أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في النكبة* (1-4)
بقلم : د. محمود محارب  ... 10.05.2019

*ملخص
تبحث هذه الدراسة في دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في النكبة سنة 1948 استنادًا إلى وثائقه. وتقف عند العوامل الأساسية التي ساهمت في دعمه، عشية حرب 1948، إنشاءَ دولةٍ للمستوطنين الكولونياليين الصهيونيين اليهود في فلسطين ضد إرادة أصحابها الشرعيين وعلى حسابهم. وتتابع الدراسة كيفية انخراطه وعمله في جميع المجالات الفكرية والسياسية والعسكرية والإعلامية والأممية لتحقيق هذا الهدف. كما تعالج تجاهل الحزب الشيوعي الإسرائيلي الطبيعة الكولونيالية الإحلالية والإجلائية للحركة الصهيونية وتحالفها المتين مع الدول الاستعمارية، وتجاهله هدف الصهيونية ونشاطها لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتسويغه سعيها لإقامة الدولة اليهودية على حسابه بأنه "نضال من أجل التحرر القومي ومن أجل الاستقلال"، ونفيه في الوقت نفسه حق الشعب العربي الفلسطيني في الدفاع عن وطنه ووقوفه ضد الحركة الوطنية الفلسطينية، وادعاءه أنها "عميلة للاستعمار"، وأن المقاتلين الفلسطينيين والعرب ما هم إلا "عصابات مأجورة" و"قتلة" و"خدم" الاستعمار.
أولًا: خلفية تاريخية
يتفق الباحثون على أن جذور الحركة الشيوعية في فلسطين تعود إلى اليسار الصهيوني. ففي سنة 1919 أسس مستوطنون يهود صهيونيون في فلسطين "حزب العمال الاشتراكي" (مبس) على إثر انشقاقهم عن "حزب عمال صهيون" في فلسطين. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1919 عقد هذا الحزب أول مؤتمر عامّ له، سيعتبره الحزب الشيوعي الفلسطيني لاحقًا أول مؤتمر له[1]. وفي سنة 1920 أضاف الحزب إلى اسمه كلمة "العبريين"، فأصبح "حزب العمال الاشتراكيين العبريين" (مبسي)[2]. وشهد هذا الحزب في السنوات الثلاث التالية عدة انشقاقات، إلى أن توحّد في سنة 1923، بعد توسط الأممية الشيوعية (الثالثة)، (الكومنترن)، تحت اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني[3].
انضم أول عربي إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني في سنة 1923، بيْد أن الحزب فشل لأسباب ذاتية وموضوعية في تعريب نفسه، وظلّ عدد العرب المنخرطين في صفوفه حتى بداية الثلاثينيات ضئيلًا جدًا. فوجئ الحزب الشيوعي بثورة 1929 في فلسطين وفشل في قراءتها وعدّها مذبحة "بوغروم" ضد اليهود، وبذلك تماهى موقفه منها مع موقف الحركة الصهيونية، ولم يرَ فيها أي جوانب ثورية، ما حدا بالكومنترن إلى التدخّل مرارًا لتصويب موقف الحزب وفرض التعريب عليه من "القمة إلى الأسفل". في أواخر سنة 1929 حلّ الكومنترن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني، وشكّل لجنة مركزية جديدة مكونة من ثلاثة من العرب ويهوديَّين إلى جانب الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني نجاتي صدقي[4]. وفي بداية سنة 1931، عقد الحزب الشيوعي الفلسطيني مؤتمره العام السابع الذي عُدّ نقطة تحول في تاريخ الحزب، إذ طوّر هذا المؤتمر موقف الحزب، ووضع وفقًا لتعليمات الكومنترن وتحليلاته المباشرة تحليلًا أعمق للحركة الصهيونية وللحركة القومية العربية وللصراع الطبقي ولأساليب النضال. فإلى جانب إقراره بأن الحركة الصهيونية كانت أداة في يد الإمبريالية البريطانية، أكّد المؤتمر العام أن الحركة الصهيونية تهدف إلى إقامة دولة يهودية على حساب الجماهير العربية من خلال استعمار فلسطين، وأشار إلى أن الاستعمار الصهيوني لفلسطين كان يمر بثلاث مراحل؛ الأولى، هجرة يهودية كبيرة من مختلف أنحاء العالم إلى فلسطين بمساعدة الإمبريالية البريطانية. والثانية، انتزاع الأراضي العربية من خلال طرد الفلاحين الفلسطينيين من أرضهم، ليستعمرها المستوطنون اليهود الصهيونيون. والثالثة، خلق امتيازات لمجتمع المستوطنين الصهيونيين في فلسطين. وأوضح المؤتمر العام أن كل فرد تقريبًا في المجتمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين