
تونس - شهدت ظاهرة “البرباشة” وهم جامعو النفايات نموا في السنوات الأخيرة في تونس، وصاحب هذا النمو تطورا ملحوظا لعدد النساء المشتغلات في هذا القطاع، ورغم الواقع القاسي لهذه المهنة إلا أنها تؤدي دوراً محورياً في الاقتصاد الدائري من خلال جمع وفرز النفايات القابلة لإعادة التدوير ما يوفّر المواد الأولية للصناعات التحويلية، ويقلّص من الكميات الموجهة إلى المصبات العشوائية.ويتميز العمل في هذا القطاع بتنافس كبير بين “البرباشة” خاصة بين النساء والرجال الذين عادة ما يستعينون بعربات ودراجات نارية ويجمعون النصيب الأوفر وهم الأكثر حظا لجمع أكبر عدد ممكن من المواد القابلة لإعادة التدوير ما يدفع النساء لتقضية الكثير من الوقت وبذل المزيد من الجهد في سبيل جمع أكبر عدد من الكيلوغرامات لتوفير قوتهن اليومي.
ويقوم العاملون والعاملات بجمع المواد القابلة لإعادة التدوير خاصة البلاستيك والألومنيوم ويقومون ببيعها للشركات التي تقوم بتدوير ورسكلة هذه النفايات، وينقسم عمل “البرباشة” إلى نوعين، “برباشة” المصبات المراقبة أو العشوائية إذ يقومون بفرز النفايات داخل المصبات بعد جمعها من قبل البلديات. و”برباشة” الأحياء الذين يقومون بجمع وفرز القوارير البلاستيكية أو الألومينيوم داخل الأحياء في الأنهج أو في حاويات النفايات.وأفاد مدير عام الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات بدرالدين الأسمر، بأن عدد العاملين في تثمين النفايات أو ما يعرف بـ”البرباشة” غير محدد رسميا وأن الدولة تخطط لإدماجهم عبر عدة مسارات من بينها إحداث شركة أهلية.
وأضاف الأسمر، في إجابته على سؤال يتعلق بالخطوات التي تعتزم الدولة اتخاذها لتنظيم قطاع “البرباشة”، أن النفايات الصناعية تعد هامة في تونس وأنه يجري إعادة تدوير قرابة 70 ألف طن سنويا من البلاستيك وإعادته إلى الدورة الاقتصادية من قبل ” البرباشة”."البرباشة" يعيشون على الهامش في ظل غياب التشريعات التي تحميهم، أو برامج الإدماج التي تعترف بمساهمتهم في الاقتصاد ولفت المسؤول إلى أن النفايات الصناعية تعد هامة، كما نظيرتها المنزلية، وأنه توجد عديد المنظومات لإعادة تدويرها وإدماجها في الاقتصاد الوطني على غرار منظومات “إيكولف” و”إيكو زيت” وإيكو بيل” وهي منظومات تحقق نتائج طيبة لكنها تحتاج إلى المزيد من التطوير.
وبيّن أن الكميات المجمعة من البلاستيك والتي يعاد ضخها في الاقتصاد هامة ولكنها غير كافية. مشيرا إلى أن عدد “البرباشة” في تونس غير محدد بشكل رسمي خاصة وأنهم يتواجدون قرب المصبات المراقبة وغير المراقبة ووحدات التحويل وفي الطرقات.وشدد على أهمية حماية هذا القطاع، وأن المسؤولية جماعية للاهتمام بهم وإدماجهم في الدورة الاقتصادية وقد آن الأوان لتنظيمهم وتوجيههم خاصة وأنهم يعيدون تدوير قرابة 200 ألف طن من النفايات المنزلية.وأوضح أن الدولة تسعى إلى إيجاد صيغة للتعامل مع هذا القطاع بالشراكة مع مختلف الجهات في ظل التوجه إلى إحداث شركات أهلية وكذلك العمل على تحيين كراسات الشروط.ولفت إلى أن الوكالة تمنح سنويا العديد من كراسات الشروط، لتثمين العديد من الأنشطة، وأنها تعمل حاليا على تحيين هذه الكراسات وإحداث أخرى تتماشى مع التوجهات الجديدة على غرار إحداث مؤسسات صغرى لجمع النفايات وفرزها وتثمينها.وسلطت دراسة ميدانية أعدّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الضوء على واقع “البرباشة”، كاشفةً عن ظروف عمل صعبة ومخاطر صحية جمّة، في ظل غياب شبه تام للاعتراف المؤسسي بهم.
