بقلم : نقولا ناصر* ... 09.05.2011
**(إن المطالبة الشعبية العربية الواسعة بالحرية تستهدف الحقوق في الحريات العامة كمدخل إلى حقوق الانسان الأساسية في الخبز والعمل)
لقد كان الفتيل الذي أشعل موجة الاحتجاجات الشعبية العربية تونسيا. وقد كان الصاعق الذي فجر الانتفاضة الشعبية التونسية اقتصاديا، فطارق الطيب محمد البوعزيزي الذي اضرم النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في السابع عشر من كانون الثاني / يناير الماضي كان يحتج أولا على إغلاق باب رزقه الذي حاول كسبه عبر "نفق" تحت سطح المنظومة الشرعية للقوانين والأنظمة المرعية - يذكر بالأنفاق التي حفرها المحاصرون في قطاع غزة الفلسطيني خارج إطار القانون و"الشرعية الدولية" التي حاصرتهم - فالخبز كان مبتغاه من الانتفاضة الشعبية العربية التي فجرها "انتحاره".
إن انتشار هذه الانتفاضة اليوم في أحزمة الفقر المحيطة بالمدن السورية والتي تضخم عديدها بضحايا الجفاف والتأقلم مع "العولمة" الاقتصادية دون أن تطال النخبة الثرية وشرائح الطبقة الوسطى في المدن الرئيسية هي المؤشر الأحدث إلى حقيقة أن المطالبة الشعبية العربية الواسعة بالحرية تستهدف الحقوق في الحريات العامة كمدخل إلى حقوق الانسان الأساسية في الخبز والعمل. فالأمل في العدالة الاقتصادية هو المحرك ل"الربيع الشعبي العربي"، وإذا لم تتحقق هذه العدالة فإن هذا "الربيع" قد يتحول سريعا إلى خريف، وهذه هي الحقيقة المغيبة في "الربيع العربي".
واليوم يجد نظام العولمة الأميركية الدولي أن مصلحته تقتضي تغييب هذه الحقيقة والتكيف مع المارد الشعبي العربي الذي استيقظ من سباته، للتركيز فقط على تفكيك الدولة العربية البوليسية التي جثمت طويلا على صدر هذا المارد برعاية من نظام العولمة ذاته، بغض النظر عن نظام الحكم فيها، جمهوريا كان أم ملكيا، لذلك يركز هذا النظام انتقائيا على "الإصلاح" في هذه الدولة، وهو في انتقائيته قد تخلى مثلا حتى عن الاصلاح ذاته في البحرين، بينما يغمض عيونه تماما عن الإصلاح في العراق لأن الشرط المسبق لنجاح أي إصلاح فيه مرتبط ارتباطا وثيقا بإنهاء الاحتلال الأميركي وإرثه، ويتجنب قادة العولمة أي حديث عن أي "ثورة" تقوض الأسس الاقتصادية لهذه الدولة التي خلقت الشروط الموضوعية لتفجر الاحتجاجات الشعبية العربية المستمرة، لأن في تقويض هذه الأسس مساس بالأسس الرأسمالية لنظام العولمة الأميركية الدولي ذاته، ولذلك نراه الآن يكاد يقود ثورة مضادة في تونس ومصر كي لا يتحول الإصلاح السياسي فيهما إلى ثورة اقتصادية.
فعلى سبيل المثال، اعتبر البنك الدولي مصر في سنة 2007 الدولة "الإصلاحية" الأولى في العالم، بالرغم من انعدام المساواة الذي لم يعد يطاق بين شريحة متنفذة ثرية تعتمد في نفوذها وثرائها على الانتفاع من الدولة البوليسية وبحمايتها وبين الأغلبية الساحقة المسحوقة فقرا من الشعب نتيجة لسياسات الخوصصة والعولمة التي فرضتها توصيات البنك وصندوق النقد الدوليين على مصر وسط بيئة استشرى فيها فساد النخب السياسية والاقتصادية، لتتضخم صفوف الحركات المتطرفة بالأعداد المتزايدة من اليائسين من الوضع القائم، والتي اتخذت ذريعة لتعزيز قوة الدولة البوليسية، التي تعززت قوتها كذلك بدعم القوة الأميركية العظمى لها مكافأة لها على دورها في الحرب الأميركية العالمية "على الإرهاب".
إن دعوة المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى وقف الاضرابات العمالية في مصر بعد وقت قصير من توليه مقاليد الحكم الانتقالية لا بد وأن يكون قد اصاب الدعامة العمالية الأساسية لنجاح ثورة 25 يناير (كانون الثاني) بالاحباط ، خصوصا وأن ملاحقة الثورة للفساد والفاسدين في عهد النظام السابق ليست وعدا كافيا بأن تكون الحريات العامة مدخلا إلى التحرر من الفقر والبطالة وانعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية، فالعدالة الاجتماعية كما يبدو حتى الآن هي وعد مؤجل في مصر، هذا إن كان يوجد وعد بها على الاطلاق، وهذا بدوره هو وعد بثورة اجتماعية لاحقة.
