كثيرون هم الذين يقولون إن حكام العرب أصحاب كلمات كبيرة وأكبر من حجم أفواهم، وكثيرا ما تحدثوا عن الانتصارات التي سيحققونها في ميادين القتال، لكنهم يولون هاربين مع انطلاق الرصاصات الأولى للمواجهة. هم حكام متخاذلون وجبناء، ولم يكونوا أبدا مستعدين للقاء العدو، وحروب العرب تثبت هذا الكلام كحقيقة غير قابلة للاجتهاد والنقاش. لقد زمجر قادة العرب بخطابات رنانة، ولم يجد العربي منهم إلا المزيد من الذل والهزائم والتخلف في مختلف ميادين الحياة.
ويضيف الذين يتوقعون هزيمة النظام السوري بسهولة أمام الأمريكيين أن هذا النظام لم يطلق رصاصة باتجاه إسرائيل على مدى عشرات السنوات، وكل حديثه عن تحرير الجولان لم يكن أبعد من هذيان إعلامي لا قيمة له، وتأكد ضعف الجيش السوري وعدم استعداده للمواجهة عندما انطلق الحراك السوري في مواجهة عسكرية ضد النظام. وللعرب مثال في نظام صدام حسين الذي تهاوى جيشه بسهولة أمام الأمريكيين.
هذا كلام صحيح.
الجديد في الوضع السوري
الوضع السوري الآن مختلف عن الوضع في العراق أيام الغزو الأمريكي، وألخص هذا الاختلاف بالتالي:
1- لم يتمتع الرئيس الراحل صدام حسين بدعم داخلي أو خارجي، ولم يكترث أحد بما يلاقيه من هجمات أمريكية. روسيا لم تكن قد بدأت نهوضها، وإيران لم تكن سعيدة بوجود النظام، ولم يكن شعبه على استعداد لتوفير حماية شعبية. سوريا تختلف في أن النظام يتلقى دعما واضحا وقويا على المستويين العسكري والديبلوماسي من روسيا، وقد قال مسؤولون روس إن النظام السوري يمتلك من الأسلحة ما تكفي للدفاع، والمعنى أن روسيا زودت النظام بأسلحة دفاعية متطورة. هذا لا يعني أن روسيا ستدخل حربا ضد الولايات المتحدة، لكن الرسالة الروسية واضحة للأمريكيين، ومفادها أن روسيا لم تعد تقبل بالعنجهية الأمريكية، وهي مستعدة لتحجيمها. ويعزز الروس هذه الرسالة بعدد من الخطوات مثل المراقبة المشددة على أجواء المنطقة والفضاء الخارجي لرصد التحركات الأمريكية والإسرائيلية؛ وكذلك بتعزيز الأسطول الروسي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
2- هناك دعم إيراني غير محدود لسوريا على مختلف المستويات النزلية (اللوجستية) والديبلوماسية والعسكرية والاستخبارية، واستنفار إيراني لمختلف القطاعات العسكرية في منطقة الخليج، وهي مستعدة للمشاركة في المواجهة وفق التوجيهات السياسية. وواضح أن القيادة السياسية تربط مكانة إيران ودورها في المنطقة بالقدرة على المواجهة وليس في الخطابات السياسية. تدرك إيران تماما أن مكانتها ودورها رهن بإثبات وجودها العسكري وقدراتها التقنية، وأنه لا بد من اختبار هذا الوجود إذا كان للدول العربية الموالية لأمريكا أن تقتنع بأن أمن المنطقة من شأن أهل المنطقة وليس من شأن أمريكا. إيران تتحدث عن تطور عسكري على مدى سنوات، وتستمر في تنفيذ المناورات البحرية، لكنها لم تثبت حضورها إلا عام 2006 من خلال مواجهة حزب الله للهجوم الإسرائيلي. نجح حزب الله في المواجهة، لكن ذلك لم يكن كافيا لإقناع دول الخليج والأردن وقوى 14/آذار اللبنانية بتغير ميزان القوى في المنطقة. ولهذا لإيران مصلحة قوية في دعم مواجهة سورية للولايات المتحدة، والمشاركة في هذه المواجهة إن لزم الأمر.
3- حزب الله يتحفز منذ عام 2009 لمعركة جديدة ضد إسرائيل، وهو متشوق لخوض منازلة يرى أنها ستغير وجه المنطقة العربية سياسيا. ومن المحتمل أن حزب الله هو الأكثر خطورة على إسرائيل، وهو الأكثر جاهزية للمواجهة، والأشد مراسا وحرصا أمنيا. وقناعتي الشخصية أن حزب الله لن يتوانى عن القيام ببعض الأعمال العسكرية لتوريط أمريكا في الحرب المحتملة.
4- الجيش السوري نفسه تغير إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. لقد بدأ مسيرة التحول إلى جيش حديث قبل عدة سنوات، وأخذ يكتسب خبرة من خلال المأساة التي تحل بسوريا الآن. لقد خرج الجيش السوري من ثكناته، وتخلص إلى حد كبير من قلة العمل، واكتسب قدرات تكتيكية كثيرة ومتنوعة. لكن المعركة لن تكون جنديا مقابل جندي إلا إذا تم الاشتباك مع إسرائيل، الأمر الذي يمكن أن يقوم به حزب الله.
5- يتواجد في سوريا مواقع عسكرية صاروخية تابعة لحزب الله، وهي لن تكون هادئة فيما إذا قامت أمريكا بتوجيه ضربة عسكرية. وليس من المعروف فيما إذا كانت إيران تحتفظ ببعض المواقع الصاروخية.