والدراسة التي جاءت تحت عنوان “البرباشة أو اقتصاد القمامة: من مصب برج شاكير إلى شوارع العاصمة”، قُدّمت خلال ندوة صحفية وأظهرت أرقامًا لافتة. ففي مصب منطقة برج شاكير وحده، يُقدّر عدد العاملين الثابتين في فرز النفايات بنحو 80 شخصًا، فيما يتراوح عدد غير الدائمين بين 400 و500 شخص، معظمهم رجال بنسبة 77.1 في المئة، بينما لا تتجاوز نسبة النساء 22.9 في المئة. ونصف هؤلاء تقريبًا لم يتجاوزوا المستوى الابتدائي في التعليم، وربعهم تتراوح أعمارهم بين 35 و49 سنة.ورغم أن هذه المهنة توفّر مورد رزق للآلاف من العائلات، إلا أنها تُمارس في ظروف غير سليمة.
وتشير نتائج الدراسة إلى أن 80 في المئة من العاملين لا يستخدمون أقنعة واقية خلال العمل، ما يعرّضهم لمخاطر صحية مزمنة وأمراض تنفسية حادة. كما يعمل أغلبهم ما بين 8 و12 ساعة يوميًا في بيئة مليئة بالملوثات والروائح السامة.ومن الجانب الاقتصادي، أظهرت البيانات أن 37 في المئة من المستجوبين ينفقون شهريًا ما بين 500 و750 دينارًا، بينما يبلغ إنفاق 27 في المئة منهم بين 1000 و1500 دينار، في مؤشر على هامش محدود من العائد المادي مقابل الجهد المبذول.
ووصفت الباحثة في علم الاجتماع حنان الشابي واقع “البرباشة” في تونس بـ”المعقّد جدًا”، مشددةً على ضرورة دمجهم في الإستراتيجيات الوطنية لإدارة النفايات. وقالت “لا يمكن التفكير في بناء اقتصاد دائري دون إشراك جامعي النفايات غير المرئيين، وتشخيص أوضاعهم بعمق سواء داخل المصبات أو خارجها.”ورغم الدور المحوري، لا يزال “البرباشة” يعيشون على الهامش، في ظل غياب التشريعات التي تحميهم، أو برامج الإدماج التي تعترف بمساهمتهم في الاقتصاد الدائري والبيئي على حد سواء.
ويستقبل مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف الاقتصادي والاجتماعي بالمنتدى دوريا العديد من النساء اللاتي تمتهن هذه المهنة حيث تلجأن إلى المركز بحثا عن المساعدة والإسناد في مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجههن وبالخصوص المشاكل الصحية.
وتكشف حصص الاستماع والإنصات لهن حجم المعاناة التي تعشنها ما دفعهن للبحث عن الاسترزاق في هذه المهنة الشاقة رغم المصاعب التي تواجههن وحالة الإذلال والانهيار النفسي التي تعانينها. والكثير منهن تعرضن في حياتهن إلى انتكاسات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية مثل الترمل والطلاق والعنف الأسري والطرد التعسفي والاغتصاب والتحيل وغيرها. ووراء كل واحدة منهن حكاية تشهد على عمق الأزمة الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعيا خاصة في ما يتعلق بالعنف المسلط على النساء والانتهاك المستمر لحقوقهن في كل المستويات وفي كل مراحل العمر.وتقوم “البرباشة” بجمع 30 كيلوغراما على أقصى تقدير في اليوم. كما يتعرضن إلى الكثير من الحوادث أثناء عملهن خاصة وأن النفايات تشمل مختلف أنواع المواد من البلور إلى جميع المواد الخطرة وحتى السامة وهن مفتقدات لجميع وسائل الحماية (قفازات وأقنعة واقية…) التي لا يملكن الإمكانيات المادية لتوفيرها لحماية أنفسهن من هذه الأخطار، وفي الكثير من الحالات لا يدركن أهميتها.ويقدر الدخل اليومي للمرأة “البرباشة” بحوالي 8 دنانير في اليوم أي ما يعادل 240 دينارا شهريا. مع الملاحظ أن الأجر الأدنى في تونس يبلغ حوالي 460 دينار شهريا (الدولار الأميركي= 3 دينارات تونسية).
