ليس هناك أنبل وأجلّ من رسائل المؤازرة والتضامن في المحن والشدائد بين الأفراد، فما بالك إذا كانت بين الجماعات، ديانات وطوائف وأمما وشعوبا، ذلك أنها تمد جسور المحبة والتآخي، وتمسح ما ارتكبه المارقون والرعناء والسفهاء عبر التاريخ من أحقاد وضغائن.
الفاتيكان - الاحتقانات الدينية والعرقية التي يشهدها عصرنا الراهن، تعمي بطبيعتها، وتحجب النظر عن الجوانب المشرقة والمواقف الإنسانية والتسامحية التي حدثت ومازالت تحدث رغم قتامة المشهد في عيون المتشائمين والمتوجسين والمشككين في إمكانية التعايش بسلام ووئام وسط هذا العالم الذي تمزقه النزاعات.
المسلمون كانوا ولا يزالون فاعلين ومتفاعلين على سطح هذا الكوكب منذ ما يزيد عن 14 قرنا، أثّروا وتأثّروا بالتاريخ والجغرافيا، لكن كل المعطيات والقراءات تؤكد أنهم اليوم في أكثر ظروفهم حرجا وحساسية بسبب ما يحسب عليهم من أعمال وسلوكيات ترتكبها جماعات تكفيرية باسم الإسلام، الأمر الذي جعل من أوساط كثيرة في هذا العالم، تلصق بهم تهمة الإرهاب وتصنفهم من أتباع العقائد التي لا تعترف بالاختلاف والقبول بالآخر، خصوصا في الدول الغربية أو حتى غيرها مثل ما يحدث في بورما التي ترتكب فيها جماعات بوذية مجازر ضد المسلمين تصل حد الإبادة والتصفية العرقية.
الجدير بالملاحظة أن هذه المجازر التي تحدث ضد المسلمين لم تركز عليها الأوساط الإعلامية المحسوبة علي اليمين سواء كان في الغرب الأوروبي أو الأميركي، ومر بعضهم عليها مرورا عابرا دون أن يدين مرتكبيها بإصبع صريحة ويسمي الأشياء بمسمياتها، لكن البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، كان له من النبل الإنساني والصفاء الروحي الذي يؤمن به أن أدان المجزرة بشكل صريح، ودون أن يخشى في الحق لومة لائم كما فعل بعض أسلافه، فلقد قال الأحد الماضي أمام الآلاف من المؤمنين الذين احتشدوا في ساحة القديس بطرس للمشاركة في صلاة التبشير “إن أخبارا حزينة قد وصلت حول اضطهاد الأقلية الدينية لإخواننا الروهينغا”.
وأضاف “أرغب في أن أعبّر لهم عن كامل تعاطفي معهم، وجميعنا نطلب من الرب أن ينقذهم ويلهم ذوي الإرادة الحسنة من الرجال والنساء لمساعدتهم على ضمان احترام حقوقهم”، وكان قد سبق للبابا أن ندد بمعاملة الروهينغا الذين يتعرضون للتعذيب والقتل بسبب تقاليدهم وإيمانهم في بورما، وتحدث عنهم بقوله “شعب طيب ومسالم،وهو يعاني الظلم منذ سنوات”.
ويذكر أن قوى الأمن البورمية قد فتحت السبت الماضي النار على مدنيين خائفين كانوا يهربون في اتجاه بنغلادش التي أوقفت من جانبها 70 مهاجرا من الروهينغا وأرغمتهم على العودة إلى بورما.
وذكرت وسائل الإعلام أن وفدا من الفاتيكان زار في الفترة الأخيرة كلا من بورما وبنغلادش تمهيدا لزيارة البابا.
هذا الموقف ليس غريبا عن بابا الفاتيكان المعروف بشجاعته وحزمه ومناصرته للقضايا العادلة، وقد سبق له في السنة الماضية، وفي سياق أعمال المؤتمر الدولي “الشراكة والشهادة الما بين دينيّة للرحمة من أجل السلام والمصالحة”، الذي نظّمه مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات بالتعاون مع مؤسّسة أديان وبالشراكة مع المجلس البابوي للحوار بين الأديان التابع للفاتيكان، سبق له أن ذكّر بالجذر العربي لكلمة “الرحمة” وارتباطه بصورة رحِم المرأة مكان الحب البشري الأعمق، “الذي يساعدنا على فهم رحمة الله التي هي مصدر الحياة”، كما جاء في كلمته.