يتمتع بامتيازات، بمن في ذلك المزارعون والعمال اليهود الذين كان دخلهم يبلغ أربعة أضعاف دخل المزارعين العرب، وقارن دورهم السياسي بدور الكولاك المضاد للثورة. وحلل المؤتمر السابع، بعمق، وضع الطبقة العاملة في مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين، وأكد أنها كانت تتمتع بفرص عمل وظروف أفضل من الطبقة العاملة العربية. وفي ما يخص مشاركة الطبقة العاملة اليهودية في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية، أكد المؤتمر أن العمال اليهود لن يدركوا أن عليهم إما ترْك المعسكر الإمبريالي، ما يعني الهجرة من فلسطين، وإما الانضمام إلى المعسكر الثوري، إلا إذا فقدوا امتيازاتهم. وأكد المؤتمر أن جماهير الفلاحين والعمال العرب الفلسطينيين هي التي تشكل الغالبية العظمى من سكان فلسطين، وهي التي تشكّل قاعدة النضال الثوري ضد الإمبريالية البريطانية والصهيونية وكبار الملاكين العرب. وأشار المؤتمر إلى أن أشكال النضال التقليدية السلمية لم تعد تكفي وحدها، ودعا إلى القيام بالثورة المسلحة بقيادة الطبقة العاملة[5].
ويبدو أن قسمًا كبيرًا من المستوطنين اليهود أعضاء الحزب لم يهضم قرارات المؤتمر؛ فعند انطلاق ثورة 1936–1939 في فلسطين، أيّدتها قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، ولكن سرعان ما دبّ الخلاف بين الأعضاء العرب الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في الحزب بشأن الثورة في فلسطين، وتوترت العلاقات بين الجانبين، ما أدى إلى سماح قيادة الحزب للمستوطنين اليهود في داخل الحزب بأن ينظموا أنفسهم تنظيمًا مستقلًا. وقد توسّع الخلاف والصراع بين العرب الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في داخل الحزب في أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، بشأن المسألة القومية في فلسطين، ودار حول عدة مواضيع رئيسة، هي: الموقف من الحركة الوطنية الفلسطينية ومن أساليب النضال ومن تقويم ثورة 1936، والموقف من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإذا ما كان المستوطنون اليهود في فلسطين يشكّلون أمة، ولهم حقوق قومية تقدمية لا تتناقض مع حقوق الشعب العربي الفلسطيني القومية، ومدى وجود عناصر تقدمية داخل الحركة الصهيونية وإمكانية التحالف معها[6].
أسفر الصراع الداخلي بين العرب الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني عن انقسامه نهائيًا في سنة 1944 إلى حزبين. وفي حين أعاد المستوطنون اليهود أعضاء الحزب تنظيم أنفسهم بقيادة شموئيل ميكونيس[7]، الأمين العام للحزب حتى الانشقاق في الحزب في سنة 1965، ومئير فلنر[8]، الرجل الثاني في الحزب الذي أصبح أمينًا عامًّا للحزب الشيوعي الإسرائيلي في سنة 1965، واحتفظوا باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني، نظّم الشيوعيون الفلسطينيون في أواخر سنة 1943 أنفسهم في "عصبة التحرر الوطني".
عقد الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي اقتصرت عضويته على المستوطنين اليهود الشيوعيين فقط، كما كان الوضع عليه في السنوات الأولى لتأسيسه، المؤتمر العام الثامن للحزب الشيوعي الفلسطيني في سنة 1944. وقد تناقضت قرارات هذا المؤتمر مع قرارات المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني الذي عُقد في سنة 1931، واقتربت كثيرًا من مواقف الحركة الصهيونية، ولا سيما في ما يتعلق بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبناء الوطن القومي اليهودي والموقف من الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه القومية. وقد عارضت قرارات المؤتمر الثامن للحزب، تمامًا كما عارضته الحركة الصهيونية بشدة، "الكتاب الأبيض" البريطاني الذي صدر في أيار/ مايو 1939، وحدّ من الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومن امتلاك الحركة الصهيونية الأراضي العربية. واعترف المؤتمر كذلك بالمستوطنين اليهود في فلسطين بوصفهم أقلية قومية لها حقوق جماعية في فلسطين[9].
