بقلم : د.خالد الحروب ... 20.01.2010
صوت انفجار قذائف طائرات إل اف 16 يدوي أمام القصر الملكي المتجمد برداً وصقيعاً في "ساحة الدام" في قلب أمستردام. عابرو الساحة والشوارع المحاذية لها يسيرون مسرعين مثقلين بالمعاطف والمظلات وأغطية الرأس. يسبقهم بخار تنفسهم إذ يتلفتون مذعورين وباحثين في كل الاتجاهات وإلى السماء: من أين يأتي هذا الصوت. أصوات قذائف متلاحقة, انفجارات مجنونة, وشظايا قنابل ترتطم بجدران صفيحية حادة تزعق في آذان المحتشدين. لكن لا شيء يتساقط, ولا دمار يتناثر. الشاهد المادي الوحيد على الحرب التي يزداد صوتها جنونا في الساحة هو الأحمر القاني المنثور على صفحات بيضاء فوق طبقة الثلج الأبيض في الساحة الرباعية الواسعة. أصوات قصف الطائرات الحربية والقذائف والقنابل الفسفورية وصراخ الناس وهلعهم وبكاء الأطفال يأتي من سماعات ضخمة خلف يافطة كبيرة مكتوب عليها ما يستنكر جرائم إسرائيل في غزة. ندرك أن هذه الأصوات المرعبة هي تسجيلات حقيقية لآلة الدمار الإسرائيلية ووحشيتها في العام الماضي, تُدار وتُعاد إدارتها فيتذكر هنا من امتدت به ألسن أهوال الحروب الماضية التي مرت بها القارة الآمنة الآن.
مجموعات الناس الذين يُطبق عليهم صقيع نازل عن الصفر بعشر درجات ينتصرون عليه بحرارة الغضب الذي يلتهب في صدورهم عند النظر في قوائم مئات الأطفال الذي قتلتهم تلك الطائرات. دمهم ما زال يفور, أحمر قان. في صفوف أفقية طويلة تحمل الأوراق البيضاء أسماؤهم, أعمارهم, أماكن ومخيمات ميلادهم, لحظة انقصفت براءتهم وغارت عليها غربان سوداء من سماء صبت عليهم الجحيم: "تامر حسين علي الأخرس, 5 سنوات, قتل في قصف مدفعي إسرائيلي في حارة الزيتون في مدينة غزة في 27 ديسمبر, يحيى إبراهيم فاروق الحايك, 13 سنة, قتله الجيش الإسرائيلي في 27 ديسمبر في حي تل الهوى في مدينة غزة, معاذ ياسر أبو طير, 6 سنوات, قتله الجيش الإسرائيلي في 29 ديسمبر في عبسان الكبيرة قرب خان يونس, لمى طلال شحادة حمدان, 4 سنوات, قتلها الجيش الإسرائيلي بقصف صاروخي يوم 30 ديسمبر بينما كانت تقف بجوار بيتها قريبا من بيت حانون, وقد أصيب شقيقها أيضا في القصف وتوفي متأثرا بجراحه, ..." تطول قائمة أسماء الصغار, تمتد على طوال أيام الجريمة, وتتوزع على كل جغرافيا القطاع. إلى جانب كل ورقة هناك شيء ما من كل منهم: فردة حذاء مهشمة, لعبة صوف فقيرة, شورت صغير مغبر, فستان فتاة يحن إلى جسدها الطري, دفتر حساب محترقة أطرافه, حقيبة مدرسة تجمد على ظهرها الدم, مشط شعر كأنما نسيته للتو بنت ركضت إلى صفها تاركة فيه خصلات شعر يريد أن ينطق. على زوايا الصفوف الأفقية للأوراق الحزينة يتمايل نور شمعات صغيرة خجل الصقيع والهواء الجاف من التحرش به أو إطفائه. يتحرك قارئو الأوراق البيضاء في مربع كبير من الأوراق الصغيرة المُحاطة بالشمع والورد الأحمر وشبر وداع أسود. يتنقلون من اسم لاسم, من دم لدم, يتسمرون أمام التفاصيل. ينسون البرد القارص, وتسقط دموع ساخنة على برودة الثلج الأبيض فيشعر الصقيع بلسعة الدم ويخجل من برودته. أرواح الصغار صارت تتحرك وتصعد من الأوراق الصغيرة, ضحكاتهم تقفز فوقها وصاروا الآن يتراكضون ويلعبون بالثلج الأبيض. يكورون كرات بيضاء ويقذفونها باتجاه "بنجي", الهولندي الستيني الطيب وأحد من يقف وراء تنظيم هذا الجمع.
