
أسهمت نوبات الخوف في شيوع أمراض عدة بين أطفال قطاع غزة، بعضها حيرت الأطباء، بينما تتفاقم الأوضاع النفسية للأطفال نتيجة تزامن القلق مع الفقد، مخلفة تغيرات جسدية ومضاعفات مرضية.
لم يعتد أطفال غزة على أصوات القصف الإسرائيلي، فحين يسقط صاروخ جديد، يبدو كأنهم يسمعون الصوت لأول مرة. يستيقظون بفزع، ويصرخون، ويركضون إلى أحضان ذويهم.
ووفق دراسة أجراها مركز غزة للصحة النفسية أخيراً، حول تأثير الحرب على تزايد حالات الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة لدى النازحين، أظهرت النتائج أنّ 70% من عينة الدراسة لديهم الأعراض مجتمعة، و8% فقط لديهم نوع واحد من الاضطرابات.
بعد قصف المنزل المجاور لمنزلها في مدينة خانيونس، في يناير/ كانون الثاني 2024، أصيبت الطفلة لانا خليل الشريف (10 سنوات) بنوبة هلع، وبعد يومين، فوجئت بظهور بقع بيضاء صغيرة على وجهها، كانت كفيلة بأن تطلق صرخة ذعر. عرضتها والدتها على طبيب متخصص بالأمراض الجلدية، فأخبرهم أن الأمر عادي، وأوصى لها بعلاج.
تقول والدتها لـ "العربي الجديد": "أعطيناها العلاج، لكني لاحظت أن البقع البيضاء بدأت تتزايد مع شعورها المستمر بالخوف منذ تعرض بيت جيراننا للقصف. عدنا إلى الطبيب بعد تزايد البقع البيضاء، فأكد إصابتها بمرض البهاق، وأنّ ذلك سببه شدة الخوف، وأخبرني أنه يمكن علاجها بواسطة أشعة الليزر، لكنّ هذا العلاج غير متوفر حالياً في غزة".
لم يتوقف انتشار البقع البيضاء في وجه وجسد لانا، بل تمددت نحو شعرها الأسود الذي اكتسى بما يشبه الشيب، ما أدى إلى تعرضها للتنمر من أطفال آخرين، واستدعى عرضها على اختصاصية نفسية. تتابع الأم: "تحدثت الاختصاصية النفسية معها محاولة تعزيز معنوياتها، واستخدمت أساليب علاجية تشمل الرسم، وجلسات تفريغ نفسي. استمرت نوبات الهلع التي تتعرض لها مع تكرار القصف والأحزمة النارية العنيفة، وفي كل مرة تسمع عن استشهاد أحد الأقارب أو الجيران، تقول بنبرة خوف: بديش أموت. أنا لسه صغيرة. وعندما تسمع صوت القصف، تغلق أذنيها وتغطي وجهها".
أدت تداعيات الحرب إلى ظهور أمراض غريبة لدى أطفال غزة
تضيف: "في هذه الحالة أحتضنها وأحاول إشعارها بالأمان، وعدم تركها بمفردها، لكن أكثر ما يحزنها هو عدم لعب الأطفال معها، وهي بدورها امتنعت عن الذهاب لتعبئة المياه من شاحنات توزيع المياه لتفادي تنمر الأطفال عليها، وكذلك امتنعت عن الذهاب إلى المدرسة، أو حتى الخروج من باب البيت. بات شعرها أبيض رغم أنها طفلة، ووجهها امتلأ بالبقع البيضاء، والتي انتشرت على يديها وفي جسدها بشكل كبير، وكلما شعرت بنوبة خوف ازدادت البقع. المشكلة أن الفيتامينات التي تتناولها لم تؤدِّ إلى تخفيف الحالة".
وأدت الحرب إلى ظهور أمراض غريبة لدى أطفال في غزة لم يستطع الأطباء إيجاد تفسير لبعضها، خصوصاً مع ضعف قدرات التشخيص. ولدت الطفلة ملك أحمد (6 سنوات) مصابة بطيف التوحد، وكان والدها رفيقها في رحلة علاج طويلة، لكنه استشهد في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات (وسط).
فقد آلاف من أطفال غزة ذويهم، 30 مايو 2025 (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
بعد اختفاء والدها الذي كان بمثابة صديقها الوحيد الذي تلهو معه إلى جانب دور أمها في علاجها، دخلت ملك في حالة من الحزن الشديد، تعبر عنها بالصراخ في ظل صعوبة النطق، كلما رأت صورته المعلقة على جدار إحدى غرف المنزل، ثم ظهرت بثور على الجلد، مع شكوك حول إصابتها بالسرطان، لتطلق الأسرة مناشدة عاجلة لسفرها للعلاج في الخارج.
تحكي والدتها منى شحادة لـ "العربي الجديد: "حالة ابنتي تفاقمت بعد استشهاد والدها، إذ ظهرت دمامل في الكبد، وجرى استئصال الطحال بسببها، مع تقدير الأطباء بنسبة 80% إصابتها بسرطان الدم. تتناول ملك يومياً علاجاً لثلاثة أمراض ظهرت بعد استشهاد والدها، وغير معروف سببها لأنه لا يوجد مختبرات في غزة، وتظهر الفحوص التي تجريها بشكل أسبوعي، تراجعاً في وظائف الجسم، كما أن نسبة كرات الدم البيضاء وصلت إلى نحو 60 ألفاً، رغم أن المعدل الطبيعي هو خمسة آلاف".
