بقلم : نمر سعدي ... 04.01.2010
كقارئٍ ممسوسٍ بالشغفِ إلى اكتشافِ كلِّ جديدٍ في العوالمِ المختبأةِ في الكتبِ والموروثِ الإنساني فإنني أدينُ لفطرتي السليمةِ في أحيانٍ كثيرةٍ. وأدينُ دائماً لذائقتي النقيَّةِ التي قلَّما تخطئُ في اختيارِ المجموعات الشعريةِ اللامعة.
فأنا دائبُ البحثِ عن الدواوين التي تحملُ في طياتها الرؤى والأساليب الجديدةَ والتقنيَّات العالية والمبتكرة لصياغة القصيدة العربية الحديثة وتلك المتفلِّتة والمتطلِّعة إلى ما وراء الحداثة.
وقد كانَ ديوان الشاعر الفلسطينيِّ الأصل والأردنيِّ النشأةِ يوسف أبو لوز والمُسمَّى " ضجرُ الذئب " أحدَ الدواوين الشعرية التي أفدتُ منها كثيراً وفتحت شبابيكي على عوالم ومناخات طالما حلمتُ بها.. ذلكَ أنَّهُ من الكتب الشعرية القليلة التي بهرتني بقيمتها النوعيَّةِ العظيمة. من دون أن يكون لصاحبها ذلك التقديسُ في المحافل الأدبية هنا وهناك.. ذلكَ أنها شكلَّت مفصلاً أساسيَّاً في مسيرةِ صاحبها الشعريةِ.
عدم معرفتي بالشاعر الجميل روحاً ونصّاً يوسف أبو لوز جعلني أتردَّدُ في البدايةِ باقتناءِ الديوان ظنَّاً مني أنهُ لا يحملُ الضالة التي أبحثُ عنها.. ولأنني ربمَّا أصبحتُ أميلُ إلى الأسماءِ المكرَّسةِ كغيري من الشعراءِ العربِ الذين لا يريدونَ أن يجهدوا أنفسهم بالبحثِ عن الشعريَّات الجميلة المستترة وراءَ حجابٍ رقيقٍ من الخجلْ.
ولكنني في النهايةِ غامرتُ وراهنتُ على جودتهِ بعدَ قراءةِ بعضِ سطورهِ القليلة.. وهكذا اشتريتهُ ولم أكن بعدُ قد إطَّلعتُ على ما أثارهُ هذا الديوان من ضجَّةٍ أدبيةٍ ودويٍّ شعريٍّ.. ولم أكُ أعلمُ أيضاً أنهُ حصَدَ جائزة عرار الأدبية في الأردن فور صدورهِ عام 1992 عن إتحادِ الكتاب الأردنيين والمؤسسة العربية للدراساتِ والنشر. مما حدا ببيت الشعر الفلسطيني أن يصدرهُ بطبعة ثانيةٍ أنيقةٍ بعدَ ذلكَ بسنوات.
ديوان ضجر الذئب في نظري يُعَّدُ تتويجاً حتميَّاً لمسيرةِ أبي لوز الشعرية التي بدأها عام 1983 بديوان "صباح الكاتيوشا أيها المخيَّم" ليصدرَ بعدَ ذلكَ "فاطمة تذهبُ مبكرة إلى الحقول" و" نصوصُ الدم " الذي كانَ مقدمةً لضجر الذئب مشروع الشاعر الجدِّي من حيثُ أنهُ احتوى على بعض التجديد في الأساليب والصور الشعرية البديعة.
نلمحُ في ضجرِ الذئبِ عباراتٍ مركَّبةً وأطيافاً ملوَّنةً لنصِّ ما بعدَ الحداثةِ. ونسمعُ أصداءً ملحميَّةً عظيمةً يفتتحُ الشاعر بها الديوان في مطوَّلتهِ العامرة "مجرَّةِ القتلى".
