أحدث الأخبار
الأحد 04 أيار/مايو 2025
تونس العطشى... صراع على المياه بين الفلاحين والمستثمرين!!
بقلم : جيهان نصري ... 03.05.2025

يتنافس صغار الفلاحين التونسيين مع كبار المستثمرين على مياه الآبار الجوفية، في ظل أزمة جفاف غير مسبوقة منذ ستة أعوام، كان من ضحاياها رئيس وزراء أقيل من منصبه خلال العام الماضي، لتنتهي محاولة إيجاد حلول بديلة.
- ضاقت الدنيا في وجه المزارع التونسي عبد الوهاب البرقاوي، بعدما نظر لأشجار الكرز (يسمى محليا حب الملوك) الجافة، فلطالما زينت ثمارها جهة البحيرين التابعة لمعتمدية برقو، بولاية سليانة، شمال غربي تونس، والسبب "ضَعُف مردود الآبار ما أدى إلى ذبول الثمار". يقول البرقاوي لـ"العربي الجديد"، إنه وجيرانه يواجهون منذ سنوات الانقطاع المتكرر للمياه بعد تراجع منسوبها، ليتدهور الإنتاج الزراعي ومعه أحوالهم الاقتصادية.
ينسحب الحال ذاته على مزارعي تونس ممن يعانون تبعات نقص الموارد المائية، فحتى المناطق السقوية (فيها موارد ري ثابتة كالآبار والمجاري المائية)، كالبحيرين الممتدة على 600 هكتار وفيها سبع جمعيات مائية للري وجمعية للتنمية الفلاحية الغابية وسبع آبار عمقها 160 مترا، فشلت في مواجهة تداعيات الجفاف، بحسب رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة والصيد البحري ببرقو وليد الميموني، الذي أكد تراجع الإنتاج وعزوف الفلاحين عن زراعة الخضروات تقليلا لاستهلاك الماء والاقتصار على الأشجار المثمرة كالتفاح والعنب والتين والكرز.
وحتى هذه الإجراءات لم تنقذ إنتاج الفواكه، كما يتضح من بيانات نشرة "الميزان الاقتصادي لقطاع الفلاحة والصيد البحري لعام 2025" الصادرة عن وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 والتي تشير إلى تراجع الإنتاج في موسم 2023/ 2024 مقارنة بـ2022/ 2023، فقد تقلص إنتاج التفاح بنسبة 23.7%، وبعدما كان 139 ألف طن صار 106 آلاف طن، بينما تراجع إنتاج العنب بنسبة 2% من 148.5 إلى 145 ألف طن، فيما هبط إنتاج التين بنسبة 9.5% من 21 إلى 19 ألف طن، وعزت النشرة الحكومية تراجع الإنتاج لـ"نقص المياه وارتفاع درجات الحرارة، خاصة في مرحلة تكون الثمار".
إقالة رئيس للحكومة
رغم وجود تونس ضمن أكثر 25 دولة تضررا من الإجهاد المائي بفعل التغيرات المناخية حسب بيانات معهد الموارد العالمية (منظمة بحثية غير ربحية في واشنطن)، في عام 2023، لا يزال استغلال المياه مؤطراً بقانون يعرف محلياً بـ"مجلة المياه"، صدر في مارس/ آذار 1975، ومراجعته كانت الحل الأمثل للأزمة، برأي رئيس الحكومة السابق أحمد الحشاني (أغسطس/ آب 2023 – أغسطس 2024)، الذي وصفه خلال أعمال مجلس وزاري مصغر حول مشروع مجلة المياه الجديدة في 26 مارس 2024 بأنه "لم يعد يواكب الوضع الحالي للمياه في البلاد، خاصة في ظل انعكاسات التغيرات المناخية على منطقة البحر المتوسط"، وكلف الحكومة بمراجعته ووضع أحكام جديدة للتصرف في الموارد المائية، بجانب تعزيز الحلول البديلة، كتسريع استغلال محطات تحلية مياه البحر، إلا أن هذا النهج قوبل برفض تام من الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي أكد خلال معاينته عددا من السدود في ولايات جندوبة والقيروان والمنستير ومنطقة قرمبالية في 23 يوليو/ تموز 2024 أن "المياه متوفرة والسدود مليئة"، متهماً "عصابات ومجرمين" بالتسبب في انقطاعات المياه، لينتهى الأمر بإقالة الحشاني في الثامن من أغسطس 2024 وعدم عرض مشروع القانون الجديد للمجلة المائية على البرلمان، لتظل مجلة المياه - القانون 16 لسنة 1975- مفعلة.
