قالت نيابة دولة الاحتلال الإسرائيلي أمس الأربعاء، في مواجهة التماس قدمه أهالي قرية عناتا الفلسطينية، التي صودر أكثر من ثلاثين ألف دونم من أراضيها لصالح مستوطنة (معاليه أدوميم) حول القدس، إن مصادرة أراضي الفلسطينيين تعود عليهم بالفائدة، وذلك لأن إسرائيل تقيم مستوطنات على هذه الأراضي المصادرة، وهذا يوفّر للفلسطينيين فرص عمل في البناء والمناطق الصناعية التي تقام في المستوطنات، وهكذا تكون مصادرة أراضيهم مصدر معيشة لهم وللمستوطنين! أما الأرض المصادرة التي لم تقم عليها الأبنية بعد، فتقول النيابة العامة إن هذا بسبب اعتداءات الفلسطينيين على المستوطنين، فلا يتركونهم يطوّرونها ويستثمرونها لصالح الجميع، وهكذا يصبح الفلسطيني مذنبا عندما لا يدع الاحتلال يصادر أرضه بهدوء، فيستحق القتل!
في المنطق الصهيوني منذ القدم، إسرائيل تقتل الفلسطيني مضطرة، غير مختارة، وقد عبّرت غولدا مئير عن هذا الموقف «الرحيم المرهف» منذ عقود، يوم قالت إنها تكره العرب لأنهم يرغمون جنودها المساكين على قتلهم!
بهذا المنطق يقتلون من يقاوم منطقهم، ثم تصادر جثته لأشهر، أو لسنوات، تصادر الجثة ويمنع إشراف طبيب فلسطيني أثناء تشريحها، فالكبد والكلى والقرنيات والقلب وربما الجلد، كلها تصبح ملكا للصالح العام، ولا ننسى أن هناك حاجة أيضا لطلاب الطب والأبحاث العلمية على جسد الإنسان، التي ستعود بالفائدة أولا وأخيرا على الفلسطينيين، وحتى على البشرية جمعاء.
دولة الاحتلال تمارس كل شيء حسب القانون! هكذا مثلا، فالجيش قد يقيم مