بقلم : نقولا ناصر* ... 23.03.2009
(إن التوصٌل إلى وفاق سوداني ، ولو نظريا ومن حيث المبدأ في البداية ، حول حل وطني لقضية دارفور يمثل بداية النهاية الوحيدة للتدخل الأجنبي)
إن التضامن العربي والإسلامي مع شعب السودان وحكومته دفاعا عن سيادتهم ، وإدانة للتدخل في شأنهم الداخلي ، واستنكارا للاغتيال السياسي لشخصية رأس دولتهم كرمز لكرامتهم الوطنية ، واستهجانا للتحريض الأجنبي المغرض لهم عليه ، ورفضا للتكييف القانوني الانتقائي المعوجٌ لعدالة القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة ، إن هذا التضامن إذا لم يقترن بحثهم على التوافق على حل وطني لأزمة بدأت وطنية في دارفور ، وتظل ، ولمظالم مشروعة قادت إلى تمرد على السلطة المركزية لم يعد مشروعا بعد أن تحول إلى حصان طروادة للتدخل الخارجي ، للتوافق على حلول وطنية للمضاعفات الإنسانية التي تمخضت عن التمرد وعلى عدالة وطنية لانتهاكات حقوق الإنسان التي رافقته ، فإن هذا التضامن إذا لم يقترن بذلك سيتحوٌل بحكم الأمر الواقع إلى دفاع مرفوض وطنيا وعربيا وإسلاميا وإنسانيا عن تلك المظالم والانتهاكات.
حقيقتان غائبتان في خضم الصراع الدولي المحتدم حاليا حول دارفور ، الأولى أن تدويل قضية دارفور هو دليل دامغ على الفشل في حلها وطنيا ، والثانية أن استمرار الفشل السوداني في حلها سوف يظل الثغرة الوطنية الأكبر المفتوحة أمام التدخل الأجنبي الذي يزيدها تعقيدا كلما ازداد ليجعل الحل الوطني لها أبعد منالا بمرور الوقت.
إن التوصٌل إلى وفاق سوداني ، ولو نظريا ومن حيث المبدأ في البداية ، حول حل وطني لقضية دارفور يمثل بداية النهاية الوحيدة للتدخل الأجنبي ، لأنه سوف يجرد العوامل الخارجية من أي مسوغات داخلية لها حد أدنى من الإقناع للتدخل ، ويعرٌي الأطماع الخارجية لأي تدخل أجنبي ، بقدر ما يفرز حركات التمرد التي تتحرك بدوافع محلية عن تلك التي يجري تحريكها لخدمة أجندات خارجية ، ويمثل أرضية مشتركة تزيد في تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة الأطماع الأجنبية ، ويكون منطلقا للسلام الوطني السوداني وكذلك للسلم الاجتماعي في دارفور ، ليسقط وطنيا كل محاولات التدويل ويعطي مصداقية لرفض الخرطوم مثلا للمؤتمر الدولي الذي اقترحت مصر عقده للبحث عن حل في دارفور ولأي مقترحات دولية أو إقليمية مماثلة.
وإذا كان في التاريخ القريب عبرة لتأكيد مثل هذه الإيجابيات للحل الوطني لقضية وطنية فإن المراقب سيجدها في بيان الحادي عشر من آذار / مارس الذي أصدرته القيادة البعثية للحكم في العراق عام 1974 كحل وطني لقضية الكرد العراقيين في شمال البلاد ، حيث منحتهم حكما ذاتيا موسعا وشراكة في الحكم المركزي وحصة محددة في الثروة الوطنية في سابقة تاريخية لم يعرف لها الشعب الكردي مثيلا في مواطن تجمعه الأوسع مساحة جغرافية والأكثر كثافة سكانية في تركيا وإيران المجاورتين ، سابقة نوعية عجز الحكم الوطني العراقي عن الإقدام على مثلها منذ الاستقلال لكنها قطعت الطريق على الانفصاليين من الكرد العراقيين بقدر ما جرٌدت التدخلات الخارجية من مسوغاتها الداخلية وكشفت أطماعها وعرٌت ارتباطات امتداداتها في أوساط كرد العراق التي فجٌرت قضيتهم صراعا دمويا فتح الباب واسعا للتدخل الإيراني والإسرائيلي والتركي والأميركي والسوفياتي والبريطاني وغير ذلك من العوامل الخارجية التي لم يكن تدخلها أصلا يستهدف الحل بقدر ما استهدف تسعير الصراع وإطالة أمده كمدخل يتسلل منه نحو تحقيق أطماعه ومصالحه في العراق ، وربما كان هذا أحد الأسباب الرئيسية لتحوٌل الأطماع الخارجية بعد ذلك من دعم التمرد الكردي كوسيلة كانت تراها مثلى لابتزاز الحكم المركزي في بغداد إلى التوجٌه نحو إسقاط الحكم المركزي نفسه بالغزو عام 2003 ثم الاحتلال المتواصل حتى الآن وهو احتلال رحب به كرد العراق لكنه لم يقدم أي إضافة إلى ما قدمه لهم الحل الوطني عام 1974 !
