أحدث الأخبار
الأحد 05 كانون ثاني/يناير 2025
بعض تطوّرات 2024: غزّة وأمور أخرى!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 02.01.2025

كان عام 2024 زاخرا بالأحداث والتطوّرات والتقلبات في عديد من المجالات، لكن لا شيء في الدنيا اليوم، يوازي ما حلّ بغزّة هذا العام. وكان من المفروض أن يكون الحديث عنها فقط، ولكن، من جهة أخرى، علينا ألا نخضع للإملاءات الإسرائيلية، المنصبّة على تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم، وعلى حصر تفكيره في الجحيم. وعليه قررت بعد تردد، أن أكتب عن بعض الأمور الأخرى أيضا، مع عدم إنكار الحاجة للاعتذار عن ذلك.
الحرب: غزّة
واصلت إسرائيل طيلة العام حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة، ولم تتوقف عن ارتكاب جرائمها الوحشية يوما واحدا. ومع نهاية العام وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 45 ألفا، وعدد الجرحى حوالي 110 آلاف، وهدمت أكثر من غالبية المباني، وأصبح معظم سكان غزة لاجئين في بلدهم، يسكنون الخيام والمباني العامة. وقد أصاب الدمار الرهيب المستشفيات والمدارس والجامعات، والجوامع والكنائس، والمصانع والمزارع والكروم.
مهما كان الخذلان من القيادات الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية، فإن الشعب الفلسطيني هو شعب جبّار سينهض متمسكا بحقّه في الحياة مثل شعوب الأرض
حدث هذا كله وبقيت علاقات إسرائيل بدول العالم في حالة طبيعية أو شبه طبيعية، بما فيها الدول العربية والإسلامية، التي لها علاقات مع الدولة الصهيونية. وفي المحصّلة فشل المجتمع الدولي فشلا ذريعا في وقف آلة القتل الإسرائيلية، التي ظلت تعمل ليل نهار بلا توقف، وكأنها ماكينة ضخمة تقتل بشكل أداتي مبرمج. وهذا ليس بعيدا عن الحقيقة فقد استعملت الدولة الصهيونية في حربها على غزّة برامج ذكاء اصطناعي معدّة لتحديد أهداف القصف، وفق خوارزميات ومعادلات ومفاتيح لعدد القتلى من المدنيين مقابل المقاتلين، وذهب الآلاف ضحية تسخير آلة الحرب الإسرائيلية لآليات الذكاء الاصطناعي. لقد كان العام الماضي فظيعا بكل المقاييس، ولا يبدو أن العام المقبل سيكون أقل فظاعة، الّا إذا حدث انقلاب في السياسة الفلسطينية والسياسات العربية. نتنياهو لا يناور حين يقول إنه سيواصل الحرب حتى النهاية، والنهاية بالنسبة له هي تقويض حركة حماس وتدمير غزة بالكامل، حتى لا تعود صالحة للحياة البشرية. وإسرائيل تفعل ذلك لأن خطّتها الفعلية هي احتلال غزة وتهجير أهلها، ولأن التهجير فشل إلى الآن، تلجأ إلى القتل والمزيد من القتل، بانتظار أن تلوح فرصة اقتلاع أهل غزة من غزة. وأمام هذا الحدث الفظيع والمهول، هناك حاجة لتحرّك فلسطيني نضالي وسياسي، ينطلق من وحدة وطنية فعلية وقيادة موحّدة لجميع الفصائل لإنقاذ ما تبقّى من غزة، والبدء ببنائها من جديد. هذا هو إجماع الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، ولا يشّذ عن هذا الإجماع سوى مجموعة صغيرة من القيادات، التي ما زالت تعيش الماضي، ولم تستوعب فعلا هول ما حدث، وتواصل تغليب المصلحة الفئوية الضيّقة والعابرة على حساب المصلحة الوطنية، وعلى حساب الشعب الذي يستصرخ ويستنجد ويتمزق جسدا وروحا.
لقد استشهدت قيادات فلسطينية ولبنانية من الصف الأول، ومنها في فلسطين يحيى السنوار وإسماعيل هنية وصالح العاروري، واستشهد في لبنان السيد حسن نصر الله وهاشم صفي الدين وفؤاد شكر. ليس المطلوب من القيادات الفلسطينية المتنفّذة أن تعرّض حياتها للخطر مثلهم، بل أن تخرج من «منطقة الراحة»، التي اعتادت عليها، وتتحرّك لإنقاذ شعبها، وليرى شعبها ـ ما لم يره إلى الآن – أنّها تحاول إنقاذه فعلا، وإن لم تفعل فهي تتحمّل مسؤولية تاريخية من الوزن الثقيل. أملنا في العام الجديد أن نشهد تغييرا جذريا في الفعل السياسي والميداني الفلسطيني يتبعه تحرّك عربي جدّي ويلحقه حشد ضغط عالمي على الدولة الصهيونية حتى توقف المجزرة أولا، مع مواصلة ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في المحاكم الدولية. هذا ممكن، وهذا رهن الإرادة السياسية لمتخذي القرار، حتى في عهد ترامب. ولكن مهما كان الخذلان من القيادات الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية، فإن الشعب الفلسطيني هو شعب جبّار سينهض متمسكا بحقّه في الحياة مثل شعوب الأرض، ولعلّه يسمع صدى كلمات شاعرنا الفلسطيني: «ادفنوا موتاكم وانتصبوا، فغد ـ لو طار ـ لن يفلت منا».
