أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
أرض الدم والنواح!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 30.03.2011

هل يمكن اختصار الصراع العربي الصهيوني بكلمة واحدة؟ نعم: الأرض. اليوم هو الـ30 من آذار، وهو منذ العام 1976 صار يوما للأرض، يحتفل به الفلسطينيون داخل فلسطين وخارجها، ففيه تم إنقاذ 60 ألف دونم من براثن الصهاينة، تقع بين بلدات سخنين وعرابة وديرحنا، بدم الشهداء والجرحى الذي انتصر على دبابات وبنادق جيش الاحتلال.
في ذلك اليوم المجيد انتصر الدم الفلسطيني على السيف، وواصل الفلسطينيون حرث أرضهم وزراعتها كما هو شأنهم على مدى ألوف السنين.
ستة شهداء جعلوا من الـ30 من آذار يوما للأرض:خير ياسين، رجا أبو ريّة، خضر خلايلة، خديجة شواهنة، محسن طه، رأفت الزهيري.
لم يكن ذلك اليوم يوما نادرا، لكنه كان متميزا، فقد وضع الفلسطينيون في الجليل، وفلسطين المحتلة عام 48 حدا فاصلا بينه وبين ما قبله.
قال الفلسطينيون في (عرّابة) و(سخنين) و(دير حنا) كلمتهم بالدم يوم 30 آذار: لن يُهوّد الجليل، ولن نقتلع من جذورنا، لن تمّر خطة (الترانسفير)، ولن يكون صمت على جرائم الاحتلال، تحديدا مصادرة الأرض.
منذ بدأت الحركة الصهيونية وضعت مخططاتها للاستيلاء على أرض الفلسطينيين و..اقتلاعهم منها، ورميهم إلى المنافي ليندثروا بحيث لا يبقى هناك من يطالب بحقه.
علم أهلنا في فلسطين (الداخل) بوثيقة وضعها متصرف لواء الجليل الصهيوني، بهدف الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين واقتلاعهم وإبعادهم عن الجليل. والوثيقة نموذج يجسد أطماع الصهاينة، وعنصريتهم، ومخططاتهم المبيتة.
من بنود تلك الوثيقة يمكن أن نستشف طبيعة التفكير الصهيوني، والخطط المتوارثة لتهويد فلسطين بالكامل، وهو ما لن يتم إلاّ بالتخلص من الفلسطينيين بالترانسفير الذي يمكن لقيادة الكيان الصهيوني أن تنفذه بأساليب متعددة، بعضها خاف، وبعضها يمارس علنا بالضرائب الباهظة، والزج في السجون، والتضييق على العيش، والتجهيل، وهدم البيوت، ومصادرة الأرض.
جاء في وثيقة متصرف لواء الجليل التي عُرفت بوثيقة(كيننغ) ما يلي:
بند 5: التضييق الاقتصادي على العائلة العربيّة عبر ملاحقتها بالضرائب، وإعطاء الأولوية لليهود في العمل، وتخفيف نسبة العرب في التحصيل العلمي، وتشجيع التوجهات المهنية للتلاميذ...
انظروا العنصرية التي تبّز عنصرية النازيين والفاشيين، فهذا الصهيوني القح يريد للفلسطينيين أن يتعلموا المهن ليكونوا خدما لليهود، وشغالين في العمل الأسود الذي لا يليق باليهود..ناهيك عن إنه يريد (تخفيف) العرب في الجليل تمهيدا لتهويد الجليل تماما!
البند 6 في الخطة يقول: تسهيل هجرة الشباب والطلاّب العرب إلى خارج البلاد، ومنع عودتهم إليها.
الجماهير العربيّة وقد عرفت بمخطط مصادرة حوالى 60 ألف دونم من الأرض الوقعة بين دير حنا وسخنين وعرابة، شكلت لجنة الدفاع عن الأرض قادت الإضراب الذي نفذ لأوّل مرة بهذا الاتساع، وبروح الوحدة الوطنية، والتماسك وتوحيد الصفوف وتجاوز كل الخلافات والاجتهادات السياسية بين القوى السياسية.
الأرض وحدت الشعب، الأرض التي هي سر الصراع مع العدو الصهيوني وأطماعه، الأرض التي ضحى الشعب الفلسطيني من أجلها بالدم على مدى عشرات السنين، إبان الانتداب البريطاني، وفي حرب 48..حرب الدفاع عن فلسطين وعروبتها.
يوم الأرض 30 آذار عام 76 كان يوما مميزا، عنوانا لمعركة الصراع على الأرض بين أهل الأرض والغزاة، وهو يوم لم يأت معزولاً عن أيام الأرض بدأت قبل عقود.
