أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الفلوجة قبل وبعد داعش!!
بقلم : عامر الكبيسي ... 27.05.2016

قبل دخول داعش للفلوجة سطرت المدينة أروع صفات التلاحم المجتمعي عندما تركت مئات الأسرى من الجيش والقوات الأمنية يعودون إلى أهلهم وهم يلبسون “الدشداشة” ولم تتعرض لأي منهم، ولم تقايض من أجلهم حتى بمعتقلي المدينة الكثر، كحالة من حالات الشرف القبلي، بل أوصلتهم إلى أهلهم سالمين، في ملمح نادر من ملامح السلام في الحروب، ما يرد كل الأكاذيب التي يروج لها من أن المدينة لها علاقة بداعش، فداعش لا تترك أسيرًا، والفلوجة أعادت نحو ألف أسير هدية مع كرم نادر وغير مسبوق.
الفلوجة مدينة عريقة، ولدت في محيطها أول عاصمة للخلافة العباسية عام 134 هجريًا، وكان اسمها “هاشمية الأنبار” ولها أطلال متبقية على بعد 5 كيلومترات عن الفلوجة، ثم قرر الخليفة أبو جعفر المنصور تحويل العاصمة من مكانها، من جهة الفلوجة قرب الفرات إلى جهة أخرى قرب نهر دجلة، وليس قرب نهر الفرات، لحسابات أمنية واستراتيجية، فكانت مدينة بغداد “دار السلام” هي عاصمة الخلافة الإسلامية الثانية "التي بنيت" غرب دجلة، وتقريبا في منطقة “مطار المثنى حاليا” أو حولها خلف براثا.
مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1920 فإن الفلوجة كان لها مساهمة مباشرة في ثورة العشرين امتدادًا من الفلوجة إلى قرى زوبع وخان ضاري كجزء من حركة شاملة وسعت العراق جنوبًا وشمالًا، وكان لعشائر الفلوجة قصب السبق فيها.
وقصفت الفلوجة في عام 1941 بطيران بريطاني بعد ثورة أهلها ضد الوجود البريطاني في العراق على خلفية ثورة الكيلاني، وحصلت معارك دامية وتفجير دبابات بريطانية قرب الجسر، مما اضطر الطيران البريطاني لقصف المدنيين ومقتل عدد من أهل المدينة حينها، ومع سقوط الفلوجة بيد بريطانيا تمكن الوصي عبد الإله من العودة إلى قاعدة الحبانية الجوية عام 1941.
وتستمر هذه المدينة في تسجيل إسهاماتها في الدولة العراقية لا سيما قربها من العاصمة بغداد من خلال إخراج نخب كثيرة ذات بعد عسكري وتجاري وسياسي وشرعي مع نخب من الطبقة المثقفة. فرغم صغرها غير أنها أنجبت نصف علماء الشريعة السنة في العراق وكانت توصف أحيانًا بأنها نجف السنة! بمدارسها الفكرية القادمة من حركات الصوفية والنقشبندية والإخوان ومدرسة العلم الآصفية ومحاضر العلم التي لا يخلو منها مكان.
لا توجد مدينة في العراق فيها عدد مساجد نسبة لحجمها كما في الفلوجة، في كل حي عدد لافت من المساجد، شيء غير مسبوق، وقد تكون أكثر مدينة في العالم لها هذه الصفة، فلا أعرف أن مدينة بحجم الفلوجة وريفها فيها هكذا عدد.
في نهايات عهد صدام حسين كانت الفلوجة مدينة تؤرق حزب البعث، ولتوجهها الإسلامي فإن شبابها كانوا بين السجون والمطاردات والضغط الحزبي، وآخر حملة اعتقالات كانت قبل بداية الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 بأسبوع فقط، حيث اتهمت الفلوجة بتشكيل تنظيم مسلح، وبالفعل كان هناك تنظيم يستعد لمقاتلة أمريكا لكن ليس تحت راية حزب البعث، فأودع أصحابه السجون.
