أشرعة سفنهم للبحث عن رزقهم وقوت يومهم بين الأمواج المتلاطمة. وينفرد الصومال بسبق ديموقراطي فريد هو الأول من نوعه في بلدان العالم الثالث وأفريقيا على وجه التحديد تمتع فيه الإنسان الصومالي بحرية انتخاب ممثليه، والمنافسة الشريفة بين المرشحين على تولي مناصب الدولة، والتداول السلمي للسلطة بطيب نفس وتسليم مطلق دون إكراه قبل أن يعصف انقلاب سياد بري بالحياة السياسية ويدخل البلاد في تناحر سياسي وقبلي دام أكثر من ربع قرن.
وفي زمن المحنة واشتداد البلاء بالمسلمين وضعف شوكتهم كان لسلطان مملكة العدل "أحمد بن إبراهيم الغازي" الفضل في الدفاع عن قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفتح أجزاء واسعة من الحبشة، ومواجهة حلف الأحباش والبرتغاليين الذين عقدوا العزم على مهاجمة المدينة المنورة، ونبش قبر الرسول الأكرم، ونقله إلى لشبونة؛ لمساومة المسلمين بالقدس التي حررها القائد صلاح الدين من أيدي الصليبيين. وبالفعل استطاع هذا القائد الفذ هزيمة البرتغاليين، وقتل القائد البرتغالي المجرم كريستوفاو دا غاما Cristóvão da Gama)) في 28 أغسطس سنة 1542 في معركة وفلة، وهو ابن السفاح البرتغالي فاسكو دا غاما (Vasco da Gama) الذي أبحر إلى القرن الأفريقي لنشر التنصير، وأمعن في المسلمين قتلاً وتشريداً وهدماً للمساجد. يقول المؤرخ عبد القادر بن عبد الله العيدروس في كتابه النور السافر عن أخبار القرن العاشر: "ولم يزل أمر الإمام يعظم حتي صار إلي ما صار إليه، وفتح كثيراً من بلاد الحبشة، ونقل عنه ما يبهر العقول حتي إن بعضهم قال لا تُشبّه فتوحاته إلا بفتوحات الصحابة رضوان الله عليهم".
الآن بعد هذه الجولة الخاطفة في عبق التاريخ، وصور الابتسامة السمراء المنسدلة إلى أحضان المحيط، ومشاهد الكآبة المتناثرة على مضارب التشرد واللجوء، ووجه الوطن الجميل المعذب الذي تتقاذفه أحلام باذخة المعالم وذكريات منبثقة المقام، وتعصف به آلام موغلة في الغلظة. نأتي إلى جوهر المقالة هذه ونتساءل: هل بالفعل كان الصومال بلداً غنياً يدفع أموال الصدقة للسعودية وتسير قوافله من القرن الأفريقي إلى الحجاز محملة بالطعام والمال؟ هل هذه حقيقة يرفض البعض اجترارها أم أكذوبة لا يسندها أي دليل؟
بادئ ذي بدء كانت المملكة العربية السعودية قبل اكتشاف البترول دولة فقيرة ومعدمة يعيش أهلها على التمر واللبن، واليسير من الزاد. وكان يخرج رجالها للعمل في الشام ومصر وإيران والهند؛ لتوفير المال والمؤونة لذويهم. ومن المتواتر تاريخياً أن السعودية قد تعرضت عام 1909 لمجاعة عظيمة حصدت أرواح الكثير، وأكل الناس الجيف وأوراق الشجر والجراد، وتسابقوا على صيد كل ذي ناب من السباع، وهرعت الفتيات للزواج مقابل كسرة الخبز، ونزح العديد إلى الدول المجاورة. ويروي من عاش عام الجوع في نجد أن الناس كانوا يجدون الأطفال موتى في الشوارع، وفارقت المرضعات وصغارهن الحياة حتى أوشكوا على أكل لحوم البشر.
