أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
دراسات في الثقافة البدوية في النقب!! "10"

بقلم : زهير ابن عياد ... 24.06.2010

النار *
ما زالت عملية إيقاد النار تحمل صدى لطقوس معينة ورمزية وذات مدلولات عريقة وقد تحدثنا في باب الكرم قليلا عن أهمية النار وإيقادها الدائم , هذه العادة التي نشاهدها اليوم بصورة مشابهة عند بدو النقب فإذا جاء ضيف تراهم يوقدون النار أو يجددوها أو على الأقل يمدوها بالحطب إذا كانت مشتعلة , وما هذه النار إلا نار القرى التي عرفها القدامى وكانت توقد ليلا لجلب الضيوف وهي نار عز وفخر لصاحبها.
والجاهليون عرفوا نيران عديدة كلٌ منهم تؤدي طقوس معينة ومنها بالإضافة إلى نار القرى:
نار التحالف : وإيقادها في حالات الحرب أو الاجتماع ويقول ابن الرومي:
له ناران نار قرى ونار حرب _ ترى كلتيهما ذات التهاب
ونار الحلف: التي توقد عند حلف اليمين.
ومن ترسبات هذه النيران عند البدو ولو بأشكال مختلفة , ما وصلنا من ثقافة شبه تقديسية فمقابل نار القرى الجاهلية , عيّر البدو الخيمة التي ليست بها نار بالبخل وقالوا " البدوي ما تنطفي ناره" وهي اسلوب قديم فتعيير البدوي بعدم ايقاد ناره عادة عريقه تظهر في قول ذاك الاعرابي الذي هجا ابن عمه قائلا :
لا تعرف الريح ممساه ومصبحه _ ولا يشبّ اذا امسى له نار
وقد رأيت بعضهم من شيبان النقب لا يقدر ان يمضي يومه دون ان يشعل ناره , وكأنها عادة توارثتها الاجيال رغما عنها .
فهي إذاً من معايير ومعاني الكرم والفخر تبقى مشتعلة لتدل عابري السبيل على الخيمة وكرم الضيافة , وما زال جدي وان زرته قيظاً شتاءاً رياحاً تجد ناره مشتعلة يقول الشاعر سامي أبو فريح :
يا ونتي ونة إلوجعان - يا دمع عيني تقل غدران
شبه الجراح يسليني - يا عيال بو مشعل النيران
وكانوا يدعون على بعضهم بقولهم الله يطفي نارك.
وفي مقابل نار الحرب والاجتماع ,عرف بدو النقب نار الليل التي يوقدها الرعاة في المراعي البعيدة وفي عزباتهم وذلك ليأنسوا بعضهم ويجتمعوا عندها حتى لا تتعرض مواشيهم للنهب
أما نار التحالف فوصلتنا على هيئه أخرى ,فنرى من عوائد بدو المنطقة حتى اليوم انه إذا حدث صلح أو اتفاق في بيت ما فإن راعي البيت يقوم بإيقاد النار أو تجديدها مع تحضير القهوة ,وكثيراً ما نرى أنه في الولائم يتم إيقاد النار وسط الجميع ليشعروا بالتحالف والألفة ويستأنسوا . أما نار الحلف فأشهر ما تعرف , واعتقد البدو بها وتأثيرها السحري وضربوها في الأمثال كأقوالهم "النار فكاكه النشب " فإذا ابتدع الجاهليون نار الحلف ,فأن بدو النقب عرفوها أيضاً عن طريق البشعة ,واصلها إذا أراد قوم ما إثبات الجرم المنكور على خصمهم فإنهم يدعونه إلى البشعة أو العكس أن يقوم المدعي عليه بدعوتهم للبشعة ليثبت براءته عند صاحبها المبشع الذي بدوره يقوم بإضرام النار ويضع فيها محماس البنّ حتى يحمّر ، ثم يعطيه للمتهم ليلحسه ثلاث مرات فاذا اثر ذلك في لسانه وأحمر وظهرت عليه بقع اكدوا التهمة عليه , وان بقي على حاله لم يتأثر فهو بريء . وعلى الرغم من اختفاء هذه الظاهرة اليوم فما زلنا نسمع تردد صداها بين اطفال البدو خاصة اذا القوا امر على الكبار فلم يصدقوهم فيقولوا " والله صدق فكر في لساني " أي انظر لساني , والاعتقاد انه اذا كان لسانه احمر فالولد كاذب وهي عادة يستعملها اطفال البدو كثيرا حتى اليوم.
