بقلم : سهيل كيوان ... 31.12.2009
إذا كان هناك من يوصف بأن القطة تأكل عشاءه! فهو (عيد لمحمد)! ولهذا يستغرب الناس عندما يعرفون أو يسمعون أن المشاغبات والاعتداءات على البشر والممتلكات التي تقلق القرية منذ أشهر تقوم بها عصابة من الشبان بقيادة ابنه محمد العيد!
اعتاد عيد كلما وصلته شكوى جديدة على زعرنات ابنه أن يقول بمرارة: '.. سوّد وجهي مع الناس... بهدلني.. فضحني وعزر عليّ.. ' وبعدها صار يعترف بألم 'أنا فشلت في تربيته، دللته كثيرا حتى أفسدته'.. أما في الجولة الأخيرة التي انتهت بجرحى وورطة كبيرة وتدخل (أوادم) حتى من خارج القرية فقد قال في حضرتهم: 'يا جماعة شو بدّي أحكي.. يا ريتني ظليت مربوط ولا شفت خلقته... ' وهنا صار بعض أبناء الجيل الشاب يتهامسون.. شو يعني 'مربوط'.. كيف وأين!
حظي (عيد لمحمد) بتعاطف الناس منذ طفولته اليتيمة، ولهذا فرحت البلدة كلها يوم زفافه، كان صف السحجة على ساحة العين على سعتها على حلقتين.. لم يبق رجل أو شاب قادر على السحجة إلا وحضر السهرة ثم الزفة وبعدها طوفة العريس، والطوفة هي طواف صف السحجة في أحياء القرية، فيُستقبل الصف في كل حي بالحلوى والمرطبات والسجائر، كنت أظن وقتها أن الحلوى التي يسمونها (طوفي) أخذت اسمها من طوفة العريس! النساء في ذيل صف السحجة، غيمة عطر وحناء يهزجن على إيقاع الطبلة للعريس على الفرس، العريس بحلّة سوداء وقميص أبيض وربطة عنق يتعاون عدد كبير من ذوي المعرفة لربطها وقد لا تزبط حتى يتدخل خبير مثل الأستاذ أبو جاد مدير المدرسة الابتدائية الملتزم المؤبد بربطة العنق! على عينيّ العريس نظارات سوداء وبيده أضمومة ورد جوري وحبق وزنبق وعرف الديك المخملي، ويطل من جيب (الساكو) قلم حبر (باركر) جديد ومحرمة بيضاء جديدة وسيجارة على طرف فمه حتى لو لم يكن مدخنا (عشان الهيبة)، وطبعا هو آخر من يبتسم!
في زفاف (عيد لمحمد) وصل ضيوف من كل قرى الجليل، حيّاههم الحداؤون بأسمائهم وأسماء قراهم، كانت العادة أن يحيي حفل الزفاف حداءان، ولكن في عرس (عيد لمحمد) كان أربعة حدائين، توفيق الريناوي وشقيقه أبو عاطف وأبو سعود الأسدي وشقيقه أبو غازي، ذهب وفد من القرية وأقنع الأربعة بإحياء الحفل معاً وبدون حساسيات لأنه فرح للبلدة وليس لعيد وحده! كان مهرجانا وليس عرساً!
إلا أن أمراً غير متوقع قد حدث، قلب الفرح إلى غم وقلق، في صبيحة اليوم التالي للعرس تناقل الناس بهمس خبراً يفيد بأن عيد 'لم يدخل' على ابنة عمه! وما يتوجب على العريس أن يفعله لم يحصل، ولهذا لم تسمع زغاريد فرح، وتضاربت الأخبار! البعض قال إنها إشاعة بفعل حاسد، ولكن ما لبث أن تم تأكيد الخبرعندما ظهر أبناء العائلة وكبارها مكشرين ووجوههم ثقيلة (كأن حية بخّت عليهم) وظهرت والدته مثل القابرة!
كانت انتكاسة لأهل القرية، وليس فقط لأخوال وأعمام وأقرباء وأنسباء العريس. اعترف أقرباؤه بالحقيقة المرّة، وها هم مستنفرون ومجتمعون تحت التوتة في صحن داره، ينتظرون حدوث الأمر الجلل كي تنزاح الغمّة بل الجبل الذي ناخ على صدورهم من حيث لا يحتسبون..!
العروس في غرفتها تنتظر، وذووها يترقبون بقلق.. فلا يمكن أن يتركوا ابنتهم التي طلب يدها كثيرون بعصمة رجل 'مش نافع'! ولكن بعد مئات الاستفسارات أكد أكثر من واحد من رفاق عيد وأترابه وبشكل قاطع أن عيد لمحمد لا يمكن أن يكون (مش نافع)... وساقوا دلائل وإثباتات ومشاهدات بالعين المجردة تثبت فحولته ومضاء سلاحه، وأكثر من هذا، فقد قام أحد أخواله بالاختلاء به وفحصه شخصياً وخرج في بيان لجمهور القلقين' يا جماعة عيد زلمة ميّه بالميّه... كل شي عنده تمام التمام، المشكلة فقط عندما يقترب من العروس، ينام كل شيء لديه.. '
إذاً فالأمور واضحة... عيد مربوط.. أي نعم مربوط! ولكن من الذي له مصلحة بربطه! فالربط يكون بمبادرة شخص سيئ النية بواسطة شيخ شرير، لأن الشيخ الآدمي لا يفعل هكذا أفعال... منهم لله أولاد الحرام...!
