بقلم : سهيل كيوان ... 01.12.2011
كرهناه بسبب 'ثقل دمه' فقد أشاع أجواء من الخوف بين فتية وأطفال القرية، وكان علينا أن نتوقع مشكلة كلما قابلناه بمرافقة كلبه في الطريق أو أمام بيته، فقد كانت هوايته ترهيب الناس بشكل سادي.
يبدأ المرور من أمام بيته برصد الطريق من بعيد، وينتهي بالركض والابتعاد قدر الإمكان عن منطقة نفوذ الكلب، التي اتسعت يوما بعد يوم، في أحيان كثيرة تنتهي المغامرة بالصراخ والرعب بينما الكلب يطارد الضحية ويهددها، المشكلة أن بيته يقع على تقاطع طرق في مركز القرية، ولا بد من المرور هناك مرة واحدة على الأقل في اليوم، أو أنك ستضطر للبحث عن طرق التفافية بعيدة، هكذا جعل من مرور الطريق العام مخاطرة ومغامرة يومية، قد تنتهي بمشهد مرعب، وحدث غير مرة أن وصل الكلب إلى ضحايا فمزق ملابس رجل مسكين وأدماه ونهش طفلا مرة أخرى وسقطت امرأة أرضا وهي مفزوعة، ورغم كثرة التذمر والشكاوى لم يعر والده الأمر اهتماما، بل كان يدافع عنه من دون أن يجرؤ أحد على تحديه، فقد انتمى لعائلة كبيرة، ولكن ليس هنا بيت القصيد، فقد كان مسلحا بترخيص و'جزء من جهاز' مخيف، كان أفراد هذا الجهاز يأتون إليه لتعلم عادات ولغة العرب لاستعمالات غير بريئة.
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما ركضت مذعورا في الطريق باتجاه البيت صارخا مستغيثا، في اللحظة الأخيرة أنقذني شقيقي الأكبر وقد رأى بعينيه الكلب من نوع (ذئب) يطاردني ويكاد ينهش مؤخرتي ووراءه صاحب (أثقل دم في العالم) مستمتعا بساديته، حضنني وأدخلني البيت مهدئا من روعي، وشتم وهدد وتوعد.
في المساء وعند مدخل ما سميناه وقتها 'سينما المجد' وهي عبارة عن غرفتي سكن فتحتا على بعضهما، وألواح خشبية فوق صناديق المشروبات الفارغة للجلوس، وقد عُلقت في ذلك النهار (أفيشات) لفيلم 'أبي فوق الشجرة' الذي انتظرناه بفارغ الصبر، بعدما بلغنا أن فيه مشاهد ساخنة جدا وقبلات قد تصل إلى خمس وستين قبلة، وفي رواية أخرى أنها واحدة وسبعون بين عبد الحليم ونادية لطفي، وكانت أم كلثوم تستنجد 'أروح لمين' فتسخن المشاعر وتفور، في هذه الأجواء الرومانسية وصل صاحب أثقل دم في العالم، ولم يكن معه رفيقه الكلب، فكانت هذه فرصة شقيقي الذهبية، استقبله بلكمة على وجهه وبثانية وثالثة وصار يدور حوله كالفراشة ويلسعه كالنحلة تقليدا لمحمد علي كلاي في تلك الأيام، فقام هذا بعضّ ساعد شقيقي وراح ينهش تقليدا لكلبه، ثم اشتبكا وسقطا على الحلبة الموحلة بفائض مياه العين القريبة، وقد ظهر جليا تفوق شقيقي عليه بالنقاط وليس بالضربة القاضية، كان معروفا ليس فقط بثقل دمه، بل وبجبنه لولا احتماؤه الدائم بكلبه ووالده 'المدعوم'ابن الحكومة، والتمّ حولهما العشرات وسط تشجيع وتحيّز واضح لشقيقي، فقد كان للكثيرين ثأر معه ومع كلبه، ولكن لم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد توعّد هذا بالانتقام ولاحت في الأفق مواجهة كبيرة قادمة لا محالة، ولكن هذا سيأتي بعدما ننتهي من الاستمتاع بفيلم 'أبي فوق الشجرة'.
بعدما 'جانا الهوا جانا..ورمانا الهوى رمانا' كان بانتظار شقيقي عدد من أقرباء (ثقيل الدم) خارج قاعة السينما فانسحب شقيقي وأنا معه من مخرج خلفي بناء على نصيحة الأصدقاء وصاحب القاعة ورحنا نستعد للمعركة الوشيكة.
انتشر الخبر وتلقف معظم الناس نبأ 'قتلة' صاحب أثقل دم في العالم بإعجاب وتقدير لشقيقي وللأسرة، ولم يتوان بعضهم عن القول 'يسلموا هالإيدين' ولكن بحذر كبير وتنبيه من الغدر، فالمواجهة لم تنته بعد وستكون ضارية بلا شك، فقد استدعى الأب أقرباءه وأعلمهم بأن هيبته وكرامته من كرامة وهيبة العائلة، وعليهم مساندته هو وابنه والكلب، ونجح بتجييش عدد من شبان عائلته وأنسبائه رغم عدم رضى معظمهم عن تصرفات ابنه والكلب، وبالمقابل التف حول أسرتنا عدد من أصدقاء 'الزمن الجميل' وبعض الأقرباء وإن كان بعضهم قد عبّر عن تذمره معتبرا أن شقيقي ورّطنا في مواجهة غير متكافئة مع رجل السلطة وعائلته الأكبر!