وفي مؤتمره التاسع الذي عُقد في سنة 1945، اقترب الحزب الشيوعي الفلسطيني، بقيادة شموئيل ميكونيس ومئير فلنر، أكثر فأكثر نحو صلب الصهيونية ونحو هدفها المركزي؛ وهو إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين، ولكن من دون أن يتبنّى الصهيونية رسميًا. ليس هذا فحسب، بل نادى الحزب بفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتسهيل عملية الاستيطان فيها؛ فقد دعا ميكونيس في المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي إلى "التطور الحر للوطن القومي اليهودي"، وإلى "النضال من أجل تطوير الوطن القومي اليهودي"، وأكد أن الحزب الشيوعي الفلسطيني يعتبر "الييشوف"[10] اليهودي جزءًا لا يتجزأ من سكان فلسطين، وفي الوقت نفسه، جزءًا من الشعب اليهودي في العالم. وشرح مفهوم الحزب الشيوعي للوطن القومي اليهودي، فأكد أن الوطن القومي اليهودي يعني منح إمكانية للييشوف اليهودي لتطوير حياته الاقتصادية في مجالات الزراعة والصناعة والملاحة والتجارة ... إلخ، وكذلك تطوير حياته القومية والثقافية على أسس التقدمية وأخوة الشعوب، ويعني إلغاء القوانين المعادية لليهود التي وردت في "الكتاب الأبيض" في ما يخص الهجرة اليهودية والاستيطان، ويعني أيضًا الحق في تطوير مؤسسات الحكم القومي الذاتي، ابتداء من السلطات المحلية وانتهاء باللجنة القومية[11]، في جميع القضايا الداخلية للييشوف اليهودي[12]. وأقر الحزب الشيوعي الفلسطيني في مؤتمرة العاشر الذي عقده في سنة 1946 بأن "الوطن القومي اليهودي بات حقيقة"، وبأن "وجود أمتين في فلسطين لم يعد بالإمكان تجاهله"، ودعا إلى إقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين[13].
وخلاصة القول، غيّر الحزب الشيوعي الفلسطيني الجديد، الذي انبثق من المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الفلسطيني بقيادة ميكونيس وفلنر، والذي اقتصرت عضويته على المستوطنين الشيوعيين اليهود، شيئًا فشيئًا من سياسته، وتحرّك بوضوح نحو الصهيونية ونحو تحقيق أهدافها، ولكن من دون أن يتبنّى الصهيونية رسميًا. واستبدل مصطلح الصهيونية بمصطلحات تؤدي المعنى نفسه مثل "القومية اليهودية" و"الوطنية اليهودية" و"الوطنية الإسرائيلية". وإلى جانب تغيير مضمون سياسته السابقة وتبنّيه مضامين الأهداف الصهيونية، أخذ الحزب الشيوعي الفلسطيني يستعمل اللغة والمصطلحات الصهيونية. وقادته هذه التغييرات إلى تغيير اسمه في أيار/ مايو 1947 من الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى "الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي". وشرع في استعمال المصطلحات الصهيونية، فذكر فلسطين في نشراته العبرية بـ "أرض إسرائيل"، وذكر الشعب العربي الفلسطيني بـ "عرب أرض إسرائيل". وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه بن غوريون عن تأسيس دولة إسرائيل، غيّر الحزب اسمه مرة أخرى من "الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي" ليصبح "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"[14].
ثانيًا: فرض الدولة اليهودية بقوة السلاح
لم يكن دعم الحزب الشيوعي، بقيادة ميكونيس وفلنر، لإقامة دولة للمستوطنين اليهود في فلسطين مفاجئًا تمامًا، بل جاء تتويجًا للتغيير الذي حدث في الحزب تدريجيًا، ولا سيما منذ مؤتمره العام الثامن في سنة 1944. لقد ساهمت مجموعة من العوامل في وصول الحزب إلى ذلك، وأهمها:
* الخلفية الصهيونية للحزب وواقع وجوده في فلسطين بوصفه جزءًا من حركة كولونيالية استيطانية إحلالية تسعى لإقامة دولة يهودية على حساب الشعب العربي الفلسطيني وعلى أنقاضه.
