أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
المثقفون والثورة الثقافية العربية!!
بقلم : بروفيسور عبد الستار قاسم ... 28.10.2014

أثبت الحراك العربي الذي بدأ في تونس أن التخلف العربي يضرب أطنابه بقوة في الأوصال العربية، وأن هذا التخلف يمتد من رجل الشارع العادي البسيط إلى كبار المثقفين والإعلاميين ورجال السياسة والعلم والمعرفة. فبدل أن يكون الحراك العربي فرصة للبناء والتقدم والتطوير والنهوض الحضاري، تحول في كثير من الأحيان إلى مأساة تولد أحزانا وجروحا عميقة في النفوس العربية، وبدل أن ينهض المثقفون والمفكرون لتوجيه دفة هذا الحراك نحو خير الأمة وعزتها، انزوى كثير منهم بعيدا عن المشهد، ومنهم من بقي يرفع راية الاستبداد مدافعا عن المستبدين، ومنهم من رأى في التخلف فضيلة وتمترس عنده مدافعا ومؤازرا. أما الإعلام فاتقسم أيضا بين مدافع عن الاستبداد والظلم والإذلال، ومنهم من تبنى التعصب والقتل وسفك الدماء والتدمير والتخريب. ويبدو أن الإرهاب الذي تمارسه مختلف الأصوات المتصارعة قد أسكت الكثيرين عن قول الحق أو طرح الآراء بقوة وجرأة وشجاعة. العقل العربي الموزون يغيب إلى حد كبير في زخم الدماء النازفة والبيوت المهدمة، وبقيت الساحة مفتوحة أمام الجهلة والمتعصبين ومن يناصرهم من أهل المال والإعلام، وأمام الاستبداديين الذين يحتكرون أدوات القمع والتنكيل. لقد أساء الجميع إما للإسلام وصورته أمام العالم، وإما للعربي الذي بات يظهر بمظهر المدافع عن قوى تغييبه واستعباده.
المثقفون على هامش الحراك العربي
من المتوقع وفق حركة التاريخ أن يكون المثقفون في مقدمة الحراك العربي على الأقل من ناحية الأفكار والبرامج الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي من المفروض تبنيها للنهوض بالعرب. استمدت الثورة الفرنسية مثلا مثلها وأخلاقها وتطلعاتها مما كتبه ودافع عنه فلاسفة فرنسا، وهكذا كان الوضع بالنسبة لبريطانيا وألمانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى. وفي دول المشرق، تأثرت الجزائر بطرح مفكريها ومثقفيها حول أساليب مواجهة الاستعمار الفرنسي، وللثورة الإيرانية كان منظرون مثقفون يبثون الوعي في عقول الناس من أجل توحيد تطلعاتهم. لا نستطيع أن ننفي دور المثيقفين العرب في بث بعض الوعي لدى المواطنين العرب، لكنه لم يتبلور مع الزمن توجه فكري واضح يجمع الشارع العربي، وبقيت الساحة العربية مليئة بالتناقضات الفكرية والمنطقية التي ساهمت في غياب بوصلة واحدة، وبقي المثقفون العرب تحت مطرقة الأنظمة العربية بحيث امتنعوا إلى حد كبير عن الدفع باتجاه الوحدة الثقافية لجماهير الأمة، ومنهم من قرر الهروب من بلده ليعمل في الدول الغربية وهو مطمئن لا تلاحقه أجهزة الأمن العربية.
المثقفون العرب لحقوا الحراك العربي بدل أن يكونوا على رأس السطر يوجهون الناس. وحتى الأحزاب العربية لم تكن مفجرة للحراك، واضطرت أن تكون تحت قيادة الجمهور الذي يتطلع إلى مستقبل غامض يخلصه من الفقر والقهر والاستبداد. لم تشهد الساحة العربية عملية توحيد توعوي يحمله المثقفون لقيادة الأمة نحو الخلاص. طبعا الأسباب وراء هذا التقصير كثيرة، ويصعب معالجتها في هذا المقال، وفضلا عن ذلك، هناك مثقفون ومفكرون وقادة رأي عرب حسموا أنفسهم على اللاثقافي واللاأخلاقي وأبقوا على أنفسهم أدوات لهذه الجهة أو تلك. فمثلا وقف مثقفون عرب في مصر وموريتانيا وفلسطين والسودان ضد نتائج الانتخابات الحرة وما أفرزته من نتائج. ومنهم من ما زال يقف مع التحجر والتعصب وسفك الدماء ويدافع عن الجرائم، ومنهم من يؤيد أنظمة عربية قمعية مجرمة داست على كرامة الشعب ونهبت ثرواته وطوعته مطية للاستعمار الغربي. والأسوأ أن هناك مثقفين عرب يدعمون إسرائيثل، ويمتدحون أداءها، ويحرضونها ضد المقاومة العربية. هناك مثقفون يطبعون مع إسرائيل ويعترفون بها ويشدون على يديها، ومثقفون آخرون يعملون لصالح الولايات المتحدة الأمريكية والدول الاستعمارية الأخرى من أجل تمكينها من السيطرة على مقدرات الأمة وعلى