بقلم : د. خالد الحروب ... 03.06.2009
عملياً وموضوعياً وبعيدا عن معايير التشاؤم والتفاؤل يبدو أن الوضع الفلسطيني المفكك يسير باتجاه "حل الدويلتين الفلسطينيتين" دويلة في الضفة الغربية ودويلة في قطاع غزة, ودع عنك الطموح الكبير بتجميع الجهد الوطني والسير نحو إستراتيجية جديدة سواء أكانت "المقاومة المفتوحة", كما تتضمن رؤى حماس, أو "الدولة الواحدة" كما تقترح رؤى مثقفين وناشطين كثيرين. في ذروة الانقسام الراهن هناك فقدان تام للبوصلة الوطنية الشاملة, والأجندة الموحدة, وهناك صراع محتدم بين برنامجين سياسيين كلاهما اصطدم في الحائط وواجه مأزقه الخاص به. برنامج التسوية بحسب اتفاق أوسلو ورؤية منظمة التحرير فشل في إنجاز الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وبرنامج المقاومة بحسب رؤية حماس فشل هو الآخر في تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وكان قد اشتغل البرنامجان ضد بعضهما البعض أكثر مما اشتغلا ضد الاحتلال الإسرائيلي نفسه, ولهذا فإن المحصلة النهائية لكليهما انتهت متآكلة. مع ذلك يستمر هذان البرنامجان في تسويق ما يعتقده أنصار كل منهما بأنه ما زال قابلاً للتسويق والنجاح. وهذا التسويق مدفوع بتقدير المصلحة الحزبية والفئوية أكثر بكثير من تقدير المصلحة الوطنية. برنامج السلطة في رام الله يتمحور حول أن "الحياة مفاوضات", وبرنامج السلطة في غزة يتمحور حول أن "الحياة مقاومة": "المفاوضات" و"المقاومة" هما وسيلتان لتحقيق غايات وحقوق, وليستا نهايات وأهدافاً بحد ذاتها. وهكذا عندما تنقسم الأجندة الوطنية رأسياً إلى حياتين متعاكستين لا متكاملتين: مفاوضاتية ومقاومية, لا تبقى ثمة مساحة لاجتراح إستراتيجيات جديدة.
ما يتبقى إذن هو إمكانية طرح شعارات جديدة وليس صوغ إستراتيجيات جديدة. بمعنى آخر يتطور الموضوع إلى النهاية التي نراها الآن وفي هذه اللحظة بالذات, حيث تُطرح الشعارات الإستراتيجية, كشعار الدولة الواحدة, من قبل مثقفين ومفكرين وناشطين, وليس سياسيين لهم دور في صناعة القرار وتغييره, وثمة فرق كبير بين طرح الشعار, وتبني الإستراتيجية. يعمل طرح الشعار الجديد على فتح أبواب جديدة للأمل والحركة الشعبية والتعبئة النضالية, وكسر الجمود. لكن الشعار المنقطع عن تصور إستراتيجي عملي يوفر للخصم مسوغ استخدامه سياسياً وتضخيمه والتخويف منه, والبناء عليه. بمعنى آخر يتحول شعار إنسانوي وأخلاقي وحميد مثل شعار "الدولة الواحدة" إلى أداة بيد الطرف الإسرائيلي لاستخدامه كفزاعة تخيف العالم من النوايا الفلسطينية. ويتحدث الإسرائيليون هنا وهناك بأن شعار الدولة الواحدة هدفه محو إسرائيل من الخريطة. وفيما لا يتعدى هذا الشعار كونه شعاراً, ولم يقترب بعد من حدود تحوله إلى خيار إستراتيجي, تكون الخسارات التي راكمها على صعيد استثمارات العدو له كبيرة. والمشكلة أن هذا الشعار, خاصة من دون أن يتحول إلى إستراتيجية شاملة, لها عناصرها وآليات عملها وتطبيقها, يغدو مفتقداً إلى برنامج عمل سياسي يمكن تنفيذه, عدا الندوات والمؤتمرات الفكرية والنخبوية. وبالتالي يصبح التشكك في مدى فائدته العملية المباشرة للصراع الحالي مشروعا. أنه يوفر لإسرائيل مسوغاً آخر للهروب من استحقاقات, ولو نظرية, لكنها أكثر واقعية متعلقة بخيار الدولتين.