فنلمسَ هناكَ التواترَ اللفظيَ الجامحَ والخيالاتِ البريَّةَ والنبرةَ العالية والغوصَ على التراكيبِ الشعريةِ الباهرةِ للأذهانِ والتي تأسرُ العقولَ والقلوبَ معاً.. ونطربُ لوقعِ الموسيقى المارشيّةِ الهادئةِ حيناً والهدَّارةِ أحياناً في تجريبٍ ومغامرةٍ تجاوزت تجاربَ العديدِ من الشعراءِ العرب في تلكَ المرحلة التي امتدَّت من أواخر الثمانينات حتى بداية التسعينياتْ وكانت من أكثر المراحل أهميَّة على مستوى الشعر الفلسطيني الأردنيِّ الذي تمثَّلَ بشعراء كثيرين كتبوا تفعيلةً وغير تفعيلة مثل طاهر رياض ويوسف عبد العزيز وزهير أبو شايب وعمر شبَّانة وأمجد ناصر.
مجرَّةُ القتلى إعجازٌ تفعيليٌّ محض وقصيدة ثائرة على الأنماط الشعرية البسيطة بينما ضجر الذئب إعجازٌ نثريٌّ فريد ونشيدُ إنشادِ عشقِ صاحبهِ لامرأةٍ من زرقةِ البحرِ.. وقد جاءت قصيدة ضجر الذئب خاتمةً للديوان.. وبين هاتين القصيدتين يرتفعُ أداءُ الشاعرِ ولا يسفُّ أبداً كأنهُ صقرٌ يطيرُ عموديَّاً نحوَ النورِ والمجدِ.. يعالجُ موضوعاتٍ عديدة في حياتهِ الشخصية ويجعلُ اليوميَّ العابرَ يصبُّ في صميمِ الشعرِ.. الشاعر يعبِّرُ عمَّا يجيشُ في صدرِ شاعرٍ فلسطينيٍّ شاب لم يأخذ نصيبهُ من الشهرةِ والأضواء رغم علوِّ كعبِ شاعريَّتهِ..
أبو لوز شاعر مطبوع يراوحُ بينَ التفعيلةِ المكتوبةِ بوعيٍ عالٍ ورصانةٍ تعبيريَّةٍ وجدَّةٍ تصويريَّةٍ وأناقةٍ لفظيةٍ وبينَ قصيدة النثرِ الحقيقيةِ التي تحتفظُ بحرارةِ دمائها وصوتها المتفرِّدْ.
أنا أنتمي إلى أبي لوز من حيثُ أنَّهُ أستاذٌ في اجتراحٍ الأخيلة والأساليبِ الفنيَّةِ غير المطروقةِ في كتابة نصٍّ حداثيٍ جديد يرتكز على موروث الفلسفة العربية القديمة وجماليات إبن عربي والنفرِّيْ والفارابي فهو مشغوفٌ بالنثرِ العربي إلى أبعدِ حدْ.
أبو لوز شاعر متمرِّد وصاحبُ نهجٍ في تطوير وعيِ شاعريَّتهِ وتطويرِ تقنياتِ فهمهِ لما يريدُ من اللغة وكيفَ يريدُ للقصيدةِ أن تبدو في الأخير. وما هيَ المناخاتُ الأفضلُ لتربيةِ هواجس ما بعدَ الحداثةْْ.
ضجرُ الذئبُ ديوانٌ فريدٌ ودرَّةٌ كمينةٌ يهديهِ صاحبهُ إلى الفراغ.. لا أعرفُ أيَّ فراغٍ هذا الذي يقصدهُ الشاعرُ ولكنني أربطُ الفراغَ الذي أرادهُ وعناهُ في مطلعِ ديوانهِ بذلكَ الضجرِ الذي استبدَّ بالذئبِ العربيِّ.. ذلكَ الذئبِ الذي استعادَ أبو لوزَ صوغَ ملحمتهِ واستعارَ قناعهُ في مسيرةٍ شعريَّةٍ جبَّارةٍ... وحتى هذهِ اللحظةِ لم ينـزعْ شاعرنا عن وجههِ القناعَ الذي ربمَّا أعجبهُ.. فأصدرَ بعدَ خمسةَ عشرَ عاماً من صدورِ ضجر الذئب ديوان آخر هائل في جمالهِ بعنوان"خطُّ الهزلاج" والهزلاج هو الذئب الصغير وربمَّا يكون معنى هذهِ التسمية الجميلة مسربَ الذئبِ الصغير. ولا أعرفُ مصدرَ ولعهِ بالذئبِ المستوحى من الأساطيرِ الشعبيَّةِ بأنَّ الذئبَ يحملُ طبعاً غريباً يجمعُ الشراهةَ إلى الجوعِ اللا نهائيِّ .. وهذا يذكِّرُنا بذئبِ الفرزدقِ وقصّتهُ مشهورةٌ في كتبِ أدبنا العربيِّ.. ولكننا نلمسُ في نصوصِ أبي لوز بعداً آخرَ ميتافيزيقيَّاً ونجدُ أيضاً حميميَّةَ اللغةِ البريَّةِ المتدفةِ في لواعجِ روحهِ.. وهذا يعيدُ إلى أذهاننا صورةَ الشعراءِ الصعاليكِ فنحاولُ الربطَ بينَ أبي لوز وبينَ عروةَ بن الورد والشنفرى والسلَّيك بواسطةِ التعلُّقِ بحياةِ الصحراءِ وجموحها المطلقِ وبريَّتها المفتوحةِ على أقاصي النفسِ البشريةِ الحزينة لدى الشاعر الذي يحملُ من نفسيَّاتِ الصعاليكِ الكثيرَ.