ثرواتها وتحديد مصيرها ومستقبلها. ومن المثقفين العرب من يساهم في نشر ثقافة قطرية خاصة ليكرس واقع التجزئة العربية، وليكرس تعدد الثقافات على الساحة العربية تمشيا مع الرغبات الاستعمارية ومع سياسات الأنظمة العربية التي أساءت لكل ما هو جميل على الساحة العربية. هناك مثقفون كثر يعملون على لي ذراع الحقيقة من أجل مصالح خاصة ومن أجل إرضاء أصحاب النفوذ والمال، وهم يبيعون عقولهم بأبخس الأثمان ليكونوا أدوات هدم وتخلف. ومن المثقفين من قرر أن يدخل أكثر حلقة عربية قذارة وهي الأجهزة الأمنية. هناك من المثقفين من يعمل في الأجهزة الأمنية العربية ويقوم بأعمال الملاحقة والتعذيب ضد معارضين أو أصحاب رأي أو كلمة حرة. وعلى الجانب الديني، هناك مثقفون لا يتقون الله بتاتا وهم جاهزون لإصدار فتاوى مزاجية تخدم رؤاهم ورؤى سادتهم الذين يقدمون لهم الأموال. هؤلاء يبيعون آخرتهم بدنياهم تحت شعارات دينية.. هؤلاء يشجعون الإجرام ويفتون لصالحه ويسفكون الدماء، وحولوا الدين الإسلامي في أعين شعوب الأرض إلى دين إجرام وقتل وزنا وهتك أعراض، وقد أمعنوا في غيهم حتى تحول الإسلام في نفوس العديد من المسلمين إلى بعبع مخيف يجب التنصل منه.
الوحدة الثقافية ضرورة
من المهم أن يقوم المثقفون بدورهم التاريخي من ناحية بث الوعي لدى جماهير الأمة لكي تتوحد في النهاية على رؤية مستقبلية تخرجها من الظلمات إلى النور، ومن الاستعباد إلى الانعتاق، ومن نير أهل الغرب إلى الاستقلال والحرية والكرامة. حتى يتمكن المثقفون العرب من القيام بدورهم التارخي المطلوب منهم، لا بد لهم أن يتوحدوا أولا، أو أن يتجمعوا من أجل التداول والبحث والدراسة عساهم أو عسى بعضهم أن يطوروا برامج ثقافية على أسس علمية وليس آيديولوجية تجمع الأمة وتشكل بوصلة عمل مستقبلي لها، ذلك لكي يكون الحراك العربي في المستقبل واعيا وواضح الأهداف بدل أن يكون غامضا متعثرا في رؤيته المستقبلية. المطلوب أن يتجمع المثقفون والمفكرون والأكاديميون العرب لمناقشة برنامج ثقافي يصلح لبناء أمة تستند إلى التفكير العلمي والتحليل المنطقي، ويعملون فيما بعد على تحقيقه. والقضايا المطروحة للنقاش وتوحيد الكلمة حولها عديدة أذكر منها: حرية الإنسان العربي والطريق نحو انتزاعها، وقضية الوحدة العربية التي لا مفر أمام العرب من معالجتها واتخاذ قرار جماهيري حولها بخاصة أن الأنظمة العربية عملت جهدها من أجل الإبقاء على الأمة ممزقة، وعلى تمزيق كل قطر عربي من خلال إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية. وكذلك قضية الثروات العربية المنهوبة سواء من الأنظمة الحاكمة أو الدول الغربية، وقضية مياه النيل المهددة والتي سيكون لها التأثير السلبي على كل من مصر والسودان، وقضية فلسطين التي ما زالت عالقة على مدى عشرات السنوت. هذه الأمة الضخمة المترامية الأطراف جغرافيا وسكانيا بقيت عاجزة أمام دويلة صغيرة لا تملك أي مقومات للبقاء سوى ضعف العرب. ومن مسؤولية المثقفين العرب أن يعملوا على التقريب الثقافي بين شعوب الأمة العربية في حياتهم اليومية وعاداتهم وتقاليدهم. من المهم بالنسبة للوحدة الثقافية العربية ألا يشعر العربي بغربة عندما بنتقل من قطر عربي إلى آخر، وفوق كل هذا من المهم تطوير منظومة قيمية عربية تؤسس لقضايا جوهرية لأي أمة مثل الانتماء والالتزام والولاء والمسؤولية والمحاسبة ونبذ التعصب والحرص على الصالح العام والمصلحة العامة وبناء الصدقية والثقة المتبادلة وتقدير الحرية والإبداع. نظامنا القيمي مضروب، والأنظمة العربية بقيت على رأس هرم الضاربين لما تتميز به من خداع وكذب ومراوغة وقهر للناس واختلاس للأموال واستخفاف بالقدرات والاستناد إلى الوساطات والمحسوبيات لتخريب أخلاق الناس. وإذا نجح المثقفون العرب في ذلك فإنهم سيكونون قد سجلوا نصرا كبيرا على الأنظمة العربية التي تعمل دائما على تكريس هموم محلية تساهم في صناعة ثقافات محلية. عندها لن نكون بحاجة إلى استعمال السلاح لأن أمة تقوم على هدى من أمرها تطرد تلقائيا حكامها الفاسدين.
