بقلم : رشاد أبوشاور ... 16.11.2011
في زيارتي الأولى لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبعد الهبوط بطائرة الأليمدا في مطار عدن الدولي، إثر رحلة متعبة من دمشق إلى عدن عبر الكويت ..استمرت ساعات، خفف علينا تعبها ودنا المقيم لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي دللها اليسار العربي بوصفه لها بأنها (كوبا العرب)، وبعد الاستقبال الحميم من رفاقنا في الحزب الاشتراكي، وهم دائما استقبلوا ضيوفهم بكرم وسخاء لا ينسيان..لفت انتباهي بعد مغادرة المطار كثافة الغربان في السماء وعلى الأرض.
ازدادت دهشتي من انتشار الغربان بعد الخروج من الفندق مع مرافقنا اليمني.. فهي تفاجئك حيثما أجلت البصر، في السماء، وعلى الأرض، وعاليا تحلق فوق رؤوس الجبال السوداء البركانية، بحواف صخورها الحادة اللامعة الزجاجية المشرئبة التي تبعث الرهبة.
رأيت الغربان تكرج على الأرض مختالة متبخترة واثقة متحدية، فانحنيت والتقطت حجرا، وإذ رأى الرفيق اليمني أنني أهم بقذفها بالحجر..حذّرني بجدية:
ـ لا تفعل..فإنك ان قتلت واحدا منها فستهاجمك بعنف، ولن تتركك سالما.
ترددت، وأرخيت الحجر من بين أصـــــابعي..فأهل اليمـــــن أدرى بغربانهم، واستــــفسرت منه عن ســـر عدم خوفها، فأوضح لي الأمر:
ـ الغربان أحضرها ضابط بريطاني من الهند، بناءً على نصيحة بأنها تقتل العقارب التي كانت تنتشر كثيرا في البلاد..فتكاثرت، ثمّ بنت أعشاشها في قمم الجبال حيث يصعب وصول الناس لها ..وهناك وضعت بيوضها باطمئنان، ومنذ ذاك الوقت تحولت إلى مشكلة مستعصية على الحل..ولعلها لالتهامها العقارب باتت لا تخاف أحدا!
سألته:
ـ وماذا عن العقارب..هل قضت عليها الغربان؟!
صمت وارتسمت على محياه ابتسامة ساخرة، ولم يحر جوابا، وانشغل بتحديد نظره في الثقوب الكثيرة على طرفي الشارع.
ما أن مشينا قليلاً حتى أوقفني وقد أمسك بيدي، لافتا انتباهي إلى عقرب أسود يخرج من أحد تلك الثقوب وهو يندفع عاقصا ذيله، وكل ما فيه يشي بأنه كتلة سم متوعدة.
ـ جاءنا الإنكليز بالغربان ليخلصونا من العقارب..ومن بعد اقتلعناهم من بلادنا بثورة ضحى فيها الشعب وانتصر..وها قد بقيت العقارب وزيادة عليها الغربان بنعيبها المزعج الذي لا يكف عن إقلاق راحتنا ليلاً ونهارا.. هذا بعض ما تركه الإنكليز..يا رفيق!
لا تحتاج هذه الحكاية إلى تفسير، وتأويل، وترميز..فهي شديدة الواقعية والوضوح..ومع ذلك فلكل واحد أن يفسرها كما يشاء، فالغربان تملأ سماء اليمن، والعقارب لم تندثر..والنعيب والسم يتهددان حياة اليمنيين..حتى يهتدوا لعلاج شاف تماما، يريحهم من سم العقارب ونعيب البوم.
اسمحوا لي هنا أنتقل إلى حكمة شاعرنا المتنبي، وحكمته لا تفقد بلاغتها مع الزمن، فهي خالدة لأننا نحتاجها في كل جيل، وكل زمان..مهما توالت الأجيال، وتبدلت الأزمان، فالحكمة تبقى حكمة لأنها اختبرت، وقيمتها تزداد بالتجربة.
