
صعد الكويتي أحمد جابر، الدرج متوجهاً إلى مكتب وزارة الكهرباء والماء والطاقة المتجددة في منطقة جنوب السرة بمحافظة حولي الواقعة شرق العاصمة، وقلبه يرتجف خوفاً، من مواجهة المسؤول عقب تفطن الوزارة إلى تورطه في استغلال جائر للتيار الكهربائي.
قبل الموافقة على الحديث مع "العربي الجديد" اختار الأربعيني جابر لنفسه هذا الاسم، حفاظاً على خصوصيته لأن تعدين العملات الرقمية "البيتكوين" محظور قانوناً (بسبب استنزاف الطاقة تحديداً، وأعادت وزارة الداخلية التذكير بالمخالفات القانونية في إبريل/نيسان الماضي)، راوياً أنه في أثناء الانتظار كان مشدود الذهن، وظل جالساً على أحر من الجمر في مكتب خدمات العملاء الواقع بالدور الأول من المبنى، إلى أن قابل مدير المكتب فأخبره بشأن ملف المعدنين ممن أحيلوا إلى النيابة العامة لارتكابهم مخالفات قانونية عبر ممارسة نشاط غير مصرح به، لكنه ارتاح قليلاً بعدما أبلغه بمراجعة مكتب خدمة العملاء في منطقة الوفرة، حيث لا تزال التحقيقات جارية في حالته.
توصلت الوزارة إلى جابر وغيره من المعدنين، عبر جولات ميدانية لفرقها عملت على الكشف عن أسباب الأحمال الزائدة وغير الاعتيادية للتيار الكهربائي، في أماكن نائية مثل منطقة الوفرة الزراعية، بحسب إفادة مسؤول في مكتب وزارة الكهرباء والماء في منطقة جنوب السرة (رفض الكشف عن اسمه لأنه غير مخول بالحديث مع الإعلام)، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أنّ وزارة الكهرباء تعاني ارتفاع الأحمال بشكل كبير، وتجاوزها معدل الإنتاج الذي يصل إلى نحو 19 ألف ميغاواط، نتيجة الاستهلاك الجائر للطاقة وهو ما يتفاقم خصوصاً في موسم الصيف، علماً أنّ الكويت تستهلك سنوياً 59 ألف تيراواط/ساعة.
يشير إلى أنّ الحملة المشتركة في منطقة الوفرة السكنية، أسفرت عن انخفاض الأحمال الكهربائية على محطات التحويل الرئيسية من 85 ميغاواط إلى 36 ميغاواط، أي بنسبة تقارب 60%، ما يوفر 15 مليون دينار كويتي (49 مليون دولار أميركي).
1000 موقع تعدين غير قانوني
في عام 2020 بدأ الكشف عن الاستخدام المفرط للكهرباء في أنشطة غير مصرح بها، وعلى رأسها عمليات تعدين العملات المشفرة، إذ قطعت وزارة الكهرباء التيار عن بعض العقارات للاشتباه بتورط سكانها في عمليات تعدين العملات الرقمية، وبعد تحذير وزارة الداخلية في 22 إبريل الماضي من أن تعدين العملات المشفرة غير قانوني ونشاط غير مرخص في جميع أنحاء البلاد، شنت بمعية وزارة الكهرباء حملة مكثفة أسفرت عن كشف 1000 موقع تعدين غير قانوني، كما تقول المتحدثة باسم وزارة الكهرباء، المهندسة فاطمة حيات، مشيرة إلى رصد ارتفاع غير اعتيادي في الأحمال الكهربائية خلال شهر مارس/آذار 2025، إذ سجلت بعض المنازل استهلاكاً يقدر بـ 100 ألف كيلوواط، أي ما يزيد على 20 ضعفاً عن المعدلات المعتادة في المواقع المجاورة و"لا يمكن تفسير ذلك بأنشطة سكنية عادية" تقول حيات.