* ازدياد تأثير الأيديولوجيا الصهيونية في الحزب، ولا سيما عشية الحرب العالمية الثانية وخلالها وبعدها.
* إدراك قيادة الحزب أن باستطاعة المنظمات العسكرية الصهيونية، وخاصة الهاغاناه، فرض الدولة اليهودية في فلسطين بالقوة العسكرية.
* موقف الاتحاد السوفياتي الداعم لإنشاء الدولة اليهودية.
* إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947.
وفي اليوم الذي صدر فيه قرار التقسيم أعلن الحزب الشيوعي تأييده هذا القرار، ودعا أمينه العام، شموئيل ميكونيس، إلى اجتماع عاجل مع إدارة اللجنة القومية، لبحث قضايا الأمن. وأبلغ ميكونيس في هذا الاجتماع رئيسَ اللجنة القومية، دافيد ريمز، موقف الحزب الشيوعي الداعي إلى حشد القوى الشعبية المقاتلة وتعبئتها، الميليشيا، من أجل إقامة الدولة اليهودية المستقلة[15]. ووضّح ميكونيس، في مقالة له في صحيفة كول هعام بعد هذا الاجتماع بأسبوع، أن التحديات التي يواجهها الييشوف اليهودي توجب بذل جهد قومي شامل، وحشد كل ذرّة قوة لتحقيق الهدف التاريخي؛ وهو إقامة الدولة اليهودية. ودعا ميكونيس إلى إقامة جبهة وطنية مكونة من الحزب الشيوعي وحزبَي "هشومير هتسعير" و"أحدوت هعفوداه – بوعلي تسيون" لكي تشكّل القاعدة المتينة التي تكون قادرة على حشد جميع القوى لخوض حرب إقامة الدولة اليهودية المستقلة[16].
وسرعان ما انخرط "الحزب الشيوعي الأرض – إسرائيلي" في الحملة الصهيونية التي دعت السلطات البريطانية إلى منح المنظمة العسكرية الصهيونية، الهاغاناه، وضعًا قانونيًا، كي تتمكن من فرض الدولة اليهودية بالقوة العسكرية. وطالب بيان أصدرته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي، في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1947، سلطات الانتداب البريطاني بمنح الهاغاناه وضعًا قانونيًا، كما طالب قيادة الييشوف بتوسيع عملية التجنيد لصفوف الهاغاناه لتشمل كل شخص يهودي باستطاعته حمل السلاح، وطالب كذلك بإقامة لجان أمن في كل حارة وشارع يهودي للانخراط في الجهد العسكري للييشوف[17]. وفي 25 كانون الأول/ ديسمبر 1947 طالبت سكرتاريا فرع الحزب الشيوعي في تل أبيب لجنة الأمن في المدينة بإشراك الحزب الشيوعي في لجنة الأمن في تل أبيب[18].
منذ أن تبنّى الحزب الشيوعي إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، أخذ يتخذ مواقف أكثر تشددًا من قادة الحركة الصهيونية في دعوته إلى إقامة الدولة اليهودية، وفي الإعراب عن قناعته بقدرة الييشوف على إقامتها بالقوة العسكرية، وفي توجيه النقد إلى قيادة الحركة الصهيونية لتقصيرها في حشد كل الطاقات من أجل تحقيق هذا الهدف. فقد انتقد ميكونيس في مقالة له سياسة قيادة الحركة الصهيونية وقيادة الييشوف في جملة من القضايا التي تؤثر سلبًا في قدراتها على حشد طاقات اليهود المختلفة لإقامة الدولة اليهودية[19]. وادعى ميكونيس في مقالته أن عدم قيام القيادة الصهيونية بتفعيل الجماهير اليهودية الواسعة وتجنيدها في الانخراط في الأمن، وحصر توجّهها لإقامة الميليشيا الشعبية بالمسار القانوني، وعدم وقفها التعاون مع الإدارة البريطانية في فلسطين وعدم توافر الاستعداد لديها لإقامة المؤسسات المؤقتة للدولة اليهودية؛ كل ذلك يشير إلى عدم وجود "مبادرة قومية ثورية" لدى القيادة الصهيونية في هذه اللحظات المصيرية، وإلى استمرار نمط تعاونها مع الإمبريالية. وعدّ ميكونيس أن سياسة القيادة الصهيونية تنبع من عدم الثقة بالجماهير اليهودية ومن الخوف من مبادراتهم. وأضاف قائلًا: "نحن نعلم أنه توجد طاقات عظيمة كامنة في الطبقة العاملة وفي جماهير الشباب، وأنه يوجد استعداد كبير للانخراط في النضال في القضايا الحاسمة من أجل إقامة الدولة اليهودية المستقلة رغم العقبات من الداخل والخارج". وأردف قائلًا: "فلتقم هذه القوة ولتقف على قدميها ولتجنّد هذه القوة لخدمة الشعب والاستقلال، وليُضخّ دم جديد في عروق جيش التحرير الوطني" من أجل إقامة الدولة اليهودية[20].