تربط الأم كل تلك المضاعفات بالخوف، وتقول: "عندما يسقط الصاروخ تبدأ بالصراخ، ومنذ استشهاد والدها تغيرت حياتها، وساءت حالتها الصحية، إذ كان يلعب معها، ويخرجها للتنزه، ويحضر لها ما تحبه، ولم تكن تعاني إلا طيف التوحد، والآن اجتمعت عليها عدة أمراض. يفترض أن يتجاوز وزنها 30 كيلوغراماً، إلا أن وزنها لا يتجاوز 15 كيلوغراماً، ونتمنى سفرها للعلاج في الخارج قبل أن تسوء حالتها".
في السادس من ديسمبر/ كانون الأول 2024، استشهد والدا الطفل جود صالح أبو صالح (4 سنوات)، ونجا هو بأعجوبة من مجزرة دامية، لكنه لم ينجُ من تداعيات الصدمة التي لاتزال تلاحقه. تروي خالته مها أبو صبحة، والتي تسهر على رعايته، لـ"العربي الجديد": "نزح جود مع والديه إلى بيتنا بعد قصف منزلهم، وفي يوم المجزرة كان يوجد معهما، وكانت تجلس معهم شقيقتي، وقبل دقائق من القصف، جاء لينام عندي كونه اعتاد على ذلك منذ ولادته، فهو يعتبرني أمه الثانية".
تضيف: "استشهدت شقيقتاي ووالده في القصف الذي خلف انفجاراً كبيراً، ونجوت مع بقية أفراد عائلتي والطفل جود، لكنه شاهد طواقم الإسعاف ينتشلون جثتي والديه من تحت الردم، ويلفانهما بالأغطية، وعاش لحظات الجنازة والوداع، ومراسم الدفن، ما ترك بقلبه ندوباً مؤلمة، وحزناً يعبر عنه بالصراخ والسلوك العصبي. كونه الابن الوحيد لوالديه، زاد تعلقه بي بعد رحيلهما، وبات يخاف من اقتراب أي شخص منه، ويخشى دخول دورة المياه إلا بمرافقتي، ويخاف من صوت طرق الباب، ويذكره صوت القصف بوالديه. لمدة شهر كامل كان يستيقظ من نومه ليصرخ، وكنت أضمه وأقوم بتهدئته، ربما يرى كوابيس في منامه".
تتابع الخالة: "عندما أخذته عائلة والده، اشتد عليه الحزن، فأعادوه إلي، وأصبحنا نذهب إلى قبر والديه، وهو يحب ارتداء ملابس جميلة خلال زيارته لقبريهما، معتقداً أن ذلك سيجعلهما سعيدين. أحضرنا له مختصة نفسية، وقامت بعمل جلسات تفريغ، تشمل اللعب معه، ومشاركته الرسم والتلوين وتركيب الألعاب، وكوني أعمل مدرسة جعلني أستخدم وسائل متعددة لتغيير مزاجه النفسي".
من بين الحالات النادرة التي عجز الأطباء عن تشخيصها، حالة الطفلة رهف عياد (10 سنوات)، فبعد أن كانت تتمتع بوجه مشرق وشعر كثيف وجسد قوي، أصيبت بهزال واضح، وباتت تعاني تساقط الشعر، وأدى سوء التغذية إلى جعلها تبدو أشبه بهيكل عظمي يكسوه بعض اللحم.
أثارت حالة رهف الرأي العام في غزة، ورغم إجراء تحاليل وفحوص لتشخيص مرضها، إلا أن الأطباء عجزوا عن تحديد نوع المرض نتيجة عدم وجود مختبرات متقدمة، ما استدعى تحويلها إلى العلاج خارج غزة، بعد أن أفقدها المرض القدرة على المشي.
ومن بين ما يفاقم الأوضاع في قطاع غزة تدمير الاحتلال الإسرائيلي 38 مستشفى حكومياً، وتوقف 81 مركزاً صحياً عن العمل، إضافة إلى تعطل 164 عيادة طبية. ومنذ 2 مارس/ آذار 2025، أغلق الاحتلال المعابر في وجه المساعدات والمواد الإغاثية والطبية، الأمر الذي يهدد حياة المرضى، ويضاعف حالة التجويع في القطاع.
منظمة الصحة العالمية تطلق صرخة لإنقاذ أطفال غزة
تقول مديرة المراكز المجتمعية في برنامج غزة للصحة النفسية، الطبيبة آمال أبو عبادة، لـ "العربي الجديد"، إن "الخوف رد فعل طبيعي لمواجهة الأمور التي يعيشها الإنسان، ويكون للخوف جانب جسدي وآخر نفسي من حيث الأعراض، فيشعر الشخص بأعراض متباينة، من بينها زيادة ضربات القلب، أو التعرق، وإذا أصبح الخوف متكرراً، يمكن أن يعاني الشخص اضطراب القلق، وقد يصبح مزمناً، ويصاحب ذلك تغير في هرمونات الجسم، كزيادة الأدرنالين، ما يؤدي إلى تغيرات في الجسم".
وتضيف أبو عبادة: "الخوف يصاحبه أشكال من التوتر والتفكير المضطرب، ولو أصيب الإنسان بالبهاق وكانت أوضاعه النفسية مستقرة، فإن نوبات القلق تكون قليلة أيضاً، ومع زيادة الخوف يتفاقم المرض وتزيد الأعراض، وهذا الأمر ينطبق كذلك على مرضى السرطان، إذ تختلف درجة انتشار المرض وفقاً للصحة النفسية، وكلما زاد القلق تفاقم المرض، وأصبحت السيطرة على الحالة أصعب. أثرت الحرب على الجميع في قطاع غزة، وزادت حالات اضطرابات ما بعد الصدمة، واضطرابات النوم بين مختلف الأعمار، خاصة الفئات الهشة كالأطفال، فهم لا يستطيعون الانفصال عن الوضع القائم".