يتجول "بنجي" اليهودي الناقم على وحشية إسرائيل ورئيس جمعية التضامن مع فلسطين بين المتجمهرين. يحمي يديه من البرد في معطفه, شفتاه ترتجفان كما نحن جميعا, بعض شعره الأشيب يطل من تحت الكوفية الفلسطينية التي يدثر بها رأسه, ويرحب بالجميع, وبابتسامته العميقة الدائمة يحتضن أملاً غامضاً. "بنجي" وجمعيته المناضلة يجوبون مدن هولندا, من روتردام, إلى لاهاي, إلى أمستردام, ولايدن, ونايميخن. في ساحات كل هذه المدن المتجمدة في شتاء قاتل يمر على أوروبا هذه الأيام يفردون أسماء الأطفال الغزيين, وخلف اليافطة الكبيرة يديرون سماعات الحرب, حتى يسمع العالم هنا, ما يدور هناك. يتواصل اتقاد قلوب مجموعات قليلة من الناس يقتلها ركل العدل وروح البشر باسترخاص. صحيح لا تزال الغالبية تجهل ما يحدث, ولا تكترث, وتقتل بجهلها ولا اكتراثها ذاك "بنجي" ورفاقه. لكن روعتهم تكمن في إيقاد الشموع عوض لعن الظلام.
هز أمين رأسه مُكبرا "بنجي" وأصحابه, ثم قال لي إنهم يخاطبون الهولنديين بلغتهم, بمزاجهم, بالكيفية التي تنفذ إلى دواخلهم, بطرائق لا نتقنها نحن. إنهم رائعون. لكن ما يثير الحزن والغيظ معا أن ثمة من هم "منا" يستتفهون كل هذا الذي تراه. بعضهم يقول إنه لا فائدة منه, ويفضلون التنعم بدفء بيوتهم عوض المشاركة معنا هنا. وبعضهم يغرق في اللا اكتراث. لكن الأسوأ من الجميع هم أولئك الذين يطلقون فتاوى بـ "عدم جواز" القيام بهذه الأشياء لأن فيها تقليدا لممارسات غير المسلمين مثل إيقاد الشموع وغيرها, فضلا عن الاختلاط المحرم! حزنت كثيرا لانتشار سرطان التخلف يأكل من لحمنا الحي حيث كنا. اعتذرت من لمى, ومعاذ, ويحيى, وتامر, وقوائم المئات من الصغار الذي كانت أرواحهم لا تزال تحلق في ساحة القصر وحولته إلى شعلة نار دافئة. تخيلت عيونهم المبتسمة يفيض منها حب أبيض كالثلج لكن يُشع منه دفء كوانين الحطب الشتوي.
عيون مناصريهم هنا متعلقة بهم, تودعهم, تربت على جفونهم قبل أن يغادروا الساحة. كثيرون منهم ساروا باتجاه محطة القطار الرئيسية. مر برأسي كابوس أنخلع له قلبي فيما لو كان قد حدث. بين المحطة ومطار أمستردام عشرون دقيقة. قبل أسبوع واحد فقط كان واحد من سفهائنا, ووراءه المجموعة الأكثر سفاهة في تاريخنا المعاصر, يريد تفجير طائرة مزدحمة بالمدنيين من ذلك المطار. ماذا لو كان بعض هؤلاء الذين تجمدوا في صقيع هذا اليوم على متن تلك الطائرة؟ وحتى لو يكن أيا من هؤلاء فبأي وجه سنقابل أرواح الأبرياء التي اتقدت على دفء الشمع, وكان زيت الاتقاد يسيل هادئاً من روح واحدة تخطت كل الحواجز وانبجست من فوران التوق للعدل ومواجهة الظلم؟