كذلك شارك ضباط من الفلوجة والرمادي في محاولات انقلابية ضد الرئيس صدام حسين في حينها ما أدى إلى إعدامهم، وأودع مئات التجار السجون وبعضهم أعدم لأنهم خالفوا سياسات صدام حسين وعدي صدام حسين في الحصار وأسهموا في تخفيض أسعار المواد الغذائية ومنحوا الناس الخير، ووزعوا الحصص مجانًا، فكان الجزاء أن أدخلوا السجون وأعدم كبار التجار.
مع الاحتلال الأمريكي برزت هذه المدينة المحافظة، وفي نهاية 2003 أصبحت الفلوجة أشهر مدينة في العراق إطلاقًا، واكتسبت صفة عالمية، ومع حربين ضدها في زمن بريمر ثم في زمن إياد علاوي زادت شهرتها بشدة، وخسرت أمريكا أكثر من نصف جنودها القتلى في العراق في هذه المدينة، ولولا الفلوجة لما خرجت أمريكا من العراق مطلقًا، إذ تسببت الفلوجة بانتقادات لاذعة، وخسارة إعلامية لأمريكا غير مسبوقة، وبقيت بمثابة الشوكة التي قصمت ظهر البعير، وبقي الثأر منها مشاهدًا لأنها غيرت الاستراتيجية الأمريكية في العراق، من البقاء إلى الاتفاقية الأمنية.
وفي المعركتين السابقتين كان أهل الفلوجة هم من يقاتلون دفاعًا عن مدينتهم، مع شعبية جارفة في دول الجوار والعالم الإسلامي واعتبرت رمزًا للصمود.
خرجت الفلوجة في حراك شعبي ومجتمعي سلمي تطالب بحقوقها المسلوبة عام 2011، مقتبسة أثر الربيع العربي حينها، لكن نوري المالكي بدأ الحرب عليها، وقتل في ساحات الفلوجة والرمادي في وقت مبكر من الحراك عددًا من الشباب الأعزل، وقال عبارته الشهيرة “انتهوا قبل أن تُنهوا”.
لم تتحمل الحكومة مسؤوليتها في الحفاظ على أمن المدينة، وبعد أن قرر المالكي إطلاق عمليات الأنبار لملاحقة تنظيم داعش في الصحراء، تبين لاحقًا أن القوات الأمنية تركت الصحراء، وذهبت لتطويق الرمادي وليس داعش، ثم اهتز الوضع الأمني، وتركت القوات الأمنية داعش تدخل إلى الفلوجة براحة تامة بأرتال أتت من الصحراء تحت عيون الجميع، ولم تتصادم معها قوات الأمن، رغم النداءات المتكررة لقادة الجيش بأن داعش هنا، لكن لم تأت أية أوامر لصدهم، وبدأت داعش بحرق مراكز الشرطة في الفلوجة ومقار أخرى.
ومنذ دخول داعش للفلوجة بسبب ترك المالكي لهم، وحتى هذا اليوم خرجت الفلوجة من سيطرة الحكومة ومن سيطرة أهلها ومجلسها المنتخب وسلطاتها المحلية تمامًا.
ومما يؤسف له أن حملة شعواء مدفوعة الثمن تتعرض لها هذه المدينة العريقة مع اقتراب معركة ضارية يرى فيها الخصوم أنها نهاية المدينة وحالة للانتقام منها.
الانتقاص من الفلوجة كمدينة له بعد طائفي أعمى، يمكن أن تقول رأيك في داعش، وفي الحشد، وفي المليشيات، لكن التطاول على الفلوجة نفسها من قبل أقلام مأجورة، وأرباع المثقفين الذين لا علم لهم بتاريخ ولا حاضر، فإنه مردود عليهم، ولا يمكن السماح به من قبل العقلاء، إن بقي في العقل متسع.
الفلوجة أخذت اسمها من مقاوماتها لأمريكا في معركتين، ومن تاريخ طويل، وسبب وجود داعش فيها يتحمله المالكي مباشرة، وأكثر من تسعين في المائة من أهلها تركوها، وأصبحوا مهجرين، لأنهم لا يريدون الاشتراك في سوق الدم، بين متعطشين للدماء، ومتعطشين للثأر من التاريخ، وليت هذا وذاك يعملون لمصلحته حقًا، لكن معظم من يحمل السلاح، يعمل بالنيابة عن غيره، دولًا، وإقليمًا.

1