وكشفت نتائج دراسة ميدانية لـ”واقع النساء ‘البرباشة‘ في تونس الكبرى”، أن نحو 8 آلاف امرأة يمارسن نشاط تجميع وفرز النفايات، استنادًا إلى تقديرات الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات الصلبة، و79 في المئة منهن يتجاوز عمرهن الأربعين عامًا.وبينت نتائج هذه الدراسة، أن 99 في المئة من النساء الناشطات في هذا القطاع إما أميات أو من المستويات التعليمية الابتدائية والثانوية، مقابل 1 في المئة من النساء “البرباشة” لهن مستوى تعليم عال.وشملت الدراسة التي أعدها اتحاد المرأة التونسية 116 امرأة من الناشطات في هذا القطاع في تونس الكبرى، وقدمها الاتحاد بمناسبة اختتام الحملة الأممية “16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف ضدّ المرأة.”وكشفت هذه الدراسة أن 62 في المئة من النساء “البرباشة” يمارسن هذا النشاط كامل الوقت، وأن جمع وفرز ورسكلة النفايات هو مورد الرزق الوحيد لقرابة 77 في المئة منهن، فضلاً عن أن 39 في المئة من النساء المستجوبات يمارسن هذا النشاط يوميًا لأكثر من 7 ساعات، ونحو 44 في المئة منهن ينقلن ما يجمعنه على ظهورهن.وبيّنت نتائج هذه الدراسة أن شريحة النساء “البرباشة” في تونس تعدّ من أكثر الفئات الاجتماعية هشاشة اقتصاديًا واجتماعيًا في قطاع يتميز بكثرة عدد الرجال الناشطين فيه مع ما يعنيه ذلك من تمييز على أساس النوع الاجتماعي، وفق ما أوردته وكالة الأنباء التونسية الرسمية.
وأوصت بضرورة الانتباه إلى هذه الشريحة الاجتماعية وخاصة توفير العناية الصحية لهن، وتمكينهن من دفاتر العلاج المجاني وتيسير نفاذهن إلى الخدمات العلاجات والطبية الضرورية بالنظر إلى حساسية نشاطهن فضلاً عن تحسيس جمعيات القروض الصغرى بأهمية إدراج النساء “البرباشة” ضمن قائمات المنتفعين بخدماتها.
ولفتت الدراسة في باب التوصيات إلى أهمية مضاعفة العمل من أجل حث أصحاب القرار في تونس على وضع إطار قانوني لفائدة هذه الشريحة للمساعدة على تنظيم نشاط جمع وفرز النفايات، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للناشطين فيه، فضلاً عن رفع مقترح إلى وزارة الشؤون الاجتماعية يقضي بإقرار نظام تغطية اجتماعية لشريحة “البرباشة”.
وتقاعست الحكومات المتعاقبة بعد 2011 عن الاهتمام بهذا القطاع لانشغالها بملفات مطلبية أخرى في مجالات حساسة مثل الصحة والتعليم وغيرهما، علاوة على طغيان الأزمات السياسية على المشهد.وأطلقت منظمة “إنترناشيونال أليرت” مشروعاً في وقت سابق يستهدف تحسين وضع “البرباشة”، يتمثل في إنشاء مصنع يعمل على تدوير البلاستيك والنفايات بعد أن يتم شراء المواد المجمعة من “البرباشة” بأسعار معقولة بخلاف ما هو سائد.
وقال منسق المشروع ماهر العمراني وهو ناشط حقوقي أيضاً إن “‘البرباشة‘ ليس لهم الحق في ضمان اجتماعي أو بطاقات علاج لذلك حاولنا التنسيق مع السلطات لهيكلة القطاع لأنه يسهم في النهاية على المستوى البيئي من خلال تقليص الفضلات وغيرها، لكن خطرها متفاقم.”وتابع أن “‘البرباشة‘ ليست لديهم حماية حقيقية، وهم أفراد أجبرتهم الأوضاع على تجميع المواد المعدنية وغيرها بطريقة عشوائية،” وأكد أنه “من الضروري أن تكون هناك مراكز تجميع لأن المجمعين الذين يتم بيع المواد المجمعة لهم الآن يشترونها بأسعار زهيدة جداً.”ويجري الحديث عن “بارونات للنفايات” حيث يقوم أشخاص بشراء المواد المعدنية التي يجمعها “البرباشة” بأسعار زهيدة بينما يجنون أموالاً طائلة.وتبقى معاناة “البرباشة” في تونس مرآة تعكس حجم التحديات الاجتماعية التي تواجه البلاد، والتي لا يمكن تجاوزها إلا بتبني سياسات شاملة تأخذ بعين الاعتبار الفئات المنسية في الهامش الاقتصادي والاجتماعي.