استهلاك الطاقة في منازل المعدنين فاق بيوت جيرانهم بـ 20 ضعفاً
ورصدت الحملة الميدانية الموسعة التي نفذت على منطقة الوفرة في مايو/أيار 2025، مائة منزل، تبين أن بيانات استهلاك الكهرباء الخاصة بها مرتفعة عن استهلاك المنزل العادي، الذي يبلغ متوسطه ما بين 2100 و3200 كيلوواط شهرياً، بحسب المهندسة حيات، التي أكدت أن تحليل البيانات كشف عن نمط استهلاك يفتقر إلى التباين المعتاد بين الليل والنهار والفصول، مع استهلاك ثابت وعالٍ على مدار الساعة، وهو مؤشر واضح على تشغيل مكثف لأجهزة ومعدات يتطلبها تعدين العملات المشفرة في المنازل القائم على كهرباء رخيصة وإنترنت قوي.
وتختلف التكلفة بحسب كفاءة المعدات المستخدمة، وحجم العمليات، لكنّ الأمر مكلف بالنظر إلى أن شبكة البيتكوين، كانت تستهلك عالمياً حوالي 177 تيراواط في الساعة من الكهرباء سنوياً حتى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بحسب مؤشر جامعة كامبريدج لاستهلاك الطاقة في تعدين البتكوين، وهو ما يزيد عن استهلاك النرويج البالغ 124 تيراواط في الساعة سنوياً، بينما تستهلك سويسرا 56 تيراواط في الساعة سنوياً، لذا استغل المعدنون ثغرات تعرفة الكهرباء الرخيصة جداً، وعدم قراءة عدادات الكهرباء القديمة في بعض المناطق لفترات طويلة تصل إلى عامين أو أكثر، وصعوبة التحقق من أن الاستهلاك المرتفع ناتج عن التعدين، خاصة في حالة زيادة أعداد المستأجرين في السكن الخاص، وغياب عدادات ذكية ترصد الاستهلاك لحظياً، بحسب المصدر العامل في مكتب وزارة الكهرباء.
استجواب 116 متهماً
في 27 إبريل الماضي، نفذت وزارة الداخلية بالتعاون مع بلدية الكويت ووزارة الكهرباء، وعدة جهات حكومية حملة أمنية، أسفرت عن ضبط 47 منزلاً مخالفاً، ومصادرة معدات وأجهزة متطورة مخصصة لممارسة نشاط تعدين العملات المشفرة.
وعلى وقع الحملات المتكررة، أُحيل 60 شخصاً إلى النيابة العامة، شاركوا في الأنشطة ذاتها، من بينهم ملّاك عقارات أُجّرت لهذا الغرض، وصودرت معدات بمناطق تقع ضمن العاصمة ومحافظة حولي، وفق ما جاء في مقطع مصور نشره حساب وزارة الداخلية على منصة إكس، كما نشر الحساب في 28 يوليو/تموز الماضي مقطعاً مصوراً لضبط مواطن يعدن العملات المشفرة داخل منزل مستأجر في مدينة صباح الأحمد السكنية، بعدما توصلت التحريات الميدانية إلى أنّ المتهم استأجر منزلاً يعود إلى شخص سُحبت جنسيته مؤخراً.
كما باشرت النيابة العامة التحقيق في 31 بلاغاً بشأن استخدام غير مشروع للطاقة الكهربائية في تعدين العملات الرقمية داخل 59 مسكناً، واستجوبت 116 متهماً في هذه القضايا، وفق بيان صادر عن النيابة العامة في مايو الماضي، موضحاً أنّ بعض الأفراد استغلوا التيار الكهربائي المخصص للمساكن في عمليات تعدين العملات الرقمية بهدف تحقيق أرباح فورية ما أثر سلباً في الصالح العام وألحق أضراراً بالشبكة العامة للكهرباء التي تعد من الموارد الاستراتيجية للدولة ويجب استخدامها حصراً في الأغراض المخصصة لها.
نتيجة لذلك، طالب الدكتور محمد بوزبر، الأستاذ المشارك في كلية الحقوق بجامعة الكويت، بضرورة وضع إطار قانوني ينظم الأمر عبر تسجيل شركات التعدين لدى الجهات المختصة، وفرض ضرائب ورسوم تصاعدية بحسب حجم الطاقة المستخدمة، ومراقبة وحدة التحريات المالية لما يجري في هذا القطاع المتنامي، مشيراً خلال ندوة "مستقبل الاقتصاد الرقمي في الكويت بين الاستثمار والتشريع استثمار التعدين"، إلى أن السيطرة على النشاط وتنظيم الترخيص يتيح للدولة المراقبة والحد من التعدين غير القانوني أو العشوائي.
