أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟
الوطن هو ألا يحدث ذلك كله
في خضم الثورات المسماة ‘ثورات الربيع العربي’ التي بعد مضي ثلاث سنوات على قيامها ما زالت مريضة بالفوضى، سواء في البلاد التي استطاعت شعوبها إسقاط نظام الحكم الاستبدادي وتبديل الحاكم وحزبه بحاكم جديد أم في بلدي سوريا، التي ما زال شعبها الأبي يناضل باستبسال لحريةٍ يعدهُ بها بصيصَ أملٍ يقفُ في نهاية نفق طويل جداً.. نفق مظلم ومفخخ بجميع أنواع الأسلحة، غارق في بحرٍ من الدماء الوطنية شبابا ورجالاً.. أطفالاً ونساء.
والناتج المعترف به عبر منظمات حقوق الإنسان ما يفوق المئتي ألف شهيد بعد أن تعب عدادهم من إحصاء أعداد القتلى فتوقف عن الرصد والأداء، ما عدا ملايين النازحين المشردين والخراب في البنى التحتية والفوقية.
كلّ هذا كلام في كلام بالنسبة للعين التي ترى عن كثب وتعيش الحدث طلقة طلقة.. قذيفة قذيفة.. شهيداً شهيداً.. مجزرة مجرزة، فهي بكثافة دقتها أصوب بكثير من تلك العين البعيدة عن أرض المعركة التي تتابع الحدث من خلال شاشة متلفزة عبر قناة إخبارية ومراسل.. وتبدي الرأي عبر نوافذ الاتصال الاجتماعي، سواء في صالونات البيوت أو جلسات المقاهي أو غرف النت الحوارية والفيسبوك.. حيث يتم عبرها تناول قضية الوطن والحرية والديمقراطية والمستقبل القادم بحزن كبير وألم يشق عنان القلوب وبعض الدموع ومشاعر أخرى مرافقة.
الوطن يتحدث به وعنه جميع أبنائه، موالاة ومعارضة، من كل الطوائف والمذاهب والإثنيات. وكذلك القصف والمجازر والدماء المهدورة والجنازات والخطف والخطف المضاد، مضافاً إليها الأحاديث التي تتعلق بتوقف الأعمال والغلاء وأزمة النزوح وتعطل المدارس وانقطاع الكهرباء والماء، توقف الاتصالات بكافة أنواعها، انخفاض الليرة، كيفية تأمين المعيشة، وأحاديث أخرى عن الولادات الجديدة والأعراس، التي رغم كل الألم الذي يعيشه الشعب السوري اليوم إلا أنها لم تتوقف ولكن فقط ما عاد للفرح بها بهجته التي ألفها الناس في ما مضى.
كلنا نتفق على التفوه بهذه المصطلحات الهدّامة للحياة على أرض الوطن، نتفق على تمزيق الوطن بشعارات نرددها يومياً عشرات المرات بمنظار تختلف زاوية الرؤية في عدسته والتبجح في وصفها، هي الحرية والعدالة وحقوق الإنسان ومكافحة الاستبداد والإرهاب.
كلنا نبكي أباً..أماً.. ولداً.. بنتاً.. أخاً.. أختاً.. زوجاً.. زوجةً، كلنا نبكي جاراً .. صديقاً، كلنا نبكي الوطن.. وكلنا في يوم أو في لحظة ما سنكون عبر هذا القتال المدوي والنقمة العارمة في نفوسنا على الطرف الآخر، وبيقين المعاناة وكذا بيقين الرأي الموافق لنا.. شهداء لأجل الوطن.. كلنا يتمنى الشهادة لأجل الوطن أو الحياة وبناء الوطن. كلنا نعشقه حتى أننا على ما نبدو قد أصبنا بالتخمة الوطنية.. كلنا ندعي قولاً بأننا نريد وطناً واحداً يلمنا جميعاً، ولكن كيف السبيل وصولاً إليه بعد أن غرقت الأرض بالدماء، وكيف سنجرؤ على الادعاء بأنه لنا جميعاً؟ كيف لأي منّا أن يفكر بمسح جراح الوطن الذي يبكينا ويبكي عشقنا المجنون له وهو ينتحب بالقول ‘ومن العشق ما قتل’.
كيف سنعود بعد انتصار الوطن علينا.. على حقدنا وعلى استبدادنا بعشقه، إلى لملمة شملنا ونسيان الثأر، الثأر لوالد قتله جارنا أو أخ قتله صديقه، أو ابن جعلته قذيفة غبية أشلاء جسد.. أو أم لمحها قناص الحارة المجاورة المصاب بانعدام الضمير والحس الإنساني فسلط عليها فوهة قناصته ليرديها قتيلة.
هل فكر أحدٌ منّا جدياً بالسعي لإطلاق تعريف لوطن يجمعنا بعيداً عمن يعتقدون أنهم جهابذة الوطنية.. ينظّرون ويقودوننا وأفكارنا لمصالحهم السلطوية! هل يمكن لي أن أحلم باجتماعنا ـ نحن الثلاثة والعشرين مليون إنسان سوري الأرض والتاريخ ـ بكل طوائفنا ومذاهبنا في ساحات الوطن يداً بيد ننادي بإيمان مطلق ضد أي استبداد لأي فكر سلطوي يقودنا للاقتتال.. يجمعنا ضمير المحبة والإيمان بأن مستقبلنا واحد: كلنا للوطن..
أترانا ندرك حقاً ما هو الوطن؟!
سأحاول الاقتناع بصدق إحساس كنفاني عندما كتب: ‘الوطن ألا يحدث كلّ ذلك’. ولكن هل سأستطيع ألا أفكر في ما تحمله جملة (كل ذلك) من آلام؟
*كاتبة سورية
التخمه بهذه الحاله بالرغم من وجعها الا انها تخمه نبيلة ولو قتلتنا . يا صفيه ان لم نتآلم فلن نتعلم... وشكرا للكاتبة ماسه الموصلي