لقد كانت الجذور الاقتصادية للانتفاضة الشعبية العربية تتفرع وتتمدد طوال سنوات كثيرة، لكن صندوق النقد الدولي الذي يعود إليه الفضل الأول في زرع أشتال هذه الجذور يبدو مؤخرا وكأنما تنبه بعد فوات الأوان للنتائج العكسية لتوصياته وسياسياته. ففي تقريره الاقتصادي الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اي الوطن العربي الكبير، الذي نشر في السابع والعشرين من الشهر الماضي قال إن "الغليان السياسي في المنطقة يبين بأن السياسات التي تستهدف النمو الاقتصادي في المنطقة في بلدان مثل تونس ومصر قد فشلت في تلبية احتياجات سكانها لأن "الأحداث التي تتكشف الآن تجعل من الواضح أن الإصلاحات .. لا يمكن أن تكون مستدامة ما لم تخلق وظائف لقوة العمل المتنامية بسرعة، وتكون مصحوبة بسياسات اجتماعية للأكثر ضعفا".
وقد صدر هذا التقرير غداة نداء مشترك من البنك والصندوق الدوليين من أجل تقديم دعم عاجل لاقتصاديات المنطقة، ليس حبا بها وبأهلها بل لأن "الاضطرابات السياسية" فيها يمكنها أن "تخرج النقاهة الاقتصادية العالمية (الأميركية والأوروبية بصفة رئيسية طبعا) عن مسارها". لقد كشف الربيع الشعبي العربي ليس فشل وصفات المؤسستين فقط بل وكشف فشلهما في التنبؤ بالنتائج العكسية لسياساتهما التي تهدد الآن بتغيير الوضع الراهن الذي ساد طوال سنين بدعم صريح وضمني منهما، وهو الوضع الذي يحاول الأميركيون والأوروبيون المتحكمون في المؤسستين اليوم إنقاذه بالدعوة إلى الإصلاح السياسي دون الاقتصادي، متجاهلين حقيقة أن النخب السياسية الحاكمة التي سقطت أو هي مهددة بالسقوط حاليا قد يجرفها الغضب الشعبي العربي، لكن النخب الاقتصادية التي أفرزتها سياسات وتوصيات المؤسستين كفيلة باستنساخ نخب سياسية مماثلة جديدة إذا لم يجرفها المد الشعبي بدورها، وإلا فإن الإصلاح السياسي دون ثورة اقتصادية سوف ينتهي إلى انتصار لثورة اقتصادية مضادة في نهاية المطاف سرعان ما تفرز نخبا سياسية مستنسخة من النخب السياسية التي أسقطت، تحظى طبعا بدعم البنك وصندوق النقد الدوليين لكلا النوعين من النخب.
إن صندوق النقد الدولي يتوقع تراجعا للنمو الاقتصادي (إلى 1% لمصر و 1.3% في تونس) وارتفاعا قي أسعار السلع خلال العام الحالي في الأقطار العربية التي تجتاحها الاحتجاجات الشعبية، مما يعني في المدى القصير مزيدا من الاحباط الاقتصادي الذي كان دافعا رئيسيا للملايين إلى الشوارع. لكن الاقتصار على الاصلاح السياسي دون الاقتصادي ينذر بإحباط أخطر في المدى الأطول في الدول العربية مجتمعة بسكانها الثلاثمائة والخمسين مليون نسمة الذين يحتاجون إلى ثمانين مليون وظيفة خلال الخمسة عشر عاما المقبلة وبخاصة بين الثلثين منهم ممن هم دون سن الخامسة والعشرين من العمر الذين يزيد معدل البطالة بينهم على معدل البطالة العام في الوطن العربي الذي يبلغ ضعف المعدل العالمي.
وإذا كان المعدل الرسمي للبطالة بين الشباب في دولة عربية نفطية رئيسية مثل العربية السعودية يبلغ (26%) فإنه يمكن تصور مدى استفحال مشكلة البطالة بين الشباب في الدول العربية غير النفطية، حيث توصل التقديرات غير الرسمية هذا المعدل إلى سبعين في المئة في أقطار المغرب العربي. وقد علق أحدهم على حقيقة ان القطاع النفطي الذي يمثل أكثر من ستين في المئة من إجمالي الناتج المحلي في ليبيا، على سبيل المثال، ويشغل ثلاثة في المئة فقط من السكان بالتساؤل عما يعمله بقية الليبيين.