في اليوم التالي وقبيل الغروب اشتعلت المعركة حسب التخطيط 'نظرة فبحرة فطوشة'.. وما هي سوى لحظات حتى بدأ التراشق بالحجارة، وصار بعض الشبان المتحاربين من أنصار الطرفين يحاولون التقدم إلى الطرف الآخر ليصيبوا أهدافهم بدقة أكثر، وتحطم زجاج نوافذ وأغلقت الأبواب ووقعت إصابات، وسحبت العصي الغليظة المعدّة لمثل هذا اليوم، واستمر الكر والفر حتى منتصف الليل، وفي لحظة ما سُمعت طلقات نارية تنذر بأمر أخطر بكثير من طوشاتنا التقليدية، وهذا ليس مألوفا في قريتنا، أهل بلدنا لم يستخدموا الرصاص في مواجهة بعضهم البعض أبدا، وهناك قواعد للقتال ورثناها أبا عن جد، فمن يُصب يفسح المجال لسحبه من ساحة المعركة وعلاجه، وممنوع منعا باتا مواصلة ضرب من يسقط أرضا، أو من يلجأ محتميا إلى بيت، أو من يرفع يديه مستسلما، وأكثر من هذا فالشر في قريتنا لا يطلع عليه النهار، أي أن مبادرات الصلح تبدأ قبل شروق اليوم التالي، ولكن هذه المرة كان الحقد كبيرا على ما يبدو، وقد شعر العميل بتحطم هيبته المستمدة من هيبة الكلب والسّلطة، فقرر التصعيد باستعمال السلاح الناري..
تدارك الأمر بعض الرجال، فأبلغوا أهالي قرية (نحف) المجاورة، وهناك نادى المنادي... يا أهل النخوة هبّوا لوقف الطوشة في مجد الكروم، وبعد ساعة وصلت قوات 'النحافنة' منقولة في شاحنتين ضخمتين، هبط عشرات الرجال الأشداء وبأيديهم العصي الغليظة يتقدمهم الشيوخ، وفورا بدأوا بمهمتهم المعتادة التي نعرفها في مثل هذه المناسبات بالفصل بين المتحاربين.. ياعيب الشوم عليكم، شو اللي صار وأحوج إلى هذا.. كل عمركم إخوان.. انزلوا عن السطوح، استحوا على دمكم، أنتم أهل وأنسباء، وكان متعارفا عليه أنه من حق 'المصاليح' من أهل (نحف) استخدام الضرب غير المبرح لفرض وقف القتال.. وهذه الخدمة كانت متبادلة، أي في حالة وقوع طوشة في نحف يهرع 'المجادلة' لفضها بنفس الطريقة...
وكان جماعتنا وبعض مناصريهم يرددون في وجوه أهل الخير- هذا كله من تحت راس الكلب....إما نحن في هذه البلدة وإما الكلب...
فيرد النحافنة مستغربين- شووو....عشا وشفنا...كل هذا بسبب كلب... تقتلون بعضكم البعض بسبب كلب..ولك شو صاير لكم...أنتم أخوة وأهل وأنسباء...إلى جهنم كل الكلاب...
هدأت الخواطر وبدأت الجولات المكوكية من المفاوضات بين الطرفين، ومع أذان الفجر تم إعلان الهدنة، فقد كان أقرباء العميل مستائين هم أيضا من قريبهم الذي سوّد وجوههم مع الناس، لكن كان هناك من يحرّك العميل ويوقظ الفتنة، وكلما اقترب الطرفان من الاتفاق، ادعى أن ابنه يحتاج إلى علاج خاص، وأنه بعدما ضُرب صار يصاب بالغثيان ويغمى عليه إذا ما تعرض لأشعة الشمس، وأعد تقارير طبية مهولة مطالبا بتعــــويض مـــالي كبـــير، وصار يختلق الحجج لعرقلة مساعي الصلح، بيـــنما كان شرط فريقنا للصلح هو عدم تعرض الكلب أو صاحبه لدى مرور أي شخص منا ولا حتى بالنباح، ولا تعويض لأي طرف من الطرفــــين، فكل طرف يتحـــــمل خسائره بنفسه، بعد أسابيع قليلة عاد الكلب وصاحبه إلى تحدي المارة، ولكن يبدو أن أمرا ما قد وقع، فقد كُسر حاجــز الخوف من الكلب وأصحابه، فقام أحدهم بضربه بعصا من السنديان فأخرسه، تماما مثلما كسرت أمتنا حواجز الخوف في هذه الأيام المباركة من الشبيحة والبلطجية والكلاب ومرسليهم على مختلف ألوانهم وأشكالهم وإلى الأبد....