ولأنني كملايين العرب، أنام وأستيقظ وأنا أقلّب الأسئلة حول ما يجري في وطننا العربي..وهو ما يقلق صحوي ومنامي، فقد استيقظت قبل أيام وأنا أردد (عجز) بيت شعر للمتنبي:
تصيده الضرغام فيما تصيدا
وإذ جرعت جرعة ماء لأهدئ نفسي، والتقط أنفاسي..مسحت كاملاً: جبيني الملتهب، فعدت وأخذت أردد البيت كاملاً:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا
اعتاد العرب أن يصطادوا بالصقور بعد تدريبها، وهكذا تصير في خدمتهم، تقنص لهم..تعود بالطريدة فيطعمونها بعضا من لحمها، يعني هي تعمل بأجرتها..ولكن: ماذا عن الضرغام ـ وهذا واحد من أسماء الأسد في لغتنا العربية ـ الذي يتوهم قصار النظر أن بمقدورهم تسخيره للصيد لهم؟!
هل يصطاد الضرغام بالأجرة؟! والضرغام هنا ليست بريطانيا الأسد العجوز الهرم الذي ما زال مذاق اللحم العربي بين أنيابه..ولكنها أمريكا التي تسيل الديمقراطية لحما ودما من بين أشداقها، والتي لا تعمل في خدمة أحد، ولا تقبل أن يقاسمها أي طرف في طرائدها..لأنها كلها لها بلحمها وشحمها وعظامها ودمها وجلدها، وإن تنازلت فبالفضلات للتابعين لها: بريطانيا..وفرنسا..أمّا الفتات وبقايا الأشلاء فللأجراء الذين لا يستحقون أكثر من ذلك!
الضرغام يصطاد لمصلحته، لأنه ليس ضعيفا، ولكنه يستخدم الضعفاء وقصار النظر وعديمي الضمير والمنتفعين الذين يظنون أنفسهم شركاء في موسم الصيد، وقد يشطح بهم الوهم فيظنون أنهم يستخدمون الضرغام لفترة محدودة، وتفضلاً منه لحسن أخلاقه، ولولعه بعمل الخير لوجه الله والإنسانية!.
هل ابتعدنا عن ثورات شعوبنا العربية بهذا الكلام القريب من حكمة (كليلة ودمنة)، والمتكئ على حكمة جدنا المتنبي العظيم،التي قالها شعرا في سيف الدولة الحمداني الذي قضى عمره منافحا عن بلاد العرب، محاربا التهديد الروماني القادم من الدولة البيزنطية الرومانية الشرقية؟!
نحن في صلب المعمعة نهجس بمستقبل ثوراتنا التي هي ثورة واحدة لأمة واحدة هدفها الجوهري الخلاص من العقارب والغربان، وعدم الوقوع بين براثن أمريكا التي تخطط وتعمل حتى تفرغ ثوراتنا من مضامينها، وتحبط شعوبنا، وتدمر مستقبلنا، وتنهي موسم الصيد لها، ولحليفتها وربيبتها الكيان الصهيوني.
من لا يجيد الصيد اعتمادا على قوسه وسيفه وزنده..من يختصر الطريق.. من يولول ويصرخ طالبا النجدة من أمريكا، ومن يطلب التدخل الخارجي.. من يريد لغربان الغرب أن تحتل سماء دمشق: كاذب أشر.. انتهازي .. مُضلل.. همه سرقة دماء الشعب السوري المطالب بالحرية، والذي لن يرضى بتدمير بلده، وتفجير الأحقاد بين تكويناته الاجتماعية، وتحويل سورية إلى عراق آخر!
وللسوريين نقول: يريدون للثورة المضادة أن تنطلق من بلدكم، وعلى دمكم ولحمكم وأرضكم..يريدونكم جسرا، ومطية..فلا حب لكم في قلوبهم، ولا شفقة في ضمائرهم على دمشق وحلب وحمص وحماة..ففاقد الشيء لا يعطيه، فهم لا صلة لهم بالديمقراطية، وهم ينطبق عليهم ما جاء في القرآن الكريم: والأعراب أشد كفرا ونفاقا..وهؤلاء هم الأعراب الأشد كفرا ونفاقا!
أمّا نظام الحكم في دمشق فقد نصحناه مبكرا أن يقدم للشعب السوري العظيم كل ما يستحق، وأن يلبي مطالبه التي تبني سورية الحديثة..وأن لا يضيع الوقت، وأن يكف عن الحل الأمني الذي يدمر ولا ينقذ..فالشعب السوري حرا وسيدا هو القادر على حماية وطنه سورية، وإفشال المؤامرة التي تشتد حلقاتها هذه الأيام..وهذا ما نؤكده من جديد..وقبل فوات الأوان!