سوريا: نهاية حقبة
هرب بشّار الأسد من دمشق إلى روسيا، واستلمت المعارضة السلطة. ومهما كانت التقييمات والتكهنات بشأن سياسات «هيئة تحرير الشام»، والتطورات السياسية والأمنية والاقتصادية المقبلة، فإن الأمر المؤكّد هو أن حكم عائلة الأسد، الذي استمر ما يزيد عن نصف قرن قد ولّى وانقضى. وما حدث في الثامن من ديسمبر 2024 هو نهاية حقبة في سوريا، ليبدأ معها صراع حول طبيعة وشكل الحكم وحول ملفات شائكة، يستغرق تجاوزها سنين طويلة وربما عقود من الزمن، في ظل الدمار الهائل الذي خلّفه الأسد والأسديون. القضايا التي تواجه سوريا اليوم هو من النوع الضخم جدا، أوّلها المحافظة على وحدة الشعب السوري كشعب واحد فيه تنوّع وتعددية، وثانيها، حماية سلامة المواطنين بجيش واحد وأمن واحد، وثالثها، نهوض اقتصادي يشمل التنمية وإعادة الإعمار واستيعاب العائدين ومحاربة البطالة والفقر. على هذه الأسس يمكن بناء نظام ديمقراطي تعددي يحترم المساواة وكرامة وحرية وحقوق الإنسان. يجب حسم المنافسة السياسية في صندوق الاقتراع لا بالبنادق والرصاص. ومن يخشى، أو يتحجج أنّه يخشى، أن يؤدّي الانفتاح الديمقراطي إلى تفكّك المجتمع طائفيا وجهويا، عليه أن يعي بأن البديل، أي فرض الاستبداد من جديد، قد يؤدي إلى عودة الحرب الأهلية.
تطورات علمية
شهد العام 2024 عديدا من التطوّرات العلمية والتكنولوجية من الوزن الثقيل. فقد أعلنت شركة غوغل عن نجاحها في تطوير حاسوب كمومي يعمل بسرعة تفوق مليارات المرّات أسرع حاسوب «تقليدي» معروف. وفي ظل الاستثمارات الهائلة في الصين والولايات المتحدة ودول أخرى في هذا المجال، فإن ثورة تكنولوجية كبيرة على الأبواب. وشهد العام أيضا طفرات في عالم الذكاء الاصطناعي، كان من بينها تحديد الشكل الدقيق لملايين البروتينات، ما يعتبر ثورة في عالم الطب وعلم الأحياء الجزيئي، ستتبعها طفرات كبرى في مجالات كثيرة. لكن المصيبة أن الذكاء الاصطناعي يستخدم عند المجرمين في «تطوير» جرائمهم كما فعلت قيادة الدولة الصهيونية في حرب الإبادة في غزة، حيث تحوّل الذكاء الاصطناعي عندها إلى «شريك في الجريمة». يمكن أن نعدد العشرات من الإنجازات العلمية هذا العام، لكنّي سأشير هنا إلى اختراق مهم في مجال عقاقير تخفيف الألم، أو كما يسميها الأمريكيون «قاتلة للألم – بين كيلرز». فقد أعلنت شركة «فيرتكس» عن نجاحها في تطوير مسّكن غير أفيوني للآلام، ليست له آثار جانبية صعبة، كالتي يسببها المورفين ومشتقاته، وبالأخص «الفينتانيل»، الذي أدّى في السنوات الأخيرة إلى موت مئات الآلاف في الولايات المتحدة وحدها، إضافة إلى الأضرار الصحية والنفسية الجسيمة المرافقة لاستعماله من قبل الملايين. هو يستعمل كثيرا لأنّه دواء قوي (أقوى من المورفين بمئة مرّة) ولأنه رخيص نسبيا. أن تطوير دواء لعلاج الآلام المبرحة بعد العمليات الجراحية وتلك المرافقة للكثير من حالات السرطان وأوجاع شديدة أخرى مختلفة المصدر، هو بشرى للبشرية، خاصة حين يكون الدواء آمنا ولا تلازم استعماله أضرار جانبية مهمة. ومن المتوقع أن تصدر إدارة الأدوية والغذاء الأمريكية قرارها النهائي بشأن الدواء الجديد هذا الشهر، بعد أن اجتاز مراحل التجارب السريرية كلّها، وعندها سيكون أول دواء من نوع جديد من عقاقير تسكين الآلام منذ عشرين عاما، ولا يعمل الدواء الجديد في جهاز الأعصاب المركزي مثل المورفينات، بل في جهاز الأعصاب الطرفي من خلال سد قنوات نقل الشعور بالألم إلى النخاع الشوكي والدماغ.
لقد اخترت هذا الموضوع لأسباب شخصية أيضا، فقد عملت في حينه ضمن طاقم بحثي لتطوير دواء لا أفيوني مضاد للآلام الشديدة، وقد نجح الدواء في التجارب على الحيوانات، واجتاز المراحل الأولى في التجارب على البشر، لكن لم يجتز المرحلة الأخيرة وعليه لم يصادق على تحويله إلى دواء في السوق. وأنا على ثقة بأن دواء شركة «فيرتكس» الجديد لن يكون الأخير، بل سيحفّز على استثمار جهود وطاقات علمية لاستبدال «الفينتانيل» وغيره من المورفينات ذات الأضرار الجانبية الشديدة وحتى القاتلة. باختصار عام 2024 كان فظيعا على شعبنا الفلسطيني، وبدرجة أقل على شعوب كثيرة أخرى، لكن الأمل والعمل الإنسانيين لأجل حياة أفضل وأسعد، يجب أن يحولا أيضا دون ارتكاب الفظائع وجرائم الحرب في كل زمان ومكان بما في ذلك فلسطين الجريحة.

1