في العام 1886 هاجم الفلاّحون الفلسطينيون من أهالي بلدتي(الخضيرة) و(ملبس) الغزاة الصهاينة الذين طمعوا في أرضهم، بعد أن افتضحت نواياهم في امتلاك الأرض، والتوسع.
بعد ذلك الاشتباك تنبهت الدولة العثمانية في عام 1887 لخطورة الأطماع اليهودية الاستيطانية في فلسطين، فعمدت إلى فرض قيود على هجرة المستوطنين الصهيونيين الذين كانوا يدخلون البلاد كسوّاح، بحيث لم يعد يسمح لهؤلاء (السوّاح) بالإقامة أكثر من ثلاثة أشهر في البلاد، وذلك بموجب جواز سفر أحمر عوضا عن جواز سفرهم الأصلي عند دخول البلاد.
يتوقف الدكتور عبد الوهاب الكيالي في كتابه (تاريخ فلسطين الحديث) عند بدايات الاشتباك مع الغزاة المتسللين الصهاينة الذين حاولوا بشتى السبل امتلاك أراض في فلسطين تكون محطة انطلاق للتوسع حتى بلوغ الهدف النهائي: امتلاك كل ارض فلسطين...
هذا الهدف الذي وضعه مؤسسو الحركة الصهيونية، وقادة الكيان الصهيوني، لم يتحقــــق حتى اليوم، وإن كان الصهاينة لم يتــــوقفوا عن بذل أقصـــــى جهودهم لتحقـــيقه بممارسة وسائل متعددة تتكامل لتحقيق الهدف، ولا سيما في القدس: مصادرة البيوت، مضاعفة الضرائب، الاعتقالات، الإبعاد، وكل هذا لكسر روح المقاومة عــــند الشعب الفلسطيني، بحيث يستسلم نهائيا ويتخلى عن أرضه.
الفلسطينيون وحدهم يتصدون لمخططات الصهيونية ببسالة وشجاعة، والفلاحون الفلسطينيون أبناء الأرض، الأكثر قربا منها والتصاقا بها، هم الذين وعوا أطماع الصهاينة مبكرا، ولذا لا غرابة أنهم كانوا وقود الثورات الفلسطينية، وهو ما لم يتوقعه مؤسسو الحركة الصهيونية، ولا من جاء بعدهم من الصهاينة...
بريطانيا المنتدبة على فلسطين عيّنت أوّل مندوب سام اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل، وهذا (الحاكم) عمل بضراوة على تدمير حياة الفلاحين الفلسطينيين حتى يدفعهم للتخلي عن أرضهم، فهو أرهقهم بالضرائب، وبالتدخل في أنواع المحاصيل التي يزرعونها، وورطهم في الاقتراض من البنوك بفوائد فاحشة لا يتنبهون لها عند الاقتراض، وهو ما كان يمكن تلك البنوك من وضع اليد على أراضيهم!.
كتبت الباحثة روز ماري صايغ في كتابها (الفلاحون الفلسطينيون: من الاقتلاع إلى الثورة): وليس مصادفة أن جذور النهضة الثقافية التي رافقت ثورة النضال المسلح تكمن في الطبقة الفلاّحية ...
الفلاّح روحه أرضه، وشعب فلسطين شعب فلاّح بالمجمل، وهو شعب أدرك مبكرا بحساسية شخصية ووطنية مخاطر المخططات الصهيونية، وخبر أساليب الصهاينة المتسربين الأوائل، فرّد بعنف ليردعهم، ودفع الثمن دون تردد..وهو ما ميّز الطبقة الفلاحية الفلسطينية وجعلها تطبع الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعها ..كما ترى الباحثة روز ماري صايغ.
بعد 35 عاما على يوم الأرض، وزمن ابتدأ مع نهاية القرن التاسع عشر وحتى يومنا في الصراع مع الأطماع الصهيونية، يمكن اختصار الصراع بكلمة واحدة: الأرض..وهذه الأرض هي أرض عربية.
في يوم الأرض، ونحن نستذكر دم شـــــهدائنا وجرحــــانا في بلدات الجليل: دير حنا وسخنين وعرابة، ونحن نعيش في زمن الثورات العربيّة.. فإننا نستبشر بمستقبل غير بعيد ..لن يبقى الفلسطيني فيه وحده وهو يخوض معركة تحرير الأرض..، لأن أرض فلسطين هي أرض العرب كلهم، وعلى ثراها سيتحدد مستقبلهم، وهذه الثورات لن تتوج بانتصارها التام المؤزّر إلاّ حين تتكلم أرض فلسطين بالعربي.
أرض فلسطين تألمت كثيرا، صرخت كثيرا.امتلأ فمها بالدم..وآن لها أن تستعيد أشجارها، وحقولها، أن تعود لمهنتها التي خلقت لها..لا أن تكون أرضا للدم والأشلاء والنواح...