ولدتُ، وأعيش في جليل فلسطين، تعلمت العبرية في المدرسة، وعملت بين يهود من كل الأصناف، وأقرأ صحفا ومواقع عبرية، ولكنني حتى اللحظة لا أستطيع تحدّث العبرية بالطلاقة التي تحدّث فيها الداعشي الذي ظهر في وسائل الإعلام قبل أيام فهدّد اليهود، وقال لهم» افعلوا ما تشاؤون الآن، ولكن نعدكم سنأتي وننظف البلاد منكم»، وقد لفظ حرف الراء في البداية كما يلفظه العرب والروس، مشبعا (رررر)، ولكنه ما لبث أن عاد ليلفظه على طريقة النبي موسى بعدما لدغته الجمرة (غ غ غ اا) ولكن أخف من الفرنسية»..هذا الداعشي قد يكون يهوديا إسرئيليا، وقد يكون عربيا عميلا، والمهم أنه يدخل في صناعة الرعب التي يحبكها نتنياهو وعصابته ومخابراته، أولا، كي يؤكد المشترك بينه وبين الأنظمة التي تزعم محاربة الإرهاب إقليميا ودوليا، والأهم، كي يُدخل في روع اليهود والعالم بأنهم مهددون بالإبادة العرقية كما يزعم نتنياهو نفسه، فالخوف صناعة صهيونية بامتياز، هذا «الجنرال» الذي قيل فيه الكثير.
قبل أيام دخلتُ مضطرا في عمل إلى مركز تجاري بين عكا وحيفا، فجأة ركض أحدهم، وخلال دقيقة كان العشرات بل المئات يركضون من كل حدب وصوب، هبطوا على السلالم الحجرية، وعلى السلم الكهربائي فتعطل بسبب الكثرة، واصلوا الركض والهرولة والتهافت على بعضهم، من رجال وأطفال ونساء وعجائز يرتجفون وكلهم باتجاه المخرج الرئيسي! فجأة تحول الركض إلى الاتجاه المعاكس، بمجرد أن استدار أحدهم وعاد راكضا، ذهبوا شمالا ثم يمينا، وكل من يشاهد هذه الجموع ينضم ويركض، الحراس على المدخل، بأيديهم أسلحتهم وفي حالة ارتباك شديد، أحدهم يشهر مسدسه بيد مرتجفة، ولكنه لا يعرف أين يطلق النار وعلى من!! ويتساءل بهلع: أين المخرب أين المخرب! ولو كان نتنياهو هناك وأشار أحدهم عليه لخردقه بالرصاص.
مرت دقائق طويلة حتى هدأت عاصفة الهلع، وراح الجميع يتساءلون لماذا ركضوا؟ لماذا ركضنا! ماذا كان هناك؟ لم تكن هناك إجابة! وباعتقادي أن شابا شقيا قرر التسلية بأعصاب الناس، أو أن أحدهم أراد اصطناع فوضى لسبب ما، فركض وتبعه القطيع من ورائه، وحضرت قوة شرطية إضافية وسيارات إسعاف، وبعد دقائق كان الخبر في وسائل الإعلام.
مددت يدي إلى جيبي لأخرج علبة النظارة، ولكنني عدلت عن قراري بسرعة، أن تمد يدك إلى جيبك لتخرج منها علبة بهذا الحجم أمام هذا الجمع المرتعب! قد تُقتل أو تصاب، ثم يجتهد المفسرون بأنها كانت قنبلة نووية صغيرة، ويتورط معك مدرّس الفيزياء من الثانوية! فرُحتُ أبحلق في الأرقام والكلمات على الصراف الآلي من دون نظارات.