كيل بمكيالين
خلال عامي 2018 و2019 تقدم عدد من مزارعي "البحيرين" بمطالب رسمية للمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية من أجل الحصول على ترخيص لحفر آبار لري أراضيهم واستصلاح المزيد منها ودعم إنتاج الفواكه بالإضافة لتأمين مياه الشرب، لكن وزارة الفلاحة رفضت المطالب بدعوى تصنيف الجهة من "المناطق الحمراء" المهددة باستنزاف مائدتها المائية، فلم يكن أمام مئات الفلاحين، ومنهم رضا قيراطي، الذي يزرع ثمانية هكتارات بأشجار الزيتون والفواكه، إلا شراء المياه من المجامع المائية لسقي الأشجار (منظومات أهلية تدير موارد المياه المستقرة كالآبار والمتغيرة كمياه تجمعات الأمطار)، "فتتضاعف التكاليف ويقل الإنتاج"، ويوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه تقدم لأول مرة بطلب حفر بئر في 2018 ورفض، وكرر طلبه في 2022 ولم يتلق ردا.
تزامنًا مع الرفض هذا، حصل "العربي الجديد" على نسخة من موافقة الوزارة رقم 577/2022 الصادرة في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بمنح مستثمر "رخصة البحث والتنقيب عن المياه الجوفية على عمق يفوق خمسين مترا بغرض التعليب بالبحيرين"، ما أثار استياء الأهالي ودفعهم لتنفيذ عدة وقفات احتجاجية.
وتصف منسقة قسم العدالة البيئية والتغيرات المناخية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير حكومي تأسس في 2011)، إيناس لبيض، القرار بأنه تجسيد لسياسة الكيل بمكيالين، وتقول لـ"العربي الجديد": "المعايير المعتمدة في إسناد تراخيص حفر الآبار لا تُطبق بالتساوي؛ تُمنح الأولوية للصناعيين وشركات التعليب على حساب الفلاحين"، مضيفة أن رفض مطالب المزارعين يأتي بحجة استنزاف المائدة المائية رغم أنها تستغل لاحقا لصالح الشركات الكبرى، مؤكدة أن القطاع الزراعي يُمثل شريان الحياة للسكان، ويمنعهم من النزوح أو الهجرة، وهو ما يستدعي توجهاً أكثر عدالة من قبل وزارة الفلاحة.
شركات التعليب تستنزف المياه
"سوء استغلال واستنزاف (المائدة المائية التونسية) تُسأل عنه شركات تعليب المياه التي تسرف في استغلال المياه الجوفية عالية الجودة، مقارنة بالمياه المستخدمة لأغراض زراعية أو منزلية"، حسب تأكيد حمزة الفيل، رئيس مخبر التحلية وتثمين المياه الطبيعية بمركز بحوث وتكنولوجيا المياه بالقطب التكنولوجي ببرج السدرية الجامعي (مؤسسة حكومية في جنوب شرقي العاصمة).
تتطابق إفادة المختص الفيل مع وثيقة حصل عليها "العربي الجديد" لمحضر معاينة أجري بناء على طلب مزارعي "البحيرين" في مارس 2023، وكشفت حيثياته أضرارا جسيمة سببها وجود شركات تعليب المياه.
ووثق المحضر جفافا تاما لمنابع طبيعية، مثل "عين شطبية" و"قلتة عصبانة" و"عين دجاج" إضافة للسواقي المحيطة بها، بحسب معاينة عبير العبيدي العدل المنفذ بدائرة قضاء محكمة استئناف سليانة، والتي رصدت تيبس أغصان (حسب تعريف وزارة الفلاحة على موقعها الرسمي فهو التواء للأوراق وتيبّسها وسقوطها تاركة الأغصان جرداء، وقد تتسبب هذه الظاهرة في سقوط الثمار في بعض الحالات، وتعود هذه الأعراض في الأساس لتعرّض الأشجار للجهد المائي، نتيجة المرور بفترة جفاف مطولة وهبوب رياح قوية وحارة نسبياً) أشجار التين والرمان والعنب، ما أثر بشكل مباشر على مداخيل سكان المنطقة ومعيشتهم.