من الضروري أن التركيز على الهموم العربية الأساسية التي تؤرق الجميع لتكون أدوات لبناء هم عربي موحد. الآن، للبنان هموم، ولسوريا همومها، ولكل قطر عربي همومه التي تشغله عن هموم الأمة ككل. وقد لاحظنا كيف أعملت إسرائيل القتل والتدمير في غزة، وكان شعور ابن جنوب أفريقيا تجاه الفلسطينين أكثر دفئا من شعور ابن مصر أو المغرب أو الإمارات. التركيز على الهموم المشتركة يضعف التركيز على الهموم الخاصة، ويدفع في النهاية إلى البحث عن حلول مشتركة وليس حلولا قطرية.
المخابرات العربية بلاء عظيم
بالقطع ستعمل المخابرات العربية على ضرب كل محاولات التجمع على الساحة العربية، وستعمل على ملاحقة المثقفين بالمزيد واتخاذ الإجراءات ضدهم. هذه عقبة كبيرة لأنها تشكل الإرهاب العربي التقليدي ضد أبناء الأمة، لكن من الممكن الاستفادة من التقنية الحديثة للتواصل وتبادل الآراء والأفكار ومسودات البرامج. ومن الضروري أن يكون الهجوم على أجهزة الأمن العربية جزءا من البناء الثقافي وذلك للتقليل من سطوتها وتأثيرها في تمزيق الأمة وإضعافها. ولعل الترويج لفكرة أجهزة أمنية تدافع عن الأمة بدل دفاعها عن النظام السياسي سيكون مفيدا. من المهم أن يكون إلغاء الأجهزة الأمنية العربية بثوبها الحالي أحد أهم عناصر الدفاع عن حرية الإنسان العربي.
وسائل الإعلام
لا يمكن للمثقفين العرب أن يحركوا ثورة ثقافية عربية بدون تعاون وسائل الإعلام العربية. وسائل الإعلام تلعب دورا أساسيا ومحوريا في مختلف الساحات العالمية، وهي القادرة على إيصال المعلومات للناس وتوسيع مداركهم ورفع مستويات الوعي لديهم. ومن يعجز عن إيصال أفكاره وهمومه واهتماماته للناس إنماهو عاجز إعلاميا. ولهذا من المطلوب أن يركز المثقفون العرب جهودهم على وسائل الإعلام عساها تتعاون، وعسى بعضها أن يتبنى الفكرة ويدفع باتجاهها. هذا ناهيك عن أن العديد من الإعلاميين العرب ينتمون إلى فئة المثقفين، والعديد منهم ملتزمون بقضايا الأمة العربية ويشجعون نحو مواجهة التحديات.
لكن نأخذ بعين الاعتبار أن الإعلامي العربي مقموع وملاحق، وأجهزة الأمن تتابعه وتتخذ الإجراءات ضده، ومن المطلوب أن يكون الإعلامي واعيا للخطوط الحمراء التي تضعها المخابرات ليكون هو مخابرات على نفسه.ولهذا يعمل الإعلامي العربي في جو من الحيطة والحذر الشديدين حتى لا يقع في المحظور فيجد نفسه في الشارع بدون عمل، أو في أقبية التحقيق والتعذيب. دبت أجهزة الأمن الرعب في قلوب الإعلاميين إلا ما ندر.
والقمع لا يقتصر على الأجهزة الأمنية بل يمتد أحيانا إلى مالك الوسيلة الإعلامية ورئيس التحرير ومدير التحرير لأنهم لا يريدون تجاوز الخطوط الحمراء، وعادة يصبون غضبهم على الموظفين الذين يبحثون عن الحقيقة ويعملون على نشرها بسبب ما يمكن أن يترتب على ذلك من خسران في الإعلانات أو استدعاءات للتحقيق. مطلوب أن يبقى الكذب والتضليل سيّديْ النشاط الإعلامي. الحقيقة في بلادنا عدوة أناس كثيرين، وهم جاهزون دائما لتدمير من يعلنها على الناس. الحق مسكين في بلادنا العربية وأنصاره قلة قليلة ولولاه لما بقيت السجون عامرة بسكانها.
هناك قنوات عربية كثيرة ومتعددة ولها توجهات مختلفة. منها مكرس لمدح النظام الحاكم والثناء عليه، ومنها من هو مشغول بحكايات الجن والعفاريت وتفسير الأحلام وفتاوى عجيبة، ومنها من وجد أصلا للفساد والإفساد. ويبقى المهم ضرورة التركيز على وسائل الإعلام علها تساهم قي إحداث تغيير جوهري في الساحة العربية دون قتل وسفك دماء. الأمانة في أعناق المثقفين ثقيلة لكن حملها يستحق التضحية والعناء. مثقفو العرب لا يقلون شأنا عن مثقفي العالم، ولا عن مثقفي الثورة الفرنسية وثورات الدول الأوروبية عموما وأمريكا اللاتينية وآسيا، وهم قادرون على حمل هموم الأمة والسير بها نهوضا نحو الرقي الإنساني والحضاري.

1