الأسلحة لا تربح الحروب وحدها، بل بالعمل الاستخباراتي أيضاً، الأسلحة عمياء بلا عيون استخبارية محلية، لذلك استفادت دولة الصهاينة من اتفاقية أوسلو أمنياً واستخباراتياً كثيراً، التنسيق الأمني كان؛ ما زال، أهم بند فيها؛ من وجهة نظرهم، طالما حافظت السلطة الفلسطينية على هذا البند والتزمت به، ستبقى قائمة، بغضّ النظر عن تصريحات قادتها في وسائل الإعلام، أو خطاباتهم في منابر الأمم المتحدة، التي تدين أفعال دولة إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، فالحماية الأميركية ــ الأوروبية ستحبط أي قرارات صادرة عن المؤسسات الدولية، وتحيل أي إجراء إلى مجرد حبر على ورق.
الأمن هو المهم، لأنه يمنع أي عمل عسكري، أو بالأحرى فدائي، ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه ومصالحه، تطلق عليه، العمل العسكري، الأجهزة الأمنية الصهيونية "عمليات تخريبية".
بدأ أوسلو عبر اتفاق مبدئي، أُطلق عليه "غزة - أريحا أولاً"، وأصبح مأزوماً اليوم، إذ تعالت الصيحات من جانب طرفي الاتفاق من أجل إلغائه، لكن إلغاءه ليس سهلاً، فهو ليس ورقة تمزق، أو مجرد اتفاق سياسي، الجانب العملياتي في الاتفاق هو الأهم، لكونه اتفاقاً تبادلياً ضمن معادلة "أموال المقاصة والتمويل الدولي وحماية أمن السلطة من الأعداء الداخليين، مقابل حماية أمن دولة الاحتلال من الأعمال الفدائية"، الجانب العملياتي معلن في نصوص الاتفاق، ولو بعبارات مختلفة.
الجديد في الإعلان أن الفصائل باتت تتوارى خلف الكتائب، التي حملت أسماء مناطقية
عندما أرادت دولة الصهاينة والولايات المتحدة تجاوز السلطة وإنهاء دورها، من خلال ما عُرف بـ"مبادرة ترامب"، ذَكرَ الرئيس محمود عباس قيادة الدولتين، قائلاً: "إن المعلومة التي نقدمها لهم لا يستطيع أحداً غيرنا تقديمها"، ذلك في خطابه من على منبر جامعة الدول العربية في القاهرة، الموجه إلى وزراء الخارجية العرب. أشار الخطاب إلى الدور الاستخباراتي الكبير الذي تضطلع به الأجهزة الأمنية الفلسطينية، من خلال تعاونها مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وجهاز "الشاباك" الصهيوني، في ما يسمى العمل الوقائي، الذي يهدف إلى احباط أي عمل يضر بمصالح الدولتين.
إذا حللنا ما قصده الرئيس عباس، خلف تلك العبارات، سنعلم أنها حملت تهديداً بوقف التعاون الأمني. تدرك الدولتان، الولايات المتحدة وإسرائيل، جيداً أن وقف التعاون الأمني يعني دخول دولة الصهاينة في دوامة عنف ستشل حركتها. لذلك، مع معرفة قيادة السلطة قيمة التنسيق الأمني وفاعليته في كبح النضال المسلح الفلسطيني، مارسته باقتدار، وتحولت إلى ماسة ثمينة لكلتا الدولتين، إذ أحبطت السلطة كثيراً من المخططات التي أرادت المسّ بدولة الصهاينة، وافتخرت بها، لأنها ترى في ما فعلت حفاظاً على وجودها واستمرارها، بالرغم من فشلها سياسياً في تحقيق أي اختراق، كما في منع تطور العلاقات الصهيونية وتطبيعها مع المحيط العربي.
فشلت محاولات التسوية، وتحولت الصيغة بعد ثلاثين عاماً من أرض مقابل السلام، إلى سلام مقابل الأمن، وسلام مقابل المقاصة وفتح المعابر وتوسيع مساحات الصيد في بحر غزة. بينما تأقلمت الفصائل مرغمةً مع وقائع القوة والضغوط الإقليمية، لم يتأقلم الشعب، لذا تشكلت الكتائب المسلحة خطوةً متقدمةً لمجموعة من الأعمال الفدائية الفردية، صنفت نابلس وجنين بؤراً ثوريةً متمردةً، اقتحمتها قوات الاحتلال مرات عدة، والنتيجة قتل ودمار، في مقابل صمود وقتال وتضامن من سكان المحافظتين وعموم الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مع الفدائيين.
الظاهرة الأهم، أن أغلب الأبطال الفدائيين أبناء قيادات الأجهزة الأمنية، أو كوادر غاضبة من حركة فتح. هذا يذكرنا بانتفاضة الأقصى، عندما فجرت فتح الانتفاضة الثانية عام 2000، فتح التي كانت خلف اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، تشهد اليوم تمرداً وتحولات؛ قاعدية وعليا، يرفض حالة الإذلال الصهيوني، والضعف القيادي، ويبحث عن التحرر، بعد انكشاف وهم التسوية السياسة والتصالح مع الصهيونية الفاشية العنصرية، التي تشن حرباً لا هوادة فيها على كامل الوجود الفلسطيني.
أنتجت ظاهرة الكتائب الفدائية المسلحة قيادات ميدانية تناضل من أجل تغيير الواقع المهين إلى ثورة، وتنشر بيانات إعلامية، تطرح فيها وجهة نظرها من الأحداث، وتذكر بعضاً من عملياتها الميدانية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، ظاهرة الكتائب وعرين الأسود امتدت إلى مناطق أخرى، أبرزها القدس وأريحا.
