بقلم : د. خالد الحروب ... 04.08.2010
تمتعت طلائعية المثقف وريادته ودوره في الشأن العام بدعم إضافي في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة انتشار الإعلام الجماهيري: الصحف، الإذاعة، ثم التلفزيون. وحدث هذا التغير الإيجابي في معظم المجتمعات وتجاوز تصنيفاتها المتنوعة كمتقدمة أو نامية. في كل وضع اجتماعي وعام بدا وكأن المثقف يتسنم دوراً متصاعداً جوهره الدفاع عن قيم العدالة والانتصار للمظلومين ونقد السلطات والأنظمة الاكراهية التي تنزع بالتعريف نحو التهام مساحات حرية الأفراد، وحقوقهم، ومصائرهم. في العالم المتقدم، أو الغرب، ومن رماد الحربين العالميتين اللتين أطاحتا بعشرات الملايين من البشر انتفض مثقفون ينطلقون من خلفيات متعددة ينتقدون السعار الذي قاد إليه العلم الحديث في إحلال الدمار الذاتي في العالم والبشرية. وضع مشروع الحداثة برمته على محك النقد والتفكيك لاستكناه جوانب الضعف الفلسفي التي تتيح لجبروت القوة وإغرائها وغطرستها أن يفلت من أي قيود كوحش قاتل قمين بالقضاء على كل جوانب الحياة. كان السؤال الوجودي الذي أقض عقول جيل من المثقفين كيف يمكن للعلم الذي راهنت عليه اوروبا للخروج من ظلام القرون الوسطى وسيطرة الدين الاستعبادية أن يدفع مجتمعاتها وقادتها إلى حواف الجنون والتدمير الذاتي والعنصرية وأنواع الاستعمار والحروب التي لا تنتهي. كانت الحسابات والأفكار العقلانية "الكانتية"، تبعاً لإيمانويل كانت، والتي تبشر بعالم ينقاد نحو السلم العالمي في مسار الدمقرطة الجماعية الحتمية، قد ألهبت خيال كثيرين في القرن التاسع عشر، ودفعت بهم نحو تأمل عالم مثالي موحد. لكن الهزيمة المدوية التي تعرض لها كانت على أيدي واقعية ووحشية توماس هوبز وتقديمه للحرب والصراع في حياة البشر والمجتمعات والدول كانت أكثر من كافية لتعيد الزج بكل الأفكار التفاؤلية أو خطية المبتدأ والمنتهى في أتون إعادة النظر والنقد والتشكيك.
أهم نتائج إعادة النظر تلك كانت في صك قانون الشك في القوة والسلطة وأحاطتهما بكل سبل التحوط والتقييد خشية الانفلات ثانية باتجاه الحروب والتدمير. كانت تلك لحظة حاسمة وكبيرة من لحظات الاختبار الكبير للحداثة السياسية، بتمثلات وشطط قوتها الفائضة، سواء داخل أوروبا أو خارجها، وتمثلات بدائلها والآسيوية (وتحديداً التغول الاستعماري الياباني)، وكان المثقف واقفاً في قلب تلك اللحظة وموجها لها: فلسفياً، وسياسياً، وقانونياً، وفنياً، وإعلامياً. وتطور وعي ما بعد الحرب النافر منها ومن كل السياسة التي تقود إليها، والمؤمن بإمكانيات الإنسان في إيجاد تزواج ومصالحات بين المصالح المتنافسة والمتضاربة عوض حسمها بالحرب، أو على أقل تقدير حسمها بطرق سلمية وتفاوضية.