كما اقترح وزير التجارة والصناعة السابق، عبد الله الجوعان، تحديد ضوابط تتعلق باستخدام الكهرباء وفرض ضريبة على من يمارسون هذا النشاط، قائلاً في الندوة ذاتها التي حضرها معد التحقيق: "يمكن أن يسهم هذا في خلق وظائف جديدة وتوليد قطاعات أخرى تعزز الاقتصاد المعرفي، وتستقطب المستثمر الأجنبي".
إجراءات حكومية لمواجهة استنزاف الطاقة
تستغل عمليات تعدين العملات المشفرة، دعم الطاقة الذي تقدمه وزارة الكهرباء للمواطنين، إذ تبلغ تعرفة الكيلوواط/ساعة في القطاع السكني، فَلسيْنِ كويتيين (الدينار يساوي 3.27 دولارات)، بينما في السعودية تبلغ تعرفة الكيلو واط/ساعة 18 هللة (الدولار يساوي 3.75 ريالات)، وفي البحرين 18 فلساً (الدينار يساوي 2.65 دولار) لكل كيلوواط/ساعة، الأمر الذي يؤثر سلباً في باقي القطاعات التي تحتاج إلى الطاقة، بحسب المصدر العامل في وزارة الكهرباء، موضحاً أنّ الاستهلاك الجائر للطاقة، يؤدي إلى انقطاعات متكررة للتيار تمس مناطق سكنية وتجارية وخدمية، ويشكل تهديداً للسلامة العامة في ظل عدم انتظام تقديم الخدمات الأساسية، قائلاً :"دور وزارة الكهرباء انتهى بإحالة ملف المعدنين إلى النيابة العامة".
الاستهلاك الجائر للطاقة يؤدي إلى انقطاعات متكررة ويشكل تهديداً للسلامة العامة
وتفعيلاً لدورها، اتخذت الوزارة عدة إجراءات استكمالاً لعملية محاربة نشاط التعدين غير المشروع، إذ أطلقت حملات توعوية لتحسين كفاءة الإضاءة واستغلال مصادرها الطبيعية، وتحسين كفاءة أنظمة التكييف بالصيانة الدورية ورفع درجة الحرارة إلى 22 درجة مئوية، وترشيد استخدام الأجهزة الكهربائية وإطفائها عند عدم الحاجة إليها، فضلاً عن تنظيم أوقات عمل المصانع والمرافق العامة خلال فترات الذروة، كما يوضح وكيل وزارة الكهرباء، الدكتور عادل الزامل، قائلاً: "عملنا كذلك على إصدار مدونة الطاقة الخاصة برفع كفاءة الاستخدام والتقليل من الاستهلاك عبر توحيد متطلبات الطاقة المستغلة في أنظمة الإضاءة والتكييف، ومدونة تبريد الضواحي التي تهدف إلى توفير الطاقة الكهربائية خلال الصيف الجاري" ويضيف أن الوزارة عملت على رفع كفاءة شبكتها، وتدعم التوجه نحو الطاقة المتجددة للمحافظة على البيئة ومن ثم تقليل التكلفة، كما حدثت المحطات الحرارية القديمة جداً واستبدلتها بمحطات الدورة المزدوجة الغازية التي توفر نحو 50% في استهلاك الوقود.
يترافق ذلك مع الاستمرار في حملات وزارة الداخلية لضبط المخالفين، ففي 28 يوليو الماضي، توصلت التحريات إلى قيام كويتي بإعادة تشغيل أجهزة التعدين، بعدما أخفاها في وقت سابق خلال حملة أمنية كانت متجهة إلى منطقته، لكن بمجرد عودة الأجهزة إلى العمل داهمته الأجهزة المختصة، وفق ما نشره الحساب الرسمي للوزارة، التي تعمل مع بقية أجهزة الدولة لوقف نزيف الطاقة المدعومة، خاصة أنّ البلاد تواجه أزمة طاقة تتصاعد، في فصل الصيف، جراء نقص يقدر بـ 1600 ميغاواط، ويتوقع أن يصل إلى 5600 ميغاواط بحلول صيف 2029.