وفي هذا السياق لا بد من التعامل مع الإفراج يوم الاثنين قبل الماضي عن زعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض حسن الترابي ، وهو إفراج لم يكن لأسباب صحية بدليل الإفراج معه عن بشير آدم رحمن أمين الشؤون الدولية في الحزب المعروف أن له رؤيته الخاصة المختلفة عن رؤية حكومة الرئيس عمر حسن البشير للحل في دارفور ، وليس التعامل مع الإفراج عنه في سياق تمتين الجبهة الداخلية فقط سواء في مواجهة المخاطر الخارجية بعد مذكرة اعتقال البشير التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية ، أم لتعزيز مصداقية ديموقراطية الانتخابات الرئاسية المقبلة . وكان الترابي قد اعتقل بعد تصريحات اعتبر فيها البشير "مدانا" باتهامات المحكمة الجنائية الدولية وطالبه بتسليم نفسه لها وهو كذلك على صلة وثيقة مع خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة أكبر الحركات المتمردة وأفضلها تسليحا في دارفور ، وقد كرر الترابي موقفه هذا بعد إطلاق سراحه ، كما هلل إبراهيم لقرار المحكمة الجنائية وأعلن أنه وحركته مجندين لتنفيذه مع أنه شريك الحكومة السودانية في محادثات سلام الدوحة التي ترعاها قطر ، ومواقف الرجلين تكشف استعدادا خطيرا للمناورة السياسية يتجاوز الخطوط الحمراء الوطنية الضرورية لأي توافق وطني وبخاصة عدم التردد في التحاور بالسلاح مع الحكومة المركزية والاستقواء بالخارج عليها.
ويقود ذلك إلى ضرورة الاتفاق على تثبيت الخطوط الحمر الوطنية مثل اعتبار الحوار الوطني هو الوسيلة الوحيدة للتوافق على الحل ، ورفض حسم الخلافات حول الحل بالقوة المسلحة ، ورفض الاستقواء بالخارج لترجيح وجهة نظر على أخرى عن طريق تغيير موازين القوى على الأرض ، ورفض التدويل وأي شكل من أشكال التدخٌل الخارجي ، أجنبيا كان أم عربيا ، يتعارض مع سيادة السودان أو يعتبر تدخلا في شأنه الداخلي أو يساهم في عدم الاستقرار فيه أو يزيد في العقبات التي يواجهها الجهد الوطني في السعي إلى السلام ، ورفع قضية دارفور فوق أي اصطراع على الحكم بين الأحزاب المتصارعة على السلطة لتجنب استخدام الصراع فيها وحولها أداة للوصول إلى الحكم ، وذلك يتطلب مراجعة نقدية شاملة لكل أطراف الصراع الوطني في دارفور بدءا من الحكومة المركزية في الخرطوم بقدر ما يتطلب تراجعا جريئا من الأطراف التي تجاوزت مثل هذه الخطوط الحمر وفي مقدمتها الترابي وخليل إبراهيم.
إن المساهمة الهامة لأهل دارفور في الانتصار لاستقلال السودان الذي قاده حزب الأمة عام 1956 ينبغي ألا يغيب عن الذاكرة الوطنية الجمعية للسودانيين كحقيقة تاريخية تدفعهم إلى عدم التسرع في الانسياق مع التأطيرات النظرية الغربية المشبوهة للصراع الدائر حاليا في الإقليم السوداني الغربي ، كوصفه مثلا بأنه صراع بين السودانيين العرب وبين السودانيين الأفارقة ، ومن المؤسف حقا أن يبحث مثل هذا التأطير عن "أصول" له في سوابق حزبية سودانية على سبيل المثال في لجوء أحد طرفي حزب الأمة نفسه بعد انشقاقه إلى البحث عن أصوات بين الدارفوريين "الأفارقة" بينما سعى الشق الآخر إلى كسب أصوات الدارفوريين "العرب" في انتخابات عام 1968 ، وكان وصفا "عربي" و "إفريقي" حتى ذلك الحين لا يشيرا إلى تمايز عرقي بل إلى طريقة حياة ، فالوصف الأول أطلق على كل من كان يعيش مرتحلا على رعاية الماشية بينما كان الثاني يطلق على كل من يعيش مستقرا على الزراعة وكانت جميع النخب المدنية الحاكمة في الخرطوم تتعامل معهم جميعا باعتبارهم "أهل الغرب" الفقراء وغير المتعلمين حتى اكتشفت هذه النخب أهمية أصواتهم الانتخابية في الصراع على السلطة.