بعد التحريات اعترف عيد أن الذي 'ربطه' هو الشيخ محمد ابن (حياة) الشيخ محـــمود! ولكن الشــــيخ محمد أعلن صراحة وأكثر من مرة أنه تنازل عن الشيخة التي ورثها عن والده وجده، وتحوّل للعمل في التجارة، ففتح دكان خضار ثم دكان ملابس (يطقطق) عليها.
اشترى عيد من عند الشيخ محمد بنطلوناً بالدّين منذ ستة أشهر ولم يسدد ثمنه، وكلما مر من أمام الدكان أو صادفه في الطريق سأله الشيخ محمد:.. شو مع حق البنطلون! قال له عيد 'إن شاء الله الجمعة الجاي'. قبل أيام من عرسه مر من أمام الدكان فسأله الشيخ كالعادة.. شو مع حق البنطلون! وكالعادة قال له عيد.... إن شاء الله بعد العرس! فقال الشيخ محمد ببساطة وهو يتنهد.. 'طيّب.. على كل حال روح اتجوز يا عيد.. ' هذه الكلمات دخلت واستقرت ورسخت في وعي عيد، وكلما دنا موعد (ليلة الدخلة) قوي صوت الشيخ في رأسه'... روح تجوّز يا عيد' وبات متأكداً أن الشيخ هدده! إلى أن أزفت لحظة الحسم واقترب من العروس، فرأى الشيخ بابتسامته وعينيه الملتهبتين'... روح اتجوز يا عيد' فانهار كل شيء! وكلما أعاد المحاولة أو حثوه من خارج الغرفة على إعادتها ظهر له الشيخ من جديد بقوة وحتى بغضب.. '.. روح اتجوّز يا عيد.... '
بعد اتضاح الحقيقة تنادى أقرباؤه وما لبثوا أن مشوا في موكب مهيب تتبعهم نساؤهم على رؤوسهن قبْعات من القش فيها سكر، أرز، قهوة، فاكهة، ملبس، وفاجأوا الشيخ محمد في دكانه.. 'موجهين عليك الله والأنبياء يا شيخ محمد تفكّ لنا عريسنا... '.
راح الشيخ يقسم أن لا دخل له بالموضوع لا من قريب ولا من بعيد، وأنه ترك الشيخة منذ سنين لأنه هو نفسه غير مقتنع بها، ولكن كلما أمعن بالإنكار ظنوا أنه لم يصفح بعد فأمعنوا بالرجاء... حتى قبل منهم الهدية وثمن البنطلون وقال:.. أين عيد! فحضر العريس منكساً رأسه وانحنى بين يدي الشيخ بحياء ووجل... ضحك الشيخ محمد وقال له: ولك شو القصة.. شو صابك! ولكن بقي عيد واجماً مطرقاً والدموع في عينيه.. سامحني يا سيدي الشيخ... !
ـ ولك سامحتك.. والله أنني نسيتك من لحظة أن أدرت ظهرك...
ـ ولكن أنت قلت لي'.. روح تجوّز يا عيد... '.
ـ يعني قصدي روح تزوج وتعال بعد العرس إدفع حقّ البنطلون...
ـ يعني سامحتني...
ـ سامحتك يا عيد.. مبروكة العروس والبنطلون! يلا اتكل على الله واركض الى ابنة عمك، أنت فحل بإذن الله. قبيل المغيب شقت الزغاريد سماء القرية وتهللت الوجوه وانزاحت الغمامة، ولم يمض عام حتى أنجب العروسان طفلا أسمياه محمد! ولأن عيد عاش طفولته يتيم الأب وذاق مرارة الحرمان فقد دلل ابنه محمد، دلله كثيرا حتى خرّبه.. وصار أزعر!
ولك عيب يا محمد العيد... ولك أبوك آدمي يا محمد ... ولك لمين طالع هامل... ! ولكن لا يمر أسبوع حتى يتورط بمشكلة وتصل شكوى جديدة إلى والده... فيقول بمرارة: هـــــذا الولد بهدلني.. وين أروح بوجهي من الناس... لم يُبق لي صاحباً ولا قريباً.. سوّد وجهي. الجولة الأخــــيرة كانت قاسية لدرجــــة أن والده المســـكين وقف أمام الأوادم متذللاً وقال من قراقــــيح قلبه: 'سوّد وجهي .. بهدلني... يا جماعة قولوا لي شو أعمل... يا ريتني ظليت مربوط ولا شفته...'