وفي 26 كانون الأول/ ديسمبر 1947 أرسلت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي رسالة إلى الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، جاء فيها أنه رغم توجّه الحزب الشيوعي إلى الوكالة اليهودية في ما يخص حشد جميع الطاقات اليهودية في الجهد الأمني، فإن الحزب الشيوعي لم يتلقّ ردًّا. وأعربت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عن استغرابها من تأخر الوكالة اليهودية في الرد، في ضوء ما وصفته بالخطر المتربص بالييشوف، ما يستدعي وحدة كل قوى الييشوف[21].
ودعا مئير فلنر أيضًا، في محاضرة له في اجتماع شعبي في 3 كانون الثاني/ يناير 1948، إلى تجنيد جميع قوى الييشوف في الجهد الأمني، وإلى "وجوب النظر إلى حربنا كحرب معادية للإمبريالية ورؤية الإمبريالية عدوًا رئيسًا، واعتبار ’المشاغبين العرب[22]‘ عملاء للإمبريالية"[23]. وأكد شموئيل ميكونيس في مقالة له دور الطبقة العاملة اليهودية في "حرب التحرر القومي والاستقلال" التي يخوضها الييشوف اليهودي، ودعا الطبقة العاملة اليهودية إلى المطالبة بأن تكون الهاغاناه المنظمة العسكرية الوحيدة في صفوف اليهود؛ وذلك من أجل التصدي لـ "المؤامرات الإمبريالية وخدمها العصابات العربية التابعة للجنة العربية العليا"، فكل عاقل يهودي يدرك ضرورة إقامة قيادة واحدة لجميع قوى الأمن في الييشوف من أجل إقامة الدولة اليهودية المستقلة[24].
وفي 14 كانون الثاني/ يناير 1948 نشرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بيانًا وصفت فيه منظمة الهاغاناه بأنها "جيش الشعب"، ودعت إلى تزويدها بالسلاح والعتاد[25]. وورد في هذا البيان كثير من المغالطات المقصودة، وادعى البيان أن "الإمبريالية البريطانية تشنّ حربًا مكشوفة ضد الييشوف"، وأنها تحاول إحباط إقامة الدولة اليهودية، وتبذل كل ما في وسعها لإثارة الفوضى في البلاد، وأنها باتت تشلّ الإدارة الحكومية والخدمات الحيوية. وادعى البيان، كذلك، أن الإمبريالية البريطانية والرجعية العربية تقفان في جبهة واحدة ضد إقامة الدولة اليهودية، وأن اللجنة العربية العليا وقوى الرجعية العربية أعلنتا الحرب على الييشوف، وأن الإمبريالية البريطانية تدّعي أنها تقف على الحياد، ولكنها بخلاف ما تدّعيه تدعم "المشاغبين العرب"، ولا تفرض حصارًا على القدس فحسب وإنما على كل الييشوف أيضًا، وهي مستمرة في مصادرة سلاح الهاغاناه وفي اعتقال اليهود المدافعين عن الييشوف. ورغم كل ذلك أضاف البيان قوله: "لقد صمدنا وسنواصل الصمود والنضال من أجل وجودنا واستقلالنا القومي" بكل القوة والاستعداد للتضحية، مدركين أن "كل الشعب يقف معنا" إلى جانب قوى تقدمية كبيرة في الأمم المتحدة والعالم. وأكدت اللجنة المركزية أن الحزب الشيوعي يقف مع الييشوف، وأنه سيجنّد "الرأي العام التقدمي في العالم بأسره، للوقوف إلى جانب مطالبنا العادلة ولإقامة الدولة اليهودية المستقلة والديمقراطية". ونفى البيان أي صفة وطنية للفلسطينيين الذين كانوا يدافعون عن وطنهم ومدنهم وقراهم وممتلكاتهم، والذين كانوا يناضلون ضد إقامة دولة يهودية على أنقاض وطنهم وشعبهم، ووصفهم بأنهم "عصابات من المشاغبين" الذين يخدمون الإمبريالية البريطانية ويأتمرون بأوامرها. ودعا البيان إلى عزل "عصابات المشاغبين العربية" هذه عن بقية الشعب العربي الفلسطيني، وإلى ضربها بكل قوة[26].