ولا عجبَ في هذا فالشاعر ينحدرُ بأصلهِ من أسرةٍ فلسطينيةٍ من بدوِ النقبِ هاجرت إلى الأردنِ واستقرَّت هناك منذ أواسط القرن الماضي. بينما تنقَّلَ أبولوز بموجب عملهِ في بعضِ الدولِ العربيَّةِ كالإمارات والسعودية حيثُ عملَ في الصحافةِ الأدبيَةِ.
قالَ بعضُ النقَّادِ أنَّ ديوانَ الشاعرِ الثالث المسمَّى نصوص الدم هو الذي شكَّلَ علامةً فارقةً ونقطةً فاصلةً في تجربةِ الشاعر وهو الذي حملَ لصاحبهِ الشهرة والأهميَّةَ في العالمِ العربي.. متذرِّعينَ بمحاولات الشاعر الإنقلابَ على نفسهِ وذاتهِ الشعريَّة حيثُ حوى صوراً طازجةً ورؤى مستقبليةً ممسوحةً بالنبوءةْْ.
ولكنني أعارضهم وأُرجِّحُ كفَّةَ الديوان الرابعِ لوفرةِ مادَّتهِ ونوعيَّتهِ الممتازة واختراعاتهِ وفتوحاتهِ الكبيرة فقد حاولَ شاعرنا في هذا الديوان أن يُقدِّمَ عصارةَ تجربتهِ في الشعرِ ويجلو عبقريَّةً واضحةً من غيرِ غموضٍ في مقطوعات شعريةٍ ومطوَّلتين رائعتين اعتمدَ فيها حشدَ المعاني المجنَّحة وتكثيفَ الصور.
أفتخرُ حينَ أقولُ أنني أنتمي إلى شاعرٍ عربيٍّ لوكونيٍّ فذٍّ مسكونٍ بالحزنِ والألمِ والثورةِ والحبِّ والأحلامِ والخيبةِ من مصيرِ هذا الشعبِ المسكين ألا وهو شعبهُ ولا أزالُ أقفُ حتى بعدَ قراءاتٍ لا تحصى أمامَ ضجرِ الذئبِ في نشوةٍ شعريّةٍ عظيمةٍ منافحاً " أتحدَّى أيَّ شاعرٍ من الشعراءِ العربِ المتأخرينَ أن يكتبَ قصيدةً بمثلِ زخمِ وجماليَّةِ وإبهارٍ مجرَّةِ القتلى.." القصيدة التي أقفُ أمامها بإكبارٍ وعزَّةٍ واحترامٍ بالغٍ ... وأعتبرها ركناً أساسيَّاً في تكوين كلِّ شاعرٍ لا زالت تدغدغهُ تفاعيلُ الخليل الفراهيديِّ ... حتى لو قرأتُ كلَّ شعرِ العالمِ فإنني أنتمي إلى يوسف أبو لوز...!
**قصيدة "ضجر الذئب"
*يوسف أبو لوز
1
بَنيتُ له كهوفهَ، ومغائره..
ومددتُ له حبل العواءِ من الجرفِ الأعزلِ،
وحتى ضفاف النَّجم.
كل ليلة..
أجرُّ ورائي فريسةٍ أو فريستين،
من أجله، من أجلي.
يدبُّ فيَّ دبيب الرعد في الأودية.