لقد صهرت صلة الرحم بالتزاوج والمصاهرة والنسب أكثر من ثمانين قبيلة في دارفور وبخاصة منذ بدأ الدين الحنيف ينتشر في الإقليم منذ القرن الحادي عشر قبل أن تعتمد سلطنة التنجر الإسلام دينا رسميا في القرن الخامس عشر الميلادي وتتأسس مملكة الفور الإسلامية عام 1445 لكي تتعرٌب القبائل الدارفورية جميعها لغة وثقافة بعد ذلك ، ليحل مثلا لقب "الأمين" محل لقب "شيخ دالي" وتحل ألقاب "الناظر" و "شيخ القبيلة" محل الألقاب السابقة ، ليصبح جميع أهل الإقليم ذوي البشرة السوداء مسلمين وجميعهم عربا سود البشرة حتى قرر المستعمرون البريطانيون في أواخر القرن التاسع عشر توسيع استعمارهم لمصر لكي يشمل السودان ثم دارفور التي كانت حتى ذلك الحين تتمتع باستقلال نسبي ليبدأوا بعد ذلك في سياستهم المعروفة بسياسة "فرق تسد" للتمييز على أساس عرقي بين أهل دارفور بعد أن تعذٌر أي أساس ديني أو طائفي آخر .
لكن الأهم هو أن الاستعمار البريطاني قد غيٌر نظام الحاكورة (الأرض) الذي كان سائدا في سلطنة دارفور لتوزيع الأراضي بين القبائل وأقام نظاما جديدا تكمن فيه بذور الصراع الحالي . قال البروفسور بجامعة كولومبيا محمود مامداني في مقابلة نشرها موقع إسلام أون لاين مؤخرا إن المستعمرين البريطانيين "ألغوا الملكية الفردية ، وأعادوا توزيع جميع الأراضي باعتبارها "أراض قبلية" لتذهب الحواكير الأكبر لقبائل الفلاحين والأصغر للقبائل شبه البدوية التي تملك ماشية لتظل القبائل البدوية بشكل كامل من أصحاب النوق والجمال بلا أية حواكير" . ويضيف مامداني أن "غالبية "العرب" في دارفور – الرزيقات الجنوبيين (عشائر عربية) – ليسوا متورطين في الصراع" الحالي لكن العشائر "الشمالية" لهذه القبيلة العربية الجهينية التي تعتبر من أغنى قبائل "البقٌارة" وأكثرها عددا وأقواها نفوذا في دارفور متورطة فيه مع قبائل فور ومساليط وزغاوة ... "والرزيقات الشماليون هم القبائل التي لم تحصل على موطن (قبلي) ، أي "دار" ، في دارفور" ، كما قال مامداني ، لأنهم كانوا بدوا رحٌلا غير مستقرين في قرى . وكان هذا هو العامل الأول في الصراع الحالي . وفور هي القبيلة الأكبر التي تعيش مستقرة على الزراعة والتي تقود عمليا حركات التمرد الآن في إقليم دارفور الذي تعادل مساحته مساحة فرنسا أو ولاية تكساس الأميركية تقريبا حيث يعيش حوالي سبعة ملايين ونصف المليون سوداني حوٌل الصراع ثلثهم تقريبا إلى لاجئين خارج وطنهم أو مشردين داخله.