وانسجامًا مع موقفه الداعي إلى فرض الدولة اليهودية بقوة السلاح على الشعب الفلسطيني، شدد الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي على ضرورة تجنيد كافة قوى الييشوف للعمل معًا لتحقيق هذا الغرض. وفي هذا السياق انخرط أعضاء الحزب الشيوعي وأنصاره في القتال في صفوف الهاغاناه، وفضّلت غالبيتهم الانضمام إلى قوات "البلماح"[27] التابعة للهاغاناه.
لا توجد معطيات رسمية بشأن عدد أعضاء الحزب الشيوعي وأنصاره الذين انخرطوا في صفوف الهاغاناه والبلماح ثم في الجيش الإسرائيلي، في حرب 1948. ولكن يمكننا أن نستشفّ عدد أعضاء الحزب الشيوعي وأنصاره الذين شاركوا في حرب 1948 من خلال معرفة عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الجيش الإسرائيلي في انتخابات الكنيست التي جرت في 25 كانون الثاني/ يناير 1949. فقد حصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي في هذه الانتخابات على 3000 صوت من بين صفوف الجيش الإسرائيلي[28].
وقد دعا الحزب الشيوعي طوال أيام الحرب، منذ بدء الاشتباكات يوم صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 حتى بداية سنة 1949، في قرارات مؤسساته والبيانات التي أصدرها، ومن خلال صحيفته الرسمية كول هعام وصحفه ونشراته الأخرى التي أصدرها حينئذ مثل كول هحيال (صوت الجندي) وكول هلوحيم (صوت المقاتل) وكول همجوياس (صوت المجند) وكول هنوعر (صوت الشبيبة)، إلى الانخراط في صفوف الهاغاناه والبلماح. وبعد تأسيس إسرائيل دعا الحزب، في وسائل إعلامه المختلفة، إلى الانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي. ولا يكاد عدد من أعداد هذه الصحف يخلو من دعوة الشباب اليهود، في إعلانات ونداءات خاصة موجهة إليهم، إلى الانخراط في صفوف الهاغاناه أو الجيش الإسرائيلي، ومن أمثلة ذلك: "أيها الشباب العبري لك الغد تطوع"[29]، و"لا تقل غدًا، تطوع اليوم"[30]، و"أيها الشباب العبري من أجل استقلالنا السياسي تطوع بسرعة"[31]، و"أيها الشباب العبري للدفاع عن العلم تطوع"[32]، و"أيها الضباط والجنود قوموا بواجبكم. تطوعوا لخدمة الشعب"[33].
إلى جانب ذلك، دعا الحزب الشيوعي طوال تلك الفترة في مختلف صحفه ونشراته إلى التبرع بسخاء للجهد العسكري من خلال مؤسسات الجباية الصهيونية، مثل: "إعلان حالة الطوارئ في إسرائيل. العدو على الأبواب ولا يهمنا سوى أمر واحد هو الانتصار في هذه الحرب. الانتصار بسرعة. أموال القرض القومي مخصصة لاحتياجات الحرب"[34]. وقد بلغت حماسة الحزب الشيوعي في الدعوة إلى جمع هذه التبرعات للجهد العسكري درجة لم تُمْحَ فيها الفوارق بينه وبين الأحزاب الصهيونية الأخرى فحسب، بل بات الحزب يتقدمها في رفعه الشعارات والأقوال الصهيونية المأثورة، كنشره في صحيفته كول هعام قولًا مأثورًا لمؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، ثيودور هرتزل، على نحو بارز: "أنا سأقوم بتدبير قرض قومي لليهود. لقد كان هناك المال اليهودي الوفير جدًا من أجل سيناء، ومن أجل مد سكك حديدية للزنوج، ومن أجل أكثر المشاريع مغامرة – أوليس بالإمكان إيجاد المال من أجل الضرورة المباشرة الأشد عمقًا والأكثر حيوية لليهود؟ ثيودور هرتزل 1895"[35].