وبينما تموت الأشجار عطشا، تبرز مفارقة تصاعد المبيعات الداخلية لشركات التعليب من 676 مليون قارورة عام 2010 لتصل إلى مليار و627 مليون قارورة في 2023، ما جعل تونس الرابعة عالميا في استهلاك المياه المعدنية، وهو ما يفسر في ضوء "تردي جودة خدمات مياه الشرب التي تقدمها الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه (منشأة عمومية ذات صبغة غير إدارية تخضع لإشراف وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، ومهمّتها إنتاج وتوزيع الماء الصالح للشرب قصد تأمين تزويد جميع مناطق تونس، وعدد مشتركيها ثلاثة ملايين و257 ألف مشترك حسب موقعها الرسمي)"، وفق تقرير "رخص تمنح لشركات مياه التعليب وترفض للفلاحين (..)"، والذي نشره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أغسطس 2023.
يصف التقرير سياسات الدولة المائية بالمتناقضة، إذ "تدعو الدولة لترشيد الاستهلاك، بينما تساهم في استنزاف الموارد عبر منح تراخيص غير مشروطة لشركات تعليب المياه ما يساهم في استنزاف الموارد وحرمان المواطنين من حقهم في الماء المنصوص عليه دستورياً، وزاد من الأعباء المالية على الأسر التونسية"، وتُظهر خريطة توزيع شركات المياه لعام 2023 أن محافظات القيروان وزغوان وسليانة، التي تضم وحدات تعليب المياه الكبرى، هي نفسها من أكثر المناطق المعطشة في البلاد، ويضيف التقرير أن "تساهل الدولة في منح التراخيص لشركات تعليب المياه، مع عجزها عن تحسين جودة خدمات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه عمّق أزمة اللاعدالة المائية.
ولا تنجح التدابير الحكومية المفروضة حصرًا على الفلاحين في وقف الاستغلال المفرط للمائدة المائية التونسية الذي تتخطى نسبته حاجز الـ 100%، فحسب تقرير محكمة المحاسبات (مؤسسة عدلية تختص بمراقبة حسن التصرف في المال العام) لسنة 2021 بلغت نسبة استغلال المياه الجوفية في تونس بلغت 108% من مجموع الموارد الجوفية، ويعرف مهندس الموارد المائية محمد صالح قليد نسبة استغلال الموارد المائية الجوفية على أنها نسبة ما يستغل من مياه الأمطار التي تغذيها فعندما تتخطى النسبة 100% يكون الاستهلاك أعلى من كمية التغذية على أن يأتي الفارق من مخزون المياه الجوفية سواء التي تستهلك بفعل الآبار النظامية والعشوائية على حد سواء.
ويقدر التقرير نسبة الاستغلال الفعلية بـ 126% بعد احتساب استهلاك الآبار العشوائية التي يزيد عددها بنسبة 14.7% سنويّا لتتخطى 24 ألف بئر حسب تقديرات المندوبيات الجهوية لنفس العام، لافتًا النظر إلى قلة نقاط المراقبة البالغة 146 نقطة لمتابعة وقياس استهلاك أكثر من 12 ألف بئر، وعلى قلة العدد فـ 74% من تجهيزات المراقبة والقياس مُعطّبة لمحدودية أعمال الصيانة ما تسبب في منع قياس مناسيب 18 موردا مائيا فاقت نسب استغلالها 170%، حسب التقرير.
خريطة العطش
تعمل 30 شركة خاصة في تعليب المياه وتتوزع على 13 محافظة، بحسب الموقع الرسمي للديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه (حكومي)، وتتصدرها ولاية القيروان بست وحدات، تليها ولاية زغوان بخمس، ثم سليانة بأربع وحدات، وهذه المناطق من بين "الأكثر تأثرا بأزمة العطش والانقطاعات المتكررة في المياه الصالحة للشرب"، وفق ما توصلت إليه دراسة أجراها المرصد التونسي للمياه (خاص غير ربحي)، في يوليو 2021، بعنوان "المياه المعدنية"، مستهدفا "أغلب المناطق التي تحتضن وحدات تعليب المياه".