أريحا كانت أول بلدة دخلتها قوات منظمة التحرير الفلسطينية، عام 1994، نتيجة إعلان المبادئ في أوسلو، دخلت هي الأخرى على خط المواجهة، حيث نفذ فدائيون هجوماً خاطفاً على مستوطنة ألموغ المقامة على أراضي المحافظة، تمكن الفدائيون من الفرار بعدها، ثم حاصرت قوات الاحتلال مدينة أريحا ومخيمها عقبة جبر، بغرض اعتقال المطلوبين وسط اشتباكات عنيفة مع مجموعات فدائية فلسطينية في المخيم، لكنها فشلت مرتين، ما يدل على أنها تعمل بلا عيون، أي بلا عملاء يراقبون ويبلغون، التنسيق الأمني سقط، ولو تكتيكياً، اتفاقية غزة - أريحا قد تتحول إلى تاريخ بلا مفاعيل.
استفادت دولة الصهاينة من اتفاقية أوسلو أمنياً واستخباراتياً كثيراً، التنسيق الأمني كان؛ ما زال، أهم بند فيها
السلطة التي صُنعت لتصل بالشعب الفلسطيني إلى الدولة المستقلة، تبحث عن مخرج يعيد لها ثقة الشعب، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالطلاق مع مفاعيل أوسلو الأمنية والاقتصادية، فهي تمر اليوم بمرحلة مخاض، غير واضح النتائج.
شعبياً، اختار الناس مسارهم، إما تلتحق السلطة بهم، بأجهزتها الأمنية والعسكرية، ومعها كل ما يطلق عليه تسمية فصائل وطنية وإسلامية، أو بات الطريق مفتوحاً أمام فصائل وقيادات شابة أقرب إلى الشعب وتطلعاته.
كوادر من فتح والجهاد الإسلامي كانوا الطليعة الفدائية في جنين ونابلس، فيما تتحدث التسريبات عن انتماء خلية أريحا إلى حركة حماس، هل الهجوم مُنسق مع قيادة الحركة، أم هو ضمن التمرد الحاصل في أجهزة أمن السلطة والفصائل؟ هل هي أعمال فردية أم منسقة؟ الصورة غير واضحة الآن، لكن الأهم حالياً تضامن الشعب في محافظة أريحا ومخيمها مع الفدائيين، أي الحاضنة الشعبية، التي توفر للفدائيين الحماية والملاذ الأمن.
غزة ــ أريحا أولاً، غزة كانت التمرد الأول، وأريحا لا تبدو الأخير، تعبت القيادات القديمة واتكأت على أرائكها الفاخرة، وعاشت البذخ، بعدما يئست من حروب التحرير ومن هزيمة العدو، هناك مقولة هندية تقول: "الحروب تخيف أولئك الذين لم يكسبوا أياً منها فقط، لكنها لا تخيف شباباً لديهم الاستعداد للتضحية".
الحياة مع الذل والاحتلال والقمع ليست حياة، طريق الخلود أحلى وأجمل وأفضل، هل نحن في خضم الانتفاضة الثالثة، أم ما يحدث موجة صغيرة تتلوها موجات أخرى تؤدي إلى الانفجار الكبير؟ استخبارات العدو وحلفائه في الولايات المتحدة تتحدث عن رمضان الغضب، شهر رمضان القادم موعد لانتفاضة كبرى، ولا شذرات أمل لوقفه عبر حلف الأعداء، العدو لا يمنح السلطة سلماً سياسياً للنجاة، ولا لنزع فتيل الانفجار، لذلك أريحا قد لا تكون آخر التمرد، بل حلقة من حلقاته، التي ستشمل كل قرية ومدينة فلسطينية، ما يحصل هو عودة الروح وبشارات أمل فلسطينية لتغيير الواقع الفاسد، إلى واقع صحي سيقود عاجلاً أو آجلاً إلى التحرر والتحرير والعودة.
المميز في العملية التي حدثت في أريحا والرد عليها، أن أريحا من أولى المدن التي صنفت (أ)، إذ بقيت أريحا منطقة آمنة أكثر من غيرها.
انطلقت خلية "القسام"، التي نفذت العملية الفدائية، من مخيم عقبة جبر، بعد تصفية الاحتلال من يدعي أنهما منفذا العملية، رأفت وإبراهيم وائل عويضات، أعلنت المجموعات الفدائية في المخيم انطلاق "كتيبة مخيم عقبة جبر". الجديد في الإعلان أن الفصائل باتت تتوارى خلف الكتائب، التي حملت أسماء مناطقية، هل هي بداية تعاون يتجاوز الفصائلية؟ أم أن الفصائلية باتت ممقوتة فلسطينياً، ومن أجل استعادة الثقة بالمقاومة وتوسيعها وجب الإيثار، أسئلة ستجاوب عنها الأيام أو الشهور القادمة، لكن المؤكد أن الكفاح المسلح استعاد قيمته، وبات مرة أخرى خياراً أساسياً لدى الشعب الفلسطيني، فالإجرام الصهيوني لن يوازيه إلا العمل الفدائي المسلح. هذه قناعات الجيل الجديد، وعلى الكبار الذين جربوا ما يُسمى الحكمة، التواضع أمام من ركبوا مركب التضحية والفداء.
**المصدر :العربي الجديد
بؤر الفدائيين تتمدد وآخرها أريحا!!
بقلم : علاء أبو عامر ... 27.02.2023