تعتبر طريقة التعامل مع الفئات الضعيفة في المجتمع، مقياساً لتطوّر المجتمع ووعيه وأخلاقياته ومستوى المعيشة فيه. على رأس الفئات الضعيفة في المجتمع هم المسنون، حيث تضعف مناعتهم الجسدية، وتهاجمهم الأمراض، وتهتز ثقتهم بأنفسهم، وقد تتأثر حالتهم النفسية، ومن ثم قدرتهم على تقييم ما يدور من حولهم بشكل صحيح، وقد يصل الضعف ببعضهم إلى درجة العجز عن خدمة نفسه.
أظهرت أزمة وباء كورونا، تفاوتاً في التعامل مع المسنين، بين مجتمع وآخر، أولا من حيث الخدمات الصحية والعناية الجديّة، ثم مراعاة الجيل الشاب والأقوياء لوضع كبار السن. في بعض بيوت رعاية المسنين وفي دول غنية، تُرك المسنون ليواجهوا مصائرهم، هذه فضائح حدثت في إسبانيا وفي السويد وإيطاليا في مرحلة ما من انتشار الفيروس. إلى جانب هذا، فكثير من الشبان لم يتوّخوا الحذر، حيث أنهم لم يخشوا الفيروس وتحدّوه، واعتبروا مناعتهم كافية للمقاومة، ولم يهتموا بأنهم قد ينقلون الفيروس إلى المسنين. هذا الاستهتار اللامبالي من قبل بعض الفئات الشابة، كان سبباً مهماً في انتشار كورونا. إلا أنه ومع زيادة انتشار الفيروس وتهديده لحيوات أناس في سن الكهولة والشباب، صاروا يأخذونه بجديّة أكبر، فالخطر بات محدقاً بالجميع.
على رأس المستهترين بالضعفاء، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يتباهى في هذه الأيام أمام الأمريكيين بأنه انتصر على الفيروس، وما زال مصرّا على تناول الأمر بتبسيط واستخفاف، وفي أنانية مفرطة مستخفة بسلامة الضعفاء من المواطنين، بل إنه استثمرها سياسياً، ووجّه اتهامات للإدارات الديمقراطية (الزرقاء) في بعض الولايات، بأنها هي السبب في ارتفاع عدد الوفيات، نتيجة سوء في إدارة أزمة كورونا. يحمل المسنون في كل مكان، الحكمة، والتجربة، والتاريخ الشفوي لشعوبهم، ولأحداث كثيرة مرّت بها بلدانهم ومعظمها لم يوثّق، وأجزم بأن التاريخ الفلسطيني الشفوي الذي لم ينقل بعد إلى وثائق ولم يكتب، هو أكثر بكثير مما كُتب ووثّق حتى الآن، فلكل مسن أكثر من قصة مع بقائه، أو تشتت أسرته، ومع السلطات، حيثما كان، سواء في فلسطين أو خارجها، ومع التحديات الهائلة التي واجهها، كي يواصل العيش، ثم تربية الأمل في نفوس أبنائه بمستقبل أفضل، إضافة إلى هذا فهم المصدر الأول لجمع التراث، سواء كان هذا تراثاً فلسطينياً أو غيره من تراث الشعوب، الذي يشمل القصص المتوارثة والألعاب والعادات والتقاليد والأناشيد والأطعمة والعادات الاجتماعية مثل، طقوس الأفراح والأتراح وغيرها، ولهذا فهم كنز ومنجم من واجب الجيل الشاب أن يحافظ عليه وأن يستخرجه منهم، وإذا كان جمع التراث مهماً لكل شعب، فلجمع تراث شعبنا الفلسطيني أهمية خاصة، وكما هو معروف، فالسلطات الإسرائيلية تعمل بصورة منهجية على اختطاف هذا التراث ومصادرته، وحتى اعتباره تراثاً إسرائيلياً، مثله مثل البيوت والقرى والمدن والأرض المصادرة.
يسجل للمجتمعات العربية عموماً بأنها تنظر إلى المسنين نظرة احترام وتقدير، وهذا له دوافعه الاجتماعية والدينية، وهو جزء من الشخصية العربية السويّة، فالناس يقدّرون الشاب الذي يحترم والديه المُسِنين، ولهم في هذا قصص وعبر كثيرة، وغالباً ما تمر مرحلة الشيخوخة بصورة محترمة، أو لنقل مقبولة. وقد سمعت أكثر من مرة من بعض اليهود، أنهم يتمنون لو أنهم يحصلون على التقدير والاحترام الذي يحظى به المسنون في المجتمع العربي.
إلا أنه رغم التوجه الاجتماعي الأخلاقي والديني تجاه المسنين لدى الشعوب العربية، فإن دَوْر الدولة والمؤسسات الرسمية يبقى هو المعيار والأساس، وهناك إحصاءات ليست مشجّعة في تعامل معظم الدول العربية مع المسنين وتوفير ما يحتاجونه من مسكن ورعاية صحية واستيعاب للقادرين منهم في سوق العمل.
لقد قرّرت هيئة الأمم المتحدة يوم الأول من أكتوبر من كل عام، اليوم العالمي للمسن. ومن معطيات الأمم المتحدة يتبين أن الدول الأوروبية، خصوصاً الاسكندنافية، تحتل المرتبات المتقدمة، في سلّم خدمات المسنين، ومؤسف جداً أن تحتل الدول العربية مراتب متأخرة قياساً بالدول الأخرى، رغم تقاليدنا الاجتماعية والدينية التي تحث على احترام المسنين. هذا التخلّف، له صلة مباشرة بالأزمات التي يعاني منها الأصحّاء والأجيال الشابة والوضع العام، ولكنها تصل الضعفاء والمسنين بصورة أشد فظاظة، فالتعامل مع الشرائح الضعيفة لا يمكن فصله عن مستوى الحياة العام وإدارة النظام.
في البلاد التي لا تكفي الرواتب فيها لإنهاء الشهر حتى لأساتذة جامعات، وفيها الكثير من الفساد والتواطؤ معه، فلا بد أن تكون معاناة الضعفاء والمسنين أشدّ وطأة، وهذا يعني بأننا إذا أردنا إصلاح حال ومكانة المسنين في المجتمعات العربية، يجب أن نصلح حال الشباب والأطفال، ونظام الحياة بِرُمّته.
كرامة المُسنين من كرامة الشّباب!!
بقلم : سهيل كيوان ... 15.10.2020