العيون، كل العيون تراقب كل الحركات وكل الأيدي، ماذا تحمل وماذا تُخرج من الجيوب! وعليك أن تجد اللحظة المناسبة لدس يدك في جيبك لتخرج بطاقة الائتمان بأصبعيك كي يراها المراقبون من بعيد، ويفهموا بأن هدفك شريف، وهو الصراف الآلي فقط، «هل فهمتم! إذا لا داعي للخوف»!! تسحب النظارة بدون تسرّع، تفتحها ببطء كما لو كانت تحوي دبلة الخطوبة، ترفعها ببطء وتضعها على عينيك وأنت شبه مطمئن بأن أحدا لن يطلق عليك النار، ليمسي بطلا ويحظى بمديح رئيس الأركان، مثلما حظي جنود بإطراء القيادة العسكرية يوم الثلاثاء الأخير، لاعتقالهم طالبا في القدس، إذ عثروا بحوزته على مسطرة خشبية حَدّد رأسها فصارت سلاحا خطيرا. هل تذكرون نزار قباني يوم قال للحكام العرب «شكرا لكم فبفضلكم صارت سيوفنا خشبا!» ها قد صارت مساطرنا الخشبية سيوفا، بفضل صناعة الرعب التي يتقنها نتنياهو بالذات، هذا وعلى إيقاع خطى المفتي الذي جعله نتنياهو (فيهرر) وقائدا أعلى لقوات (الفيرماخت)، يعيد ويردد بلا كلل: «الفلسطينيون يريدون إبادتنا، يريدون إبادة اليهود»!.
بلا شك أن 99٪ من العرب يشعرون بالقرف عندما يسمعونه أو يرونه وهو يتشدق بهذا الكلام، والحقيقة أن كثيرين من اليهود يشمئزون! ولكن الخطير هو الجمهور الواسع الذي يعيد كلامه، ليس لأنهم يؤمنون بصدقه، بل والأخطر لأن غالبية الجمهور تعتبر نفسها جزءا من ماكنة الإعلام الصهيونية، وترى بترديد ما يختلقه قائد القطيع مسؤولية وطنية، وهم بهذا يشبهون الحزب أو العصابة التي يعتمد دستورها على قانون «نفّذ ثم اعترض»، ثم يَصِمون المعترضين بالخيانة والتخنث وخدمة العدو.
معروف أن التخويف من الذئب لا بد منه لإبقاء القطيع أسير شعور المُهدّد بالفناء، ورغم هذا، فلا بد من أساس لهذا الخوف! فما هو السر! السر هو أن القطيع وبلا وعي منه يفترض أن الضحية لا بد أن تنتقم حين تتمكن من الانتقام، ولهذا فإن أفضل وسيلة هي التشكيك بها، والابتعاد عنها، وإبعادها، ومواصلة تأثيمها وتحميلها المسؤولية وتجريمها، وذلك لتبرير الجرائم غير القابلة للمحو التي ارتكبت وترتكب بحقها.
القطيع نفسه شريك بالجريمة، ولكنه مضطر بصورة متواصلة أن يبقى لاعبا لدور الضحية، لأنه فقط بهذه الطريقة يبرر جرائمه وجرائم من سبقوه بحق الفلسطينيين والعرب. لهذا يريحهم الحديث عن عدم وجود شريك لصنع السلام، لأن وجود شريك يعني أنسنة الضحية، وهذا ممنوع، لأنه يعني بداية اعتراف المجرم بجرائمه، وهذا يعني انهيار كل المشروع القائم من أساسه على إلباس الضحية جلد وصورة الوحش الكاسر الذي يستحق ما جرى ويجري له!
صناعة رعب متكاملة لا تتوقف، بل هي فخر الصناعة الصهيونية، من خطر إلقاء اليهود في البحر، إلى الكيميائي إلى النووي إلى الداعشي وعودة إلى النازي. المباراة بين نتنياهو وخصومه هي على من يُتقن هذه الصناعة أفضل من غيره!ّ وعندما تَتّهم أصواتٌ نتنياهو بالفشل، فهي تقصد فشله في مواصلة إظهار اليهود كضحايا، والفلسطينيين كمجرمين حتى بمساطر الخشب، والنظارات الطبية يريدون إبادة اليهود.
الرعب… فخر الصناعة الصهيونية!!
بقلم : سهيل كيوان ... 30.10.2015