مثل هذه المواقف التي تمثل في جوهرها رسائل محبة وتسامح، تمد يد الصداقة بين الثقافات والعقائد، ينبغي للمسلمين أن يتلقوها بإيجابية، ويردوا عليها بأحسن منها، لا سيما وأنهم يعانون التفرقة والتمييز أكثر من أي وقت مضى بسبب الإرهاب الذي يضرب ديارهم قبل ديار غيرهم، فهم بذلك يعانون الأمرّين: الإرهاب، والتفرقة بسبب ربطهم بالإرهاب.
الأمر الآخر الذي يمكن أن نستشفه من موقف بابا الفاتيكان الأخير، هو أن رجال الدين لم يوجدوا فقط لخدمة رعاياهم وأداء المناسك العبادية التي تخص عقيدتهم بل من أجل ما هو أوسع وأشمل وأكثر إنسانية، فالتعاطف مع أتباع ديانة أخرى ضد الظلم هو جوهر الدين نفسه وبمفهومه المطلق، إذ أن الزعامة الروحية لرجل الدين ليست مهاما تشبه العمل القنصلي والدبلوماسي أي أنها لا تقتصر على فئة دون غيرها.
المسلمون ليسوا فئة منبوذة في هذا العالم كما يحاول أن يروّج له البعض من المتكئين على نظرية المؤامرة والمسوّقين للمظلومية التاريخية من الذين يخدمون بوعي أو دون وعي جيوب التطرف والانعزال، فيسوقون في الأوساط الشبابية فكرة مفادها أن العالم يكره المسلمين ويزدريهم، وبناء عليه يجب أن نحارب العالم.
لقد حصل ـ ومازال يحصل ـ أن يتضامن أشخاص ومن ديانات مختلفة مع المسلمين فيقررون الصيام مثلا عند حلول شهر رمضان ويمتنعـون عـن تنـاول الطعـام والشراب مثـل المسلمـين، ويريـد هـؤلاء الأشخـاص من خـلال هذه المبادرة تحقيـق التعـايش بـين الأديـان والشعـور بالفقـراء، ونـورد على سبيـل المثـال لا الحصر بعض الشخصيات التي تحدث عنها الإعلام في السنوات القليلة الماضية مثل مارك هولاند، النائب البـرلماني الكندي عن الحزب الليبرالي الـذي كـان قـد أعلـن عن عزمه صوم رمضان تضامنا مع الفقراء حول العالم، وأشار مـارك أنـه يدعم بصيامه المنظمة غير الربحية “العطـاء 30” التي أسسها عام 2012 لمحاربة الجوع داخل كندا والعالم.
„المسلمون ليسوا فئة منبوذة في هذا العالم كما يحاول أن يروّج له البعض من المتكئين على نظرية المؤامرة والمسوّقين للمظلومية التاريخية من الذين يخدمون بوعي أو دون وعي جيوب التطرف والانعزال“
وقرر البريطاني سايمون هزلك المستشار الإعلامي في بعثة الاتحاد الأفريقي بالسودان سنة 2007 والمسيحي الديانة، أن يصوم شهر رمضان تضامنا مع زملائه المسلمين الذين يعملون معه في البعثة.
كما أثار فيس ماجرودر، قس الكنيسة الميثودية في مدينة دالاس سنة 2012 ضجة كبيرة في وسائل الإعلام عندما قرر أن يصوم شهر رمضان كاملاً مع صديقه وجاره إمام الجمعية الإسلامية في مقاطعة كولين، ونشر هذا القس تجربته على موقعه الخاص تضامنًا مع المسلمين، كما حرص على الصلاة في المسجد مع جماعة مع المسلمين وقراءة القرآن وتناول الإفطار.
أما الحاخام اليهودي ناتان ليفي، فأقدم سنة 2014 على صوم شهر رمضان من أجل زيادة التعايش بين الديانتين، كما جاء في تصريحه.
المسلمون واليهود أيضا وحدتهم مظالم كثيرة فالتقوا في الأندلس لمقاومة محاكم التفتيش في العصور القديمة والحديثة، وهذا لا يعني أن جميع المسيحيين آنذاك كانوا إلى جانب تلك المحاكم أو إلى جانب النازية، لكن ديانتي اليهودية والإسلام استطاعتا معا أن تخلقا تقاربا وتكاملا، إلا أنّ الحركة الصهيونية والسياسة العنصرية لإسرائيل قد ساهمت إلى حد بعيد في التفريق بين الديانتين.
لن يتسع المجال لذكر نماذج عديدة للتقارب بين الديانات، والتعاطف مع المسلمين على وجه التحديد في محنهم، لكن تصريحات بابا الفاتيكان الأخيرة تؤكد قناعة مفادها أن التعايش ممكنا.
تضامن الفاتيكان مع الروهينغا رسالة ينبغي الرد عليها بأحسن منها!!
بقلم : الديار ... 01.09.2017