مَلِكٌ على هذه الشاعرية، وصاحِبٌ
قَِلق، مُهَدَّمٌ، وَخَشوع.
مبعوثي إلى صَليل الرائحة التي تقطرُ
من الآباطِ والأثداء.
ورئيسي المُتَوَّج
ذلك،
الذئب
2
تلالٌ من القرفةِ، والخبز المحموسِ، تلالٌ رآها جَدّي ذو الرِمّة وقالَ مصعوقاً: هذه غيمةُ الجَدْبِ، وبقي عصوراً وهو يتبعها بناقته، ولثام وجهه النّاحل مثلُ أعواد الذَرة، تلالٌ تأوي إلى قمصان الخدر الذي يشبه الموت، ولا موت لك الآن، وأنت تفتْح هذه السّواحل البروزنية، مُتسلِّحاً بنبيذٍ يكفيك سبعَ ليالٍ. لو تحلُّ فيك روحُ غابةٍ، أو رَنينُ جبلٍ، لو تندفع بجسد ثورٍ إسبانيٍّ لا يقتل أحَدَ أصدقاء لوركا.. لو تزيح هذه التلال أو تمضي إلى حتفكَ، وهناك على طرف السّاحل تتمدّد، بكامِلِ دمك الشبقيِّ، وقد طلعت من رأسك
زهرةٌ بريةٌ،
لا
تذبلْ
3
شجرٌ هَرِمٌ ينحني على الوقت
يقطفُ عقربَ المساء.
ما الذي أمامك أيتها الغابة؟
ما الذي خلفكِ؟
بكلِّ ما ورثتْهُ من رعونةٍ ورواياتٍ، أحملُ صُرَّه ثيابي
كما تفعل الأمهات القديماتُ لحظةَ الفراقِ أو الحزن،
أُخبئُ دَمي وصوتي، وأُهاجرُ إلى غابة ما...
في عصرٍ ما
على إقليم ما
تحتَ رأسي نِعالي الكتّانيِ، وَأُغطي النومَ بلحافٍ من
الأغصان ثم أجهش بالحلم...
4
لا حيوانات بوسعها أن تُسْكِتَ ثرثرةَ الأنهار
لا جبال بوسعها أن تصبر على تدحرجِ الدمعِ المنفلتِ
من القبلةِ المنتظرة...
لا لغة أصعب من اللونِ الملموم على سّره الأول
*
ما أصعب البداية دائماً، خاصّة في تناول يدٍ ملساء كأنَّها حصاةُ نهر عذري، ما أصعب الكتابة إلى امرأة تُقيم في القواقع البعيدة، ومع ذلك، يَتَنزّهُ واحِدٌ من الغجر، هذا اليوم، حيث يتذكّر قول الشاعر السومريّ:
"الشمس ذاهبة إلى بيتها ووجهها محتقنٌ دماً".
يَخُبُّ في اللفيف الشجريّ، ويجترح ما هو بعد الكتابة وما هو بعد المرأة..
هل هو اللون؟
5
رَجُلُ ماديٌّ،
يقيمُ في شعر امرأة رماديّ.
ويهبطُ نبيذاً، كأنَّ النبيذَ جَسَدْ.
أو كأنَّ ثمرة النّهد فاكهة واحدة، وتكفي البحر الجائع
من أية شفرةٍ أمسك سمكةَ النّارِ،
من أي سيفٍ ناري أقبلها
أنا الجائع إلى كُلِّ هذه السيوف
والجائع إلى القبابِ والأقواسِ والممالك
6
تركني أُخوتي الرُّعاةُ، أعْزَلَ منهم، ومن زادي ومائي،
تركني الأوغادُ في المرعى الذي حصدته العصافيرُ،
جائعاً تحت السَّماء.
أحسب النجمَ صدرَ امرأةٍ تنثر عليَّ زينتَها
وأحسب البجع المهاجرَ موسيقى عابرة من تحت لساني
إلى قارّات جافّة.
تركني الولدُ الطيّبُ بلا متاع،
لا أحد في الأرضِ سِوايْ
أميرٌ على ممتلكاتي ونشيدي
ها أَنَذَا أبدأُ العمل:
أُلَمْلِمُ فُتاتَ الخيلِ،!
لِيَخْضَرَّ المَرْعى...