أما العامل الثاني الذي كان بمثابة الصاعق الذي فجٌر الصراع فكان "بيئيا" ، إذ توالت سنوات القحط والجفاف منذ أوائل ثمانينات القرن العشرين الماضي ، وقادت إلى مجاعة واسعة عام 1984 – 1985 ، وضرب القحط في أعوام 1989 ، 1990 ، 1997 و 2000 ، فتقلصت فترة الموسم الماطر عادة بين الشهرين الخامس والتاسع من السنة إلى ثلاثة أشهر فقط من حزيران / يونيو إلى آب / أغسطس ، وكانت النتيجة توسعا في التصحٌر على حساب الأراضي الزراعية قاد إلى نزوح سكاني رافقه تنافس على الأرض وموارد الغذاء والمياه المتناقصة ، وفي شمال دارفور المأهول في معظمه ب"العرب" بالمفهوم الوظيفي لا العرقي ، أي بالرحٌل من رعاة النوق والجمال مثل عشائر الرزيقات وغيرها ذات الأصول العربية وقبائل من أصول إفريقية مثل الزغاوة التي ينتمي إليها خليل إبراهيم ، فقد بدأ هؤلاء يزاحمون القبائل المزارعة المستقرة سواء من الأصول العربية (الرزيقات مثلا في الجنوب) والأصول الإفريقية (الفور في الشمال مثلا) على الأرض بحثا عن المراعي ليبدأ التوتر مبكرا منذ عقد سبعينيات القرن الماضي بدأ الرعاة بعدها "يستقرون" في تجمعات وسط المزارعين في ملحمة الصراع التاريخية المألوفة على الماء والكلأ في الصحارى العربية وغير العربية ، وإذا كان المراقب يجد عذرا للخرطوم في انشغالها لاحقا طوال أكثر من عشرين سنة في الحرب الأهلية مع الجنوب عن معالجة هذا التوتر في حينه فإنه لا يجد أي عذر لغياب التدخل الدولي عن مساعدة السودانيين في دارفور في مواجهة الطبيعة بينما يستفحل هذا التدخل حاليا.
وإذا كان العامل الأول سببه بريطاني خارجي والثاني قدر من الله وخارجي أيضا فإن ضحايا الأزمة الناجمة عن العاملين جميعهم مواطنون ووطنيون أيا كان الطرف المنحازين إليه في الصراع الراهن ودورهم كعامل ثالث في الأزمة يقتصر على فشلهم في التوافق وطنيا على حل للأزمة التي لم يكن لهم يد في أسبابها وعلى احتكامهم إلى السلاح سواء في محاولة مستحيلة للحفاظ على الوضع الراهن غير العادل أم في محاولة لتغييره يثبت استفحال الأزمة حتى الآن أنها مستحيلة كذلك.
وتتحمل الحكومة المركزية في الخرطوم المسؤولية عن عدم قيامها بواجبها الوطني في استدراك الأزمة قبل أن تنفجر صراعا ، مما يعطي مصداقية لتهمة "التهميش" التي توجهها الحركات المتمردة لها ، لكن هذه الحركات تخطئ عندما تفسر هذا التهميش بأنه استهدف القبائل ذات الأصول الإفريقية فقط ، لأنه تهميش طال الإقليم كله . وبالرغم من وجاهة الأعذار التي تساق لتسويغ ذلك ، مثل الانشغال بالحرب الأهلية في الجنوب ، فإن هذه الأعذار ليست كافية . وربما لم يفت الأوان بعد لتدارك الموقف . فعلى سبيل المثال كانت زيارة البشير لدارفور مرتين خلال عشرة أيام مؤخرا مؤشرا ايجابيا متأخرا ، لكن أن يأتي "البشير" متأخرا خير من أن لا يأتي أبدا ، ويبقى أن يقابل بالمثل من المتمردين "الوطنيين" ، وليس بالانسحاب من محادثات السلام ، كما انسحب خليل إبراهيم من الوساطة القطرية بذرائع غير مقتعة ، أما المتمردون لخدمة أجندات خارجية فأمرهم مختلف.
وقد وقعت السلطة المركزية في خطأ فادح عندما سمحت لحركات التمرد بجرٌها إلى "حل عسكري" للأزمة التي لا حلٌ عسكريا لها ، إذ حتى لو حسمت الحكومة المركزية الصراع عسكريا لصالحها فإن أي حسم كهذا لا يمثل حلا للعوامل التي فجرت الصراع أصلا.
ولا بد أخيرا وليس آخرا من تثبيت حقيقتين يغيٌبهما إعلام التدخل الأجنبي ، الأولى أن "التمرد" هو الذي بادر إلى الحل العسكري ، والشواهد كثيرة على التحريض والتمويل والتسليح الخارجي على ذلك ، عندما فاجأ المتمردون الحكومة المركزية بالهجوم على قاعدة جوية وعلى مواقع انتشار روتيني للجيش السوداني في عدة بلدات وقرى وعلى مخازن ذخيرته فيها خلال ثلاثة أشهر بدءا من شباط / فبراير عام 2003 مما دفع الخرطوم إلى إدخال تعزيزات عسكرية إلى دارفور وقاد لاحقا إلى تدخل عسكري دولي للإتحاد الإفريقي والأمم المتحدة بذرائع إنسانية ، والحقيقة الثانية أن مذكرة الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية كعنوان للتدخل الأجنبي قد تحولت إلى أحدث عقبة أمام أي وفاق سوداني حول حل وطني للصراع في دارفور.