(تعالج الحلقة الثانية رهان الحزب الشيوعي على الحل العسكري، وزيارة ميكونيس إلى دول أوروبا الشرقية، وهي رومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، بهدف حشد مختلف أنواع المساعدات سيما العسكرية، لفرض الدولة اليهودية بقوة السلاح في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني).

* نشرت هذه الدراسة في مجلة أسطور العدد 9 كانون الثاني/ يناير 2019، وهي جزء من بحث أشمل يعدّه الباحث لنشره كتابًا.
[1] بيرتس مرحاف، تاريخ الحركة العمالية في أرض إسرائيل: التطور الفكري السياسي (مرحافيا: هاكيبوتس هآرتسي، 1967)، ص 83 (بالعبرية).
[2] اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي، خمسون سنة لتأسيس الحزب الشيوعي في البلاد (حيفا: الحزب الشيوعي الإسرائيلي، 1970)، ص 35 (بالعبرية).
[3] محمود محارب، الحزب الشيوعي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية 1948-1981: دراسة نقدية (القدس المحتلة: [د.ن.]، 1989)، ص 12.
[4] سميح سمارة، العمل الشيوعي في فلسطين: الطبقة والشعب في مواجهة الكولونيالية (بيروت: دار الفارابي، 1979)، ص 157. للمزيد عن دور الكومنترن في تعريب الحزب الشيوعي الفلسطيني، انظر: المرجع نفسه، ص 169-176.
[5] "قرارات المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني"، في: إلياس مرقص (ترجمة وإعدادًا)، الأممية الشيوعية والثورة العربية: الكفاح ضد الإمبريالية، الوحدة، فلسطين، وثائق 1931 (بيروت: دار الحقيقة، 1970)، ص 121-173.
[6] محارب، ص 18.
[7] ولد شموئيل ميكونيس (1903-1982) في أوكرانيا لعائلة يهودية متدينة، وانضم في صغره إلى حركة "هحلوتس" الصهيونية، وهاجر من خلالها واستوطن في فلسطين في سنة 1921. تعلّم الهندسة في فرنسا، وفي سنوات 1933–1945 عمل مهندسًا في شركة "شل"، وبنى خلال وظيفته هذه قواعد عسكرية، وشقّ شوارع للجيش البريطاني في فلسطين. انضم في سنة 1939 إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني وأصبح أمينه العام في سنة 1944 بعد الانقسام الذي حصل في الحزب بين اليهود والعرب في ذلك العام. ظل أمينًا عامًّا للحزب الشيوعي، الذي غيّر اسمه إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل، حتى انشقاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي في سنة 1965.
[8] ولد مئير فلنر (1918-2003) في مدينة فيلنا في ليتوانيا. انضم في فيلنا إلى حركة "هشومير هتسعير" اليسارية الصهيونية، وهاجر من خلالها إلى فلسطين واستوطن فيها في سنة 1938. تعلّم في الجامعة العبرية في القدس وانضم إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني في سنة 1940، وأصبح في سنة 1943 سكرتير فرع الحزب الشيوعي في القدس. وفي سنة 1944 أصبح الرجل الثاني في الحزب الشيوعي الفلسطيني بعد شموئيل ميكونيس. ومئير فلنر هو الذي وقّع وثيقة استقلال إسرائيل في سنة 1948عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وبعد انشقاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي في سنة 1965 وخروج ميكونيس منه، أصبح مئير فلنر أمينًا عامًا للحزب الشيوعي الإسرائيلي.
[9] محارب، ص 19.
