أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
يفيض بردى دماً... وتصمت العواصم!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 09.08.2011

"أسألكم.. من يرضى أن يسقط طوعاً؟ من يقدر أن يمنع أُمّاً، معدمة، جوعى، أن تحمل سيفاً؟ وإذا لزم الأمر، أن تسرق حليب الطفل الجائع؟ طوبى لأبي ذر... كنا نعبر في الطرقات معاً، أحزنني وجه دمشق، بردى كان بلا صوت..." (محمد القيسي، ديوان "خماسية الموت والحياة"). برَدَى اليوم تزنر بالدم وما عاد بلا صوت، صار ينشد بكل الأصوات، وصار، بخلاف كل الأنهار، يجري إلى الأعلى. بردى أصبح بركاناً يهدر، يطير في سماء مدن الشام طولًا وعرضاً، يتحول غيماً يحضن ناس الكرامة. يحضن أحفاد أبي ذر ويبعث فيهم عزم المستحيلات، فينطلقون دفاعاً عن كرامة آلاف السنين التي توردت مجداً وحضارة في هذه البقعة من العالم.
يفيض بردى دماً ساخناً ووجوهاً وأسماء ترصع وجه الشمس. بوابات الحرية في الشام تدق بكل يد مضرجة بالشوق للانعتاق. ثورة مدن الشام في وجه نيرون دمشق تنتمي إلى محيط المعجزات. نظام القمع الأمني الذي ولغ في دم الناس لعقود طويلة كان قد سمم الماء والهواء وزرع الشك في صدور الناس تجاه بعضهم بعضاً وتجاه قدرتهم على قول لا. يجدل السوريون غدهم المتحرر من الطغيان بعروق أيديهم العارية، وكل يوم يمر ينتزعون فيه قمراً جديداً يزينون به شرفة المستقبل. هي الحرية أغلى غوالي هذه الحياة تصبح اليوم عروسهم المُشتهاة. في صناعة حياة الكرامة والصراع ضد نظام مُستعد لإراقة دم كل السوريين، ما عاد أبناء سوريا على استعداد للعودة إلى أيام الاستبداد والخنوع.
في المشهد الأوسع لصناعة غد سوري حر ومشرق هناك أربع بقع سوداء مريرة. الأولى والأوسع خاصة بالصمت العربي المخزي الرسمي، وحتى الشعبي، الذي يراقب مجازر النظام وقصفه المدنيين بالمدافع والدبابات. نعرف أن بعض الأنظمة العربية تتحسس رؤوسها هذه الأيام وتفتقد الشرعية التي تخولها الوقوف إلى جانب الشعب ضد جرائم النظام. ونعرف أن تحالفات بعض الأنظمة العربية قائمة على الحفاظ على الأمن المُتبادل للأنظمة وليس الشعوب، وأن آليات الدفاع عن بقاء نظام هنا تتواءم مع ذات الآليات للدفاع عن نظام آخر هناك. ولكن هناك حدوداً لكل شيء، حدوداً منطقية وأيضاً براغماتية من دون أن نقول أخلاقية. نظام الأسد لن يدوم حتى لو طال أمد الثورة السورية. إذ بعد كل الدم الذي أريق لن يسكت الشعب السوري على النظام الأمني الذي استباح سوريا كأنها إقطاعية ومثّل بمواطنيها وقطع أطرافهم وألقاهم في الأنهر. فعلى ماذا تُراهن الأنظمة العربية التي تراقب بتردد صاعق؟ حتى لو كانت من نفس طينة النظام السوري أليس من مصلحتها البراغماتية الصرفة الاصطفاف إلى جانب الشعب الذي سيكنس الوضع القائم وجرائمه؟ ما نراه الآن هو تخلي الدول العربية تماماً عن ما يحدث في سوريا وانتظار المجهول.
ومن ضمن هذا المجهول الموقف الدولي والغربي، وهذا الأخير هو البقعة السوداء الثانية. يُراقب العالم ودوله الكبرى على شاشات التلفزيون كيف تقتحم الدبابات السورية الأحياء المدنية وتقصفها. ما عاد بإمكان العربية على غناها وثرائها وصف الجريمة اليومية، ومع ذلك يتلكأ "المجتمع الدولي" تاركاً يد النظام مُطلقة في الولوغ أكثر في دم من يُفترض أن يكون الشعب الذي يُدافع عنه. وأسوأ ما في الصورة "الدولية" هو اصطفاف روسيا والصين إلى جانب النظام والوقوف في وجه أي إجراء خجول حتى ولو من قبيل قرار إدانة لفظي للمجازر التي تحدث كل يوم.
والبقعة السوداء الثالثة تتمثل في شريحة المثقفين الذين يلوكون كلاماً وأعذاراً تدعي الحداثة، يتمنطقون السماجة الثقافية في ادعاء اتخاذ موقف وسط بين النظام وثورة "المجتمع المتخلف". يقول هؤلاء، وسيدهم أدونيس، إن سقوط النظام يعني اعتلاء قيم المجتمع المحافظة وسيطرة القوى الدينية على الدولة. إذن، لنبق الأمور على ما هي عليه، وليرتح الأدونيسيون ومن والاهم على أرائك النظام الدموي. ليس هناك حل وسط بين الاستبداد والثورة للحرية. وإذا ما خلف الاستبداد البعثي استبداد ديني فذلك يجب أن يعني أن الثورة مستمرة حتى يتم تفكيك كل أنواع الاستبداد. نعم هناك مغامرة كبيرة في كل الثورات العربية جوهرها التخوف من سيطرة التعصب الديني على الفضاء العام، ولكن ليس هناك بد من خوض المغامرة. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تتعلم فيها المجتمعات والشعوب من تجاربها وتواصل التسديد والمقاربة حتى تصل إلى معادلاتها الاجتماعية والسياسية المتوازنة.
والبقعة السوداء الرابعة تتمثل في شريحة أنصار النظام الذين لا زالوا منخدعين أو متخادعين بشعارات الممانعة والمقاومة ومواجهة إسرائيل. ففي أكثر من بلد عربي ما تزال هناك أصوات تسوق أفكار الخردة المقاوماتية التي اعتاش عليها النظام عقوداً وسوغ بها طحن الشعب وإذلاله. ويتعامى هؤلاء جميعاً عن المشهد المأساوي والمريع للدبابات السورية التي تعلن بطولتها وشراستها في مواجهة ناس حماة ودرعا ودير الزور وبقية الحواضر السورية، ولم تعرف وجهة الجولان طوال العقود الماضية. كأن الحقائق تلك لم تكن كافية على الأرض ليراها هؤلاء، فجاءهم من هو في قلب بطانة النظام ليقول لهم إن استقرار نظامنا يعني استقرار وأمن إسرائيل. ومع ذلك كله ما زالوا يرددون الأسطوانة ذاتها. يتعامون عن الدرس البدهي الذي صارت مُمضة إعادة التذكير به وهو أن الاستبداد لا يمكن أن يحرز أي انتصار، وأن جيشاً من المُستعبدين لا يحرر أرضاً.
لكن البهي في الصورة الإجمالية، الذي يعادل تلك البقع السوداء ويكشف تفاهاتها، هو التصاعد المدهش للثورة الشعبية واستمرارها المُعتمد على الذات أولًا وثانيّاً وعاشراً. كل يوم تنتشر وتتسع وتقوى ثورة شعب سوريا. وفي ظلال تعملقها الكبير يتقزم كثيرون: دول، وأنظمة، ومثقفون، ومنافقون، ومنتفعون.