إن حقيقة مثل كون الدول العربية الاثنتين والعشرين مجتمعة يقل إنتاجها الاقتصادي عما تنتجه إيطاليا بملايينها الستين الذين يزيدون قليلا على سبع مجموع العرب جديرة بأن تبقي الملايين العربية في الشوارع دون أن تغادرها قبل أن تتأكد بأن الحرية التي تطالب بها اليوم هي حقا مدخل إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية وليست قطار حرية سوف يتوقف في منتصف الطريق عند محطة إصلاح سياسي لن يكون مستداما بالتأكيد دون رديف اقتصادي يدعمه.
إن الرشاوى الاقتصادية ليست بديلا للاصلاح الاقتصادي، فالعشر مليارات دولار أميركي خليجية، مثلا، التي تعهدت بها دول الخليج العربية للبحرين وسلطنة عمان قد تساهم في تأجيل الانفجار الاقتصادي فيهما، لكن إلى حين فقط، ومثلها العشرين قرارا التي اصدرها خادم الحرمين الشريفين مؤخرا لاحتواء مضاعفات الربيع الشعبي العربي على المملكة العربية السعودية، والتي قدر الحجم المالي لها بمبلغ (350) مليار ريال سعودي. فالمملكة التي تحتاج إلى خلق أربعة ملايين ومائتي ألف وظيفة جديدة للسعوديين حتى عام 1015 لم تقدم "حلولا جذرية لعلاج مشكلة البطالة" ولا عالجت "مختلف جوانب الإشكاليات المعيقة لإصلاح سوق العمل" ومنها "عدم توفر الأجواء المناسبة لتنفيذ القرارات واللوائح المنظمة لهذه السوق من ناحية والشيخوخة التي أصابت هذه القوانين من ناحية أخرى" كما كتب تركي فيصل رشيد آل رشيد مؤسس ومدير موقع انتخاب كوم الالكتروني السعودي.
إن المسكنات مثل زيادة الرواتب وصرف رواتب للعاطلين عن العمل وتعليق إلغاء الدعم للسلع الأساسية، إلخ، قد تخفف الاحساس بالألم الاقتصادي لكنها لا تقضي عليه ولا على المرض المسبب له. إن القرار الملكي السعودي بتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والمحاكمات الموسمية لبعض رموز الفساد في بعض الدول العربية بين وقت وآخر هي سحابة دخان شفافة لا يمكنها أن تغطي على حقيقة السياسات الاقتصادية المولدة بطبيعتها للفساد كجزء لا يتجزأ منها، تماما مثلما هي البطالة جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الذي بنيت هذه السياسات على أساسه.
في ورقة ساهمت بها في ندوة بعنوان "الثورة العربية الجديدة: ماذا حدث بالضبط؟ ولماذا لم ير أحد أنها آتية؟ وماذا تعني؟ وماذا يعقبها؟" نشرت أوراقها مجلة "فورين أفيرز" في عددها لشهري أيار / مايو – حزيران / يونيو 2011 شرحت دينا شحاتة من مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كيف أنتج "التحالف غير المقدس" بين نخب رجال الأعمال وبين النخب السياسية/العسكرية ما يسمونه في أوروبا "الفاشية"، وهو التحالف ذاته الذي أنتج انظمة الاستبداد العربية في الحكم ونقيضها العنيف المتطرف ضد الحكم.
وإذا لم يقترن تفكيك الدولة العربية القطرية البوليسية بتفكيك هذا الحلف "غير المقدس" بين تلك النخب فإن "الربيع العربي" سيكون على موعد قريب مع خريف ثورة مضادة تعده فقط بالمزيد من الاستبداد في الحكم والتطرف ضده.
وما زالت دولة التجزئة العربية هي الحاضنة الموضوعية للاستبداد والتطرف والاستقواء بالأجنبي من أجل البقاء، وما زالت وحدة الأمة، عربيا وإسلاميا، هي الحاضنة الموضوعية والطبيعية للحرية السياسية والاقتصادية والفردية والقادرة بقوتها الذاتية على الاستغناء عن الأجنبي. في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة"، كتب الضابط في الاستخبارات العسكرية البريطانية و"المستشرق" توماس إدوارد لورنس، المعروف ب"لورنس العرب"، في مذكرة سرية مؤرخة في كانون الثاني/ يناير 1916 يقول إن الثورة العربية التي دعمتها بريطانيا ضد الخلافة العثمانية ستكون "مفيدة لنا، لأنها تتطابق مع أهدافنا المباشرة، لتفكيك الكتلة الاسلامية، وهزيمة الامبراطورية العثمانية وتمزيقها، ولأن الدول التي ستنشأ خلفا للأتراك لن تكون ضارة بنا. لا بل إن العرب أقل استقرارا من الأتراك، وإذا تمت إدارتهم بطريقة صحيحة، فإنهم سوف يظلون فسيفساء سياسية، .. عاجزين عن التماسك السياسي". ويبدو أن صناع القرار العرب اليوم حريصين على إثبات صحة نبوءة لورنس.