مواقع الاستهداف
هناك مواقع استهداف سورية كثيرة، ومن المتوقع أن تقوم أمريكا بتدميرها، ولديها القدرات الهائلة للقيام بذلك. لكن مشكلة أمريكا أنه من المحتمل النيل منها بسبب انتشار مواقعها في المنطقة. ويمكن تلخيص هذا بالتالي:
أ- لأمريكا قواعد عسكرية منتشرة في المنطقة العربية الإسلامية، ومن السهل استهدافها صاروخيا. لها قواعد في الأردن وتركيا والسعودية وقطر والبحرين والإمارات العربية وأفغانستان.
ب- لأمريكا أساطيل تجوب البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، وكلها تحت طائلة الصواريخ التي يمكن أن تنطلق من البر أو البحر.
ت- إسرائيل هي المشكلة الأكبر في المواقع المستهدفة لأن أي رد من قبل سوريا وإيران وحزب الله يستهدف إسرائيل قد يؤدي إلى دخول إسرائيل الحرب ما يعني توسيع النطاق والتورط بحرب إقليمية لا تبحث عنها أمريكا. توسيع الحرب قد يجر دولا عربية للحرب إلى جانب إسرائيل، الأمر الذي سيكون له انعكاسات داخلية عربية.
الاقتصاد العالمي
الوضع الاقتصادي العالمي هش جدا، وبالكاد يحاول العالم الغربي والصناعي الخروج من الأزمتين المالية والاقتصادية، فماذا يصنع إذا اهتزت سوق النفط؟ سعر برميل النفط يرتفع وينخفض تبعا لتناقل وسائل الإعلام لأخبار أزمة قد تظهر، فكيف يمكن أن يكون الأمر إذا حصلت أزمة حقيقية؟ وكيف سيتطور إذا جابت الصواريخ الأجواء، وأصبحت ناقلات النفط ومصافي النفط ومجمعات النفط تحت النار؟ المعنى أن الاقتصاد العالمي سيتعرض لضربة قوية، وستوجه الأمم اللوم لأمريكا على عدوانها على سوريا.
الشارع العربي
اعتدنا على مظاهرات عربية متواضعة تخرج ضد الاعتداءات الأمريكية على العرب، ولم نعتد على مفعول كبير لها. هل سيكون للجماهير العربية دور فاعل هذه المرة بسبب استمرار تفاعل الحراك العربي الذي بدأ أواخر عام 2010؟ ربما. الدور الفاعل يعني الهجوم على سفارات الدول الغربية، ومراكزها الثقافية والقنصلية ومصالحها الاقتصادية.
الشعوب العربية لن تقف مع أمريكا، وسيبقى تأييد أمريكا محصورا بأعوانها في المنطقة ومن والاهم، والذين لا يشكلون 10% من العرب. الغالبية الساحقة من الناس ستؤيد سوريا حتى لو كان بعضهم ضد النظام. كثيرون هم الذين ينظرون إلى الهجوم الأمريكي على أنه عدوان على سوريا وليس دعما للشعب السوري، وهم ليسوا على استعداد لتأييد تدخل عسكري خارجي ضد دولة عربية.
المهم أن رد فعل الجماهير العربية سيعتمد إلى حد كبير على الرد السوري وحلفاء سوريا. سيلتهب الشارع العربي إن حصل الرد، وسينزوي يلعق مرارة الهزيمة إن لم يحصل رد. ورد فعل الشارع العربي سيتناسب مع حجم الرد وجديته.
القرار جماعي
قرار الرد على الهجوم الأمريكي المحتمل ليس بيد النظام السوري فقط، وإنما هو قرار جماعي تشترك فيه روسيا وإيران وحزب الله. روسيا معنية أن تقول لأمريكا إنها لم تعد القطب الوحيد والأوحد في العالم، وإنما روسيا أيضا قطب يُحسب له كل حساب. وإيران تريد إخراج المنطقة من الهيمنة الأمريكية، وأن يكون لها كلمة في رسم سياسة المنطقة والسير قدما نحو التحديث على طريقة المنطقة وليس على الطريقة الأمريكية، وحزب الله معني بتسجيل نصر على إسرائيل لتغيير وجه المنطقة سياسيا على الأقل في سوريا الكبرى.
الرهان بأن النظام السوري سيقول إنه سيرد على الضربات الصاروخية المحتملة في الزمان والمكان المناسبين خاسر هذه المرة. قد تطلب أمريكا من روسيا، وهناك احتمال أنها طلبت، التوافق على ضرب أهداف هامشية وخالية مقابل عدم الرد، لكن هذا أيضا خاضع لقرارجماعي. إذا تمت الموافقة، ولا أظنها ستتم، ستكون سوريا وحلفاؤها قد كسبوا المنازلة. المعنى أن قرار الرد على الضربة الأمريكية جماعي، وتقديري أنه تم اتخاذ قرار بالرد دون تردد.
المخرج الأمريكي
أمام الرئيس الأمريكي مخرج مهم وهو عدم موافقة الكونغرس على الضربة الجوية. صحيح أن للرئيس صلاحية توجيه ضربة، لكن المعايير الديمقراطية ستشكل له حبل خروج من الورطة التي لا يعرف أحد مداها وعمقها. فإذا صوت الكونغرس سواء في النواب أو الشيوخ ضد الضربة، فإنه بإمكان الرئيس أن يتمسك باحترام إرادة ممثلي الشعب.
أمريكا أمام خيار مرّ!!
بقلم : بروفيسور عبد الستار قاسم ... 08.09.2013