في الجزء الآخر من العالم، أي في العالم الثالث أو النامي، وقف المثقف في قلب عملية تحول تاريخي أخرى متمثلة في التحرر ونزع الاستعمار والاستقلال الوطني. في معظم إن لم يكن في كل حركة تحرر وطني في العالم المُستَعمر برز مثقفون مناضلون كانوا ضمن "الطليعة الثورية" التي حملت على عاتقها عبء مقاومة الاستعمار، وعبء النهوض بمجتمعاتها من حقبة التخلف. انضوى هؤلاء في معظمهم تحت تعريف المثقف العضوي، أو المثقف الغرامشي، المنتمي إلى طبقة أو حزب أو مجتمع، والمدافع عن حقوقه والمنافح عنها ضد الاستغلال وقواه متنوعة المصدر. وانخرطت أجيال من المثقفين العضويين في الصراع الدامي خلال حقبة التحرر، وكانت المعركة المزدوجة، ضد الاستعمار من جهة والاستبداد من جهة ثانية، طويلة ومريرة ومكلفة.
مع انقضاء حقبة الحروب الغربية المليونية وانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر تسيدت مفاهيم النقد ما بعد الحداثي في النقد السياسي، وتموضعت معاول التشكيك والتفكيك بجهوزية دائمة مدعومة بإعلام مفتوح وشبه حر للهجوم على تغولات السلطة والقوة. ومع حلول حقبة الاستقلال الوطني في العالم المُستَعمر سابقا ومرور عقود على تسلط جديد من الحكم الوطني واستبداداته وفشله تسيدت مفاهيم جديدة من النقد الذاتي تتجاوز الشكوى المرضية المتجذرة بإحالة كل أنواع الفشل على الاستعمار والعدو الخارجي. اختلطت الأمور بشكل أكثر تعقيدا مع عولمة الإعلام وتفرع جهاته وأدواته وعبوره الدائم نحو حدود جديدة. بشكل تدريجي تمكن الإعلام من انتزاع دور النقد وهو الدور التقليدي الذي قام به مثقف القرن العشرين سواء في العالم المتقدم او العالم النامي. وبسبب السطوة الكبرى لهذا الإعلام واتساع نطاق التواصل الجماهيري الذي حققه فإن المثقف وانتاجاته النقدية وغير النقدية تحولت إلى مادة تحاول إيجاد موطئ قدم لها في أمبرطوريات التواصل الدعائي الجديدة. صحيح بطبيعة الحال أن المنتج النقدي، أو الكلمة، بقي وبقيت هي أس الإعلام وان الجوهري في العملية الإعلامية ظل معتمدا على النص، لكن هذا النص ومع اقتحام الصورة له على وجه التحديد، اضطر لأن يتنازل كثيراً عن عمقه الفلسفي، واحياناً عن نبرته التحريضية، وفي كل الأحوال عن اسهاباته وتوسعاته التي لا تسمح بها العملية الإعلامية المُعتمدة على الإيقاع السريع والمحددة بسيف الوقت في كل الاحوال. وهكذا وقعت العملية النقدية ودور المثقف معها في أسر اشتراطات الإعلام الجديد الذي وحده يصل إلى الجمهور بأوسع نطاق. بقي الدور التقليدي للمثقف في مساحات أخرى من نفس الإعلام كالصحافة وانتاج الكتب وسواها قائما. لكن درجة تواصلية تلك الأدوات مع الجمهور تعرضت ولا تزال لأزمة حقيقية مع تسيد الإعلام المتلفز والعابر للحدود والقارات. تزايد افول دور المثقف وتأثيره التقليدي امام بروز انماط إعلامية ونجومية وشعبوية جديدة قدمت اولوية إيصال ثقافة مسطحة على نطاق واسع على أولوية تقديم ثقافة معمقة لكن محدودة الانتشار والتأثير. كان ذلك وما زال عودة إلى جدلية قديمة وصراع متأصل بين الثقافة الأفقية الهشة والثقافة العمودية الرصينة. والمثقف الواقع تعريفا والمنحاز بداهة مع انماط الثقافة العمودية والعميقة يجد نفسه الآن في حيرة وأزمة حقيقية بين الاندراج في التسطيح الواسع الانتشار، أو البقاء مع التعريف التاريخي محدود التأثير.