أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
استراتيجية المقاومة الشعبية!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 28.02.2011

وفرت الثورتان الشعبيتان في تونس ومصر دروساً غنية في مجالات تكاد لا تحصى. وأحد الدروس المركزية الغنية هو "الفاعلية المدهشة للمقاومة غير العنفية". والانقلاب المفاهيمي الذي أحدثته هاتان الثورتان يكمن في التخلي عن العنف وطرح شكل جديد هو "الثورة السلمية". وقد ارتبطت كلمة الثورة في المخيلة العامة، وخاصة العربية، بكونها مسلحة، بخلاف ما نشهده في هذه المرحلة، حيث انسحب اليوم السلاح الثوري من المشهد الذي تم احتلاله بالكامل بالوسائل السلمية المدهشة بكل تأكيد. وهي الوسائل التي نجحت، بسبب سلميتها، في تحييد سلاح الأنظمة وأجهزة أمنها وجيوشها. والمهم في كل ذلك كله هو النصر السريع وغير المكلف نسبيّاً الذي حققته الثورتان، وربما تحققه غيرهما في الأفق المنظور. وهذه السطور تتأمل إمكانية تطبيق الدرس التونسي والمصري في فلسطين وضد الاحتلال الإسرائيلي عبر تبني استراتيجية مقاومة غير عنفية تحيِّد استخدام السلاح وتطرح رؤية وممارسة جديدة.
في ظل التجربة التاريخية الغنية والعميقة، وأحياناً المريرة، يتحدد شكل المقاومة وطبيعتها، فلسطينيّاً وبشكل عام أيضاً، من خلال الظرف المُتاح، الداخلي والإقليمي والدولي. وليس هناك من شكل أو خيار للمقاومة يحظى بقدسية أو حصانة ضد إعادة النظر أو النقد أو التجميد المرحلي أو حتى التخلي التام عنه. ونوع المقاومة الذي يتم تبنيه في غير أوانه الظرفي، من ناحية الشكل، والأدوات، والزمان، والمكان، قد يقود إلى أضرار وإعاقات في المشروع الوطني عوض أن يخدمه. وفي ذات الوقت يجب الإبقاء على "المقاومة" في المرتبة الثانية للسياسة، فالسياسة هي العقل المفكر، والمقاومة أيّاً ما كان شكلها هي واحدة من الأدوات. كما أنها، أي المقاومة، ليست هدفاً بحد ذاتها بل وسيلة لتحقيق أهداف وطنية وسياسية. إذا انقلبت هذه المعادلة وصارت المقاومة هي التي تقود السياسة فإن الأجندة الوطنية والمشروع الوطني برمته يصيبهما الارتباك الشديد وربما التقهقر. وهذا كله بشكل عام ينطبق على الممارسة الفلسطينية الماضية. أما حاليّاً ومستقبليّاً، وفي ضوء التجربة المقاومية في العقدين الأخيرين، منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، وفي ظل الظروف الداخلية الفلسطينية الراهنة والسياقات الإقليمية والدولية، وفي ظل الدرس العميق لثورتي تونس ومصر فإن البوصلة أصبحت تشير إلى ضرورة النظر جديّاً في تبني نوع المقاومة الشعبية على حساب المقاومة المسلحة في فلسطين. والمعايير الأساسية التي تقف خلف اختيار وسيلة مقاومة أو سياسة أو استراتيجية معينة تكمن في ثلاثة عناصر أساسية: الفاعلية، وإمكانية التطبيق، والظروف المحيطة. وهذه العناصر الثلاثة تدعم خيار المقاومة الشعبية وغير العنفية، فهي فعالة كما شهدت ميادين ومدن تونس ومصر حيث أسقطت أنظمة ديكاتورية قوية وتمكنت من حشد وتعبئة الملايين، وهي ممكنة التطبيق، والظروف الإقليمية والدولية والإعلامية المعولمة والرأي العام المتابع يساعدها ويتوافق معها.