لكن هناك خلاصات ونتائج إزاء الخيارات المطروحة يمكن إجمالها بإيجاز فيما يلي, أولاً: أهم نتيجة يجب أن ترافق نقاش خيار الدولة الفلسطينية المستقلة كجزء من حل الدولتين, أو خيار الدولة الواحدة, أو المقاومة المفتوحة, أو أي خيار آخر هو الابتعاد عن أدلجة أي منها وتقديسه واعتباره مساراً باتجاه واحد. بل يجب الإبقاء على طرق الانتقال من خيار لآخر سالكة. كل هذه الخيارات يجب أن تظل على الطاولة الفلسطينية, سياسياً, وفكرياً, ونظرياً, ومقاومياً. وكل مقاربة لأي من هذه الخيارات يجب أن تظل مرنة وقابلة للعودة عنها. ليس هناك حاجة للقول إنه من حق كل طرف سياسي, أو مجموعة ناشطة, أو تجمع مثقفين, أن يتبنى الخيار الذي يراه مناسباً. لكن أن يتحول هذا الخيار إلى أيديولوجيا تنفصل تماما عن الواقع, وتتصل فقط مع اليوتوبيا فإن في ذلك مخاطر الهروب إلى الأمام, والإضرار بالخيارات الأكثر عملية وواقعية.
ثانياً: من ناحية سياسية وإستراتيجية لا يستطيع الفلسطينيون في الوقت الراهن أخذا بالاعتبار قدراتهم السياسية والعملية والمقاومية الحالية الضعيفة والمفتتة, وواقعهم الانقسامي, الانتقال نظرياً من إستراتيجية خيار الدولتين إلى خيارات أخرى, وخاصة خيار الدولة الواحدة. وفي ظل التجزئة الراهنة والحادة هناك شبح حقيقي يتمثل في خيار "الثلاث دول": دولة إسرائيل, ودولة الضفة الغربية, ودولة قطاع غزة. وهنا يُستخدم وصف دولة مجازاً فكلنا يعرف أن ما يقوم عليه الوصف من عناصر ومكونات السيادة مُفتقد في الحالتين الفلسطينيتين. يكفي أن نتأمل في شرط حقيقي واحد يشترطه خيار الدولة الواحدة, كما يشترطه خيار المقاومة المفتوحة, وهو حل السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة معاً, وإلقاء الجمل بما حمل في حضن الاحتلال. هل هذا ممكن, وهل بالإمكان تخيله واردا في حسابات المسيطرين على السلطة في المكانين؟
ثالثاً: هناك نوع من الغموض غير الإيجابي في فكر وسياسة حماس إزاء خيار الدولة الواحدة, وممارسة المقاومة, ومستقبل ما بعد الهدنة طويلة الأمد التي تطرحها الحركة كبديل عن معاهدة السلام في حال تم التوصل إلى سلام مع إسرائيل في وقت ما. والموقف إزاء هذه الملفات الثلاثة يؤثر جوهرياً في المسار الفلسطيني العام, وإدراكات الأطراف الدولية والإقليمية للموقف الفلسطيني. وموقف حماس من المهم استجلاؤه لأنه من الصعب تصور تقدم خيار من الخيارات المطروحة من دون أن تكون حماس موافقة عليه بشكل مباشر أو غير مباشر.
رابعاً: في ظل ظرف الانقسام الجغرافي والسياسي الفلسطيني, وعدم وضوح إستراتيجية حركة حماس وتشبثها بغزة, وضعف حركة فتح الداخلي وانقساماتها في الضفة, فإن التعويل على ترك خيار الدولة الفلسطينية المستقلة, والاتجاه عوضا عن ذلك إلى تبنٍ جدي لواحد من الخيارين البديلين المفترضين: خيار المقاومة المفتوحة, أو خيار الدولة الواحدة هو أقرب إلى الأوهام. وفي مواجهة خيارات الواقع السيئ, ودور المؤثرات المذكورة في هذه الورقة, فإن خيار "الوضع القائم" يبدو هو الأكثر احتمالاً للتعايش معه في الوقت الراهن والمستقبل القريب, على قتامته, وعلى تضاؤل قدرته على تحقيق الحقوق الفلسطينية. و"الوضع القائم" يعني المطالبة بخيار الدولة المستقلة كنوع من الإستراتيجية شبه المفروضة, وليس الإستراتيجية القائمة على الإختيار والمفاضلة بين إستراتيجيات اخرى مطروحة. هذا على صعيد الرؤية "الرسمية الفلسطينية" المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. لكن ما يندرج أيضا في مكونات "الوضع القائم" هو نشاط دوائر المثقفين الفلسطينين والعرب والمناصرين الدوليين الذين يطرحون فكرة "الدولة الواحدة". فالإبقاء على الجهد النخبوي والثقافي والفكري في هذا الإطار مهم ويجب أن يتواصل. لكن ما يجب أن يظل بارزا وماثلاً في الذهن هو التفريق بين الشعار والإستراتيجية العملية. فلئن تمكن أصحاب الشعار من تحويله إلى إستراتيجية عملية, تأخذ بالاعتبار دور المؤثرات الخمس المذكورة هنا وتدحضها أو تغيرها, عندها سوف تسقط كل الاعتراضات, ويتحول الشعار إلى إستراتيجية عملية. من دون ذلك على الشعار أن يعرف حدوده حتى لا تصبح خسائره غير المقصودة, أكثر من مكاسبه المُبتغاة.