نار الحلف في الجاهلية كان لها شخص مختص يوقدها وهو الشاهد على التحالف وفي حالة البشعة ايضا يوقد النار ويقوم بالبشعة رجل مختص ايضا هو اليوم من بلي في سيناء . من كل ذلك نخرج بنتيجة مفادها ان النار ملكت رمزية مبهمة قديما استمرت شظايا منها في المجتمعات البدوية.
وصى احد الشيخان ابنه عندما اراد السفر بقوله اذا نزلت خلاءاّ فاوقد نارك وسليها كجارك وما زلنا نرى انه اذا جلس الرجل في الخلاء ليلاً فانه يوقد ناره ويتعهدها بالحطب الدائم ليستأنس بها ٍويغني لها بصوته العالي شبيّ يا ناري شبيّ خبي وانا ازيدك بالحيل . او شبي يا نار شبي ترى حطبكي من ظلوعي , وكانوا يشعلونها بحجر الصوان فيما يسموه قدح زناد وهو طريقة جاهلية كما يقول نشوان بن سعيد الحميري:
ام اين ذو شهران او ذو ماور _ اضحت زنادهما بلا قداح
ومن اسماءهم لمكان النار بيت النار, حفرة النار, نقرة النار , موقد النار , الاوجار , وبدو بادية الاردن سموا محيط النار بحاجز النار وهو المقصود ذاته عند عرب النقب ب" حرف النار " وكانوا يطبّخون القهوة عليها وهي صورة ما زلت ارى جدي يعملها , ومن مصطلحاتهم في الامر بايقادها اقوالهم اوقد النار – ولّع النار – شبّ النار وهي قديمة أي أضرموا الحطب يقول البحتري :
فسقى الغفا والساكنيّة وان هُم _ شبوه من جوانح وقلوب
حش النار أي تعهدها بالحطب , او اشعل النار , ومن تواصيفها عندهم النار الكبرأ الشديدة ولهب النار يسموه صلو او صلى النار وكذلك هبو النار وعرفوا رماد النار وسماه بدو النقب بالسكنة وكأنهم سموها بذلك لأنها تسكن وتهدأ فكما يقال سكن غضبه فالنار تسكن والسكنة سكونها.
ونار لهابة أي ان لهيبها شديد وهي من العبارات الجاهلية وفي الحقب السالفة انتشر عند البدو هنا اسم اللهيب قال ابوتمام :
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى _ يشلّه وسطها صُبجٌ من اللهب
وقالوا كذلك لظى النار يقول ربيعة بن سفيان:-
عناقا ضروسا بين عوف ومالك _ شديدا لظاها تترك الطفل أشيبا
ومن الفاظهم الدالة على استعمالها في الطعام اقوالهم – يشوي – يملّ - يطبخ- يستوي - يحمرّ...
ختاما نؤكد على ان النار احتلت مكانا مهما في سياق الحياة الاجتماعية عند البدو عموما ومنهم بدو النقب , وكثرت حولها التعابير والحكايات والقصص والاعتقادات وكل ذلك مستمد من تلك البيئة الجاهلية وفي الحماسه هناك باب خاص سمي "ما قيل فيمن اخمد ناره" , ومن عبارات بدو النقب من قولهم " لا تولع النار بزيادة" أي لا تزيد المصيبة مصائب وكأنك تمد النار بالحطب فتزيدها إشعالا ً كما يقول دُريد :
وجسدا إذا الحرب مرّت به _ يعين عليها بجزل الحطب
ومن منطلق قول خناس في مدح أخوها " كأنه علم في رأسه نار"نرى مدى ترسب هذا الأمر في الأذهان وكأن النار تدل على سمو وعلو صاحبها ...ودعوني اختم بهذه الصورة وهي تعتبر من ألعاب بدو النقب فكانوا يضعون عوداً في النار ويخرجوه ويلعبوا به قائلين شيخ شرنتح ووجدت أن لهذه اللعبة اصل في الجاهلية بحيث ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة أنها لعبة يلعب بها صبيان الأعراب تسمى المهزام واستشهد ببيت لجرير
كانت مجرئة تروز بكفها _ كمر العبيد وتلعب المهزاما
((مقاييس اللغه الجزء السادس ص 52 ))