وفي ضوء التجربة الغنية وذات الدروس العديدة للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وخاصة في العقدين الماضيين، وعدم تحقيقها للطموحات والحقوق الفلسطينية الأساسية يصبح من الضروري إعادة النظر في الشكل المسلح للمقاومة وتبني واجتراح أشكال غير مسلحة تكون أكثر فاعلية وأوسع تأثيراً. والحال أن هذه الفكرة ليست جديدة بل لقد وجدت في الخطاب السياسي الفلسطيني منذ فترة طويلة، وإن بقيت على الهامش ولم يُسمع صوت المنادين بها وسط صخب سلاح المقاومة العنيفة. ولكن الجديد بشأنها يتمثل في جوانب عدة تشكل في الوقت نفسه المبررات والمناخ المساعد لتبني هذه الفكرة، كما سنرى أدناه. ومن المهم قبل ذلك القول إن تعريف ومفهوم المقاومة الشعبية يتسع ليشمل جوانب نضال سلمي عديدة، متداخلة، وذات جغرافيات وتجمعات وأدوات عديدة، تتضمن المظاهرات والاحتجاجات الداخلية والمستوطنات والجدار وكل أشكال الاحتلال والمقاطعة الشاملة، ومقاطعة إسرائيل خارجيّاً، والتعاون مع شبكات عالمية وواسعة من المتضامنين للتأليب على مقاطعتها دوليّاً بما في ذلك المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وملاحقتها قضائيّاً، وكشف عنصريتها عن طريق الإعلام ووسائله المعولمة الحديثة، وتحويلها إلى دولة منبوذة في العالم قائمة على الآبارتايد، وكل ذلك بهدف خلق رأي عام عالمي لا يتحمل غض النظر عن جرائم إسرائيل واحتلالها ويدفعها إلى الخضوع للقانون الدولي كما حدث في تجربة جنوب إفريقيا. وكما حدث في ماضٍ سابق حيث أجبرت المقاومة السلمية بقيادة غاندي بريطانيا العظمى على تسريع الانسحاب من الهند ومنحها الاستقلال.
إن هناك العديد من المسوغات والبيئة الحاضنة الجديدة لفكرة "المقاومة الشعبية"، وأولها وأهمها تزايد القناعة بها فلسطينيّاً وبروز إجماع قيد التكوين حولها في الأوساط السياسية والحزبية الفلسطينية، على خلاف النظرة الاستهتارية لها خلال عقود ماضية. فاليوم ثمة توافق متزايد على فكرة المقاومة الشعبية، أي غير المسلحة، من قبل أطراف عديدة في الساحة الفلسطينية تشمل حكومة تصريف الأعمال في الضفة الغربية، وحركة "فتح" وخاصة بعد المؤتمر السادس في بيت لحم الذي نادى بالمقاومة الشعبية، وسكت عن الكفاح المسلح، ومعظم الفصائل والحركات الفلسطينية بما فيها المبادرة الفلسطينية. وإضافة إلى ذلك فإن أصواتاً داخل حركة "حماس" مقتنعة بإمكانية تبني هذا النوع من المقاومة، بشكل أو بآخر، كما أن التوقف العملي للمقاومة المسلحة من قطاع غزة يصب في هذا الاتجاه.
وتمتاز المقاومة الشعبية غير العنفية بقدرتها على إعادة الجماهير العريضة لساحة النضال. ففي المرحلة السابقة وبسبب فوضى السلاح والمظاهر السلبية التي رافقت الانتفاضة الثانية سنة 2000 أخرجت الجماهير من ساحة النضال الشعبي الذي احتلته التنظيمات المسلحة فقط. وبإمكان المقاومة الشعبية غير العنفية إعادة الروح لدور تلك الجماهير في العمل العام والضاغط. وما يحصل في بعلين ونعلين وأماكن أخرى دليل على ذلك. ويترافق مع هذا اتساع نطاق التأييد لهذا الشكل من المقاومة واتساع دائرة المنخرطين فيها وتشمل النخب والمنظمات غير الحكومية وبرلمانيين وسياسيين حاليين وسابقين. فطبيعتها اللاعنفية تساعد على جذب المزيد من المؤيدين نظراً لأن أكلافها غير باهظة، وبسبب معقولية أساليبها وصعوبة مواجهة منطقها.
وقبل ذلك كله وفوقه تتمتع المقاومة المدنية والشعبية غير العنيفة بقوة منطقها الأخلاقي وإحراجها للعدو وحلفائه. فهنا تتمتع المقاومة غير العنيفة بموقف أخلاقي يعلو فوق الاحتلال الإسرائيلي والغطرسة الصهيونية. ولعل ردود الفعل الإسرائيلية المتشنجة والعنيفة على مظاهر المقاومة الشعبية والمعولمة تدلل على التأثير البالغ لهذه المقاومة.