7
نقطة دم صَغيرة، بحجم الطُّوفان،
تسقط على طائر يمدُّ جذورَه إلى سرّةِ الموج،
يُضيءُ، ويفتت الضوءَ، ينثرهُ في العصورِ والأمكنة.
بينما هناك في الرؤية الأرجوانية.
يتحدُ الهيجانُ بالهدوءِ الرئاسيّ،
وتنفتح الذاكرةُ على خرافاتٍ مُدوّنةٍ على هياكلَ بيضاء،
وتقوم طيورٌ وثنيةٌ على رعاية الجبال،
تخبطُ، وَتَصيحُ، وتستحمُّ بالرّماد.
... من يقف هذه الأشواك، ويهيئ الليلة.
وليمةً من القمحِ والنبيذ لبرابرةٍ عابرين....؟
8
فراشةٌ سوداءُ في رقبته، عادةً، في المساءٍ، وابتسامة مغسولة بالحليب، رئيسُ الليل، وسيّد الخشب البنيّ المقتطع من إفريقيا...
ساكتٌ على رعوناتي وفوضاي،
وساكتٌ على النبيذ،
لكنه، من وقت إلى آخر، يَغْطُسُ في الإناءِ، ويخرجُ، وقد تَبَلَّلَ يشه الأشهب، ينفضُ القطرات –صاحبي- عن ريشه،
ويتأهب للتحليق...
*
البيتُ بعيدٌ يا صاحبي، وحزنُكَ الجنوبيُّ امتدادُ شعرِ امرأةٍ في الرّيح، لكن كل شيء في متناول القلب، يحدث ذلك في الليل، عندما تترك عملك في الطّابق التاسع وتذهب إلى سريرٍ بوسادةٍ واحدة. على الجدار، فوق الوسادة صورة لنساءِ بيكاسو. على فجأةٍ تتناثر النساءُ من الصورة:
فوقَ الشراشفِ،
على النافذة،
قربَ البابِ، أمامَ المِرآةِ.
وسط العتمة تُضيءُ جَزيرة النساء، وَتُضيءُ الصّورة
وأنتَ مستلقٍ بعد ليلةِ عمل.. لا تدخّن ولا تسكر،
هذه الليلة... على الأقل...
تحدّق فقط..
وثمة سهم أزرق يخترق البابَ، باتجاه البحر
9
في اسمها موسيقى، وعلى ركبتها البيضاء نقطة حبر أحمر، سقطت من عنق عصفور، مشغولة بالقهوةِ والعشب، لا تكتب الشعر ولكنها، دونَ أن تعلم، تنثره في الشارع عندما تذهبُ إلى جارتها في بنايةٍ أُخرى، والشاعرُ يَقْتَفي أَثَرَ فيفيان ويشمُّ خطاها مثل ذئب جائع، ويلتقط الشعر المنشور، يخبئه في سلّة مربوطة في عنقه، وهي ذاهبة إلى جارتها في بنايةِ أخرى، لم تَرَ الذئب خلفها، ولم تَرَ ركبتها البيضاء, ولم تَرَ أنّها جميلة، فيفيان مشغولة بالقهوة وحسب، والشاعر الذئب ممتلئ بها. الليلة، هي الفريسة، أخذها إلى الجبل، أوْقَدَ ناراً، أولمَ لها قلبه، قدَّم لها نبيذاً مدفوناً منذُ ثمانين سنة.
يآ...
ما أطولَ حلمَ الذئب
وما أسرعَ فيفيان!
10
امرأة خلاسية أو خبز عل وشك الاحتراق، وحيدة، وعلى حوافّ الثلاثين، ذات صباح، بجانب البحر، لم تكن تفعل شيئاً سوى أن تتفرّس في الماء.
على بُعد منها...
رجلٌ يقرأ الصّباح: بحر وامرأة تتفرّس في البحر.
مرّت ساعة على ذلك، نظر الرجل إلى البحر، لم يكن هناك ماء.
ذاب فجأة ذلك السلطان الأزرق الكبير.. يابسة طريّة
ولا شيء غير ذلك...
صارت المرأة كلها زرقاء.. جسدها أزرق، أظافرها زرقاء، شعرها أزرق، وصوتها أزرق.
***
إمرأة في الزرقة،
وحيدة وعلى حوافّ الثلاثين، ذات صباح، هاجرَ البحرُ إليها، سكن فيها،