[10] تعني كلمة "الييشوف" بالعبرية مستوطنة أو استيطانًا، وتطلق مجازًا على مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين قبل تأسيس إسرائيل سنة 1948.
[11] اللجنة القومية، بالعبرية "هفاعد هليؤومي"، هي القيادة الرسمية لمجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين حينئذ.
[12] شموئيل ميكونيس، "نحو المؤتمر التاسع للحزب"، في: شموئيل ميكونيس، عواصف الزمن (تل أبيب: اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي، 1969)، ص 35-45 (بالعبرية).
[13] "كلمة مئير فلنر في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الفلسطيني"، كول هعام، 5/12/1946. صحيفة كول هعام (صوت الشعب) هي لسان حال الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العبرية، بدأت في الصدور سنة 1937 بوصفها نشرة شهرية، ثم تحولت سنة 1942 إلى أسبوعية. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1944 منحت سلطات الانتداب البريطاني صحيفة كول هعام تصريحًا للصدور، فأخذت تصدر منذ 20 كانون الأول/ ديسمبر 1944 بشكل قانوني، وفي شباط/ فبراير 1947 تحوّلت كول هعام إلى صحيفة يومية، وظلت لسان حال الحزب الشيوعي الإسرائيلي حتى انشقاق الحزب الشيوعي سنة 1965.
[14] "إعلان الحزب الشيوعي"، كول هعام، 16/5/1948.
[15] كول هعام، 30/11/1947.
[16] شموئيل ميكونيس، "في أيام الامتحان هذه"، كول هعام، 5/12/1947.
[17] بيان الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي، "لئلا تصبح حياتنا مستباحة! لتعطَ الهاغاناه وضعًا قانونيًا"، كول هعام، 11/12/ 1947.
[18] كول هعام، 25/12/1947.
[19] شموئيل ميكونيس، "من روتين الماضي إلى طريق جديد"، كول هعام 26/12/1947.
[20] المرجع نفسه.
[21] كول هعام، 28/12/1947.
[22] استعمل فلنر والحزب الشيوعي الإسرائيلي مصطلح "هبورعيم هعرفيم"، تمامًا كما كانت الأحزاب والمنظمات العسكرية الصهيونية تستعمله، لوصف المناضلين الفلسطينيين الذين كانوا يدافعون عن وطنهم، ومعنى هذا المصطلح هو: المشاغبون العرب أو المعتدون العرب، ولكنه يحمل معاني سلبية أكثر من ذلك، فهو مشتق من فعل "برع" (פרע) ويعني اعتدى على، نكّل بـ، ومن المصدر "برعوت" (פרעות) ويعني اعتداءات، حوادث شغب، مذبحة، حوادث دموية.
[23] كول هعام، 7/1/1948.
[24] شموئيل ميكونيس، "جمهور العمال إزاء الوضع"، كول هعام، 9/1/1948.
[25] بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي، "سلاح وعتاد للمدافعين"، كول هعام، 14/1/1948.
[26] المرجع نفسه.
[27] البلماح هي اختصار لكلمتي "بلوغوت ماحتس" اللتين تعنيان بالعبرية كتائب "السحق" أو "كتائب الانقضاض"، وقد كانت القوة العسكرية الضاربة الأكثر تدريبًا ومهنية لمنظمة الهاغاناه، ووصل عدد أفرادها في حرب 1948 إلى نحو 6000 عنصر، وهي التي ارتكبت معظم المجازر في حق الفلسطينيين في حرب 1948، وكان من أبرز قادتها يغآل ألون ويسرائيل غليلي وموشيه ديان وحاييم بارليف وإسحاق رابين.
[28] "شهادة ميكونيس"، في المقابلات التي أجراها معه لاودر منور من قسم التاريخ الشفوي في معهد ترومان في الجامعة العبرية في القدس، في كانون الأول/ ديسمبر 1975، الممتدة على مئات الصفحات، والمحفوظة في أرشيف معهد لافون، ملف 1v-104-85-151A، ص 97.
[29] كول هعام، 16/12/1947.
[30] كول هعام، 17/12/1947.
[31] كول هعام، 18/12/1947.
[32] كول هعام، 19/12/1947.
[33] كول هعام، 18/2/1948.
[34] كول هعام، 21/5/1948.
[35] كول هعام، 27/6/1948.

المصدر : عرب48
1