في حين كان الصومال ينعم بطيب العيش، والنعيم المقيم، والوفير من الرزق حتى قيل إن أحدهم كان يذبح الكبش ليأكل الكبد ويلقي الباقي إلى الأرض من وفرة الزرع والضرع. ويذكر التاريخ أن هيئة علماء الصومال أجازت التبرع بأموال الصدقة لفقراء الحجاز، وهرع تجار الصومال إلى تسيير القوافل محملة بالذهب والماشية والغذاء؛ لانتشال إخوانهم في الحجاز من غائلة الجوع، والتخفيف من آلام القحط والفاقة التي أصابت الناس ودمرت الحرث والنسل. لا مجال لإنكار أو إغفال دور الصومال في إطعام الجوعى والفقراء في السعودية؛ سيما أن التجار الصوماليين كانوا أهل خير وثراء ووفرة في المال والمؤونة، ويتفاخرون في بهو وخيلاء بأعراقهم وأنسباهم التي تعود إلى قبيلة بني هاشم، وينظرون لأهل الحجاز بالكثير من القداسة؛ فهم أحفاد الصحابة وحراس قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومن بلادهم جاء إليهم الإسلام في القرن الأول الهجري.
كذلك كان الصومال دائماً الدرع الحامي للمشرق الإسلامي، واستطاع بالفعل كبح جماح الغزو البرتغالي لفترة طويلة. ومع أن معظم تاريخ هذه البلاد المثخنة بالحروب والأطماع لم يحفظ بين دفات الكتب ويلفه الغموض والنسيان، إلا أن الكثير من الدعاة الثقات من أبناء المملكة ذاتها يؤكدون العثور على فتوى تجيز التبرع بأموال الصدقة لفقراء السعودية وترى في ذلك واجباً شرعياً. ومن الراجح عند الكثير من المؤرخين أن العائدات المادية التي يجنيها أهل الحجاز من موسم الحج والعمل في البحر الأحمر كانت لا تلبي جميع الحاجات، وكان أهل الشام ومصر والصومال والهند يرسلون أموال الصدقة لفقراء المسلمين في الحجاز عدا عن تكفلهم بكساء الكعبة الشريفة وبناء الكثير من المساجد. الأمر ليس مدعاة للفخر أو الشفقة لما أصاب أهل الصومال من بأساء العيش وتداول الأيام لكنها حقيقة تاريخية تقترب من الصواب أكثر من إصرار البعض على دحضها وتفتيت عراها.
لا شك أن الصومال حالة فريدة واستثنائية لا تنازعه عليها أية دولة في القارة السمراء؛ فمن ديموقراطية رائدة أنعشت في الذاكرة جذور التجربة إلى كانتونات متحاربة ودويلات متناثرة، ومن أرض خضراء باسقة الجمال وسفن تمخر عباب المحيطات إلى المجاعات ومضارب البؤس والشقاء، لكن وسط التجاذبات والمعتركات هذه كانت جدلية الهوية والانتماء تشده إلى تكوينه العربي الإسلامي أكثر من موقعه الجغرافي رغم ما أصاب الحرف العربي من ضياع على أيدي الحكومات العسكرية المتعاقبة. هكذا كان لهذا البلد الاستثنائي المتجانس مع ذاته، والمضطرب مع تاريخه وتراثه اليد البيضاء في طواف الإسلام أركان القارة السمراء الأربع، وتشييد المدن والممالك والحضارات في القرن الإفريقي التي مازالت أطلالها تروي فصول الحكاية، وصولات رجاله في إغاثة الملهوفين في زمن الجوع والعسرة.
المصدر : مدونات الجزيرة
الصومال.. البلد الذي كان يدفع أموال الصدقة للسعودية!!
بقلم : معاذ محمد الحاج أحمد ... 29.04.2019
*كاتب وباحث فلسطيني..*المصدر : مدونات الجزيرة