ويكشف تحديث المرصد لبياناته الصادرة في يناير/كانون الثاني 2025 بعنوان "خارطة العطش"، عن توثيق 2693 بلاغا عن مشكلات المياه خلال 2024، واللافت أن ولايات القيروان وزغوان وسليانة احتلت للمرة الثانية مراكز متقدمة في عدد البلاغات مقارنة بباقي الولايات بواقع 109 بلاغات في الأولى و80 في الثانية و84 بسليانة.
ومع ذلك تقلل رئيسة دائرة الموارد المائية بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بسليانة صفاء سلامة من أثر عمل شركات تعليب المياه على المخزون المائي، وتؤكد لـ"العربي الجديد" أنها لا تتجاوز 4% من نسبة المياه الكلية، وأنه "في برقو 18 بئرا عميقة منها، اثنتان فقط للشركات، واستغلال مخزون المياه للأغراض الفلاحية وللشرب يغلب على أي نشاط آخر".
لكن إفادتها تتعارض مع حقائق التوسع في منح تراخيص التنقيب عن المياه الجوفية للمستثمرين ورفضها للفلاحين الذين انخفض إنتاج أشجارهم السقوية بحسب المعطيات الرسمية.
ويلفت عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رامي بن علي، النظر لمشكلة أعمق تتعلق بالحق في الوصول للمياه الصالحة للشرب، خاصة في المناطق الداخلية التي تعاني أزمة عطش متفاقمة، معتبراً في تصريحه لـ"العربي الجديد" منح الرخص لشركات تعليب المياه المعدنية استنزافاً للموارد المائية يؤثر سلباً بالسكان المحليين، وتوجهاً يتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية، ويضرب أولويات استعمال الموارد المائية، حيث تُعطى الأولوية للاستغلال الصناعي على حساب مياه الشرب والري، مشدداً على أن السياسات المائية الحالية، تهمل الخصوصية الزراعية للمناطق المتضررة، وتفتح المجال لتساؤلات حول التزام السلطات بحماية الحق الدستوري في الماء، في وقت يحتاج السكان لحلول عاجلة لمعالجة أزمة المياه وتجنب استنزاف مواردهم الحيوية.
حتى لا يهاجر الفلاحون
منذ مطلع 2023، دخلت تونس حالة عجز مائي دفعت وزارة الفلاحة في مارس من العام ذاته إلى قرار تقسيط توزيع مياه الشرب ستة أشهر قبل تمديده حتى إشعار آخر في سبتمبر/أيلول، بهدف ضبط توزيع مياه الشرب ومنع استخدامها لأغراض أخرى نتيجة لأزمة الجفاف التي بدأت منذ 2019 واستمرت في التأثير على تغذية المائدة الجوفية ونسب امتلاء السدود، إذ تشير بيانات الإدارة العامة للسدود والأشغال المائية الكبرى التابعة لوزارة الفلاحة، إلى أن النسبة بلغت أدنى معدلاتها في الثامن من نوفمبر 2024 مسجلة 20%.
ومن هنا فإن مواجهة الأزمة المائية تتطلب، بحسب لبيض، "إعلان حالة طوارئ مائية وتنفيذ سياسة صارمة لضمان حقوق المواطنين الأساسية، إذ يُمثل القطاع الفلاحي الجاذب الأبرز والدافع الوحيد لأهالي المناطق الداخلية، ومنها البحيرين، للبقاء وعدم الهجرة، في حين تشهد عدة مناطق أخرى عزوفا عن العمل بالقطاع الفلاحي لتضاؤل الموارد".
غير أن هذه المقترحات ما زالت في طور البحث والنقاش المكتبي ولم ترتق حتى لتعرض على البرلمان بينما على الأرض يسوء تدريجيا حال عبد الوهاب البرقاوي ورفاقه، يتمسك جيلهم بآخر رباط بأرضهم لكنهم يخشون ألا يرثه أبناؤهم في ظل ظروف قاسية تجعل ضريبة البقاء ثقيلة على من يختارها، يقول عبدالوهاب: "أنا سأبقى لكني لا أرى مستقبل أبنائي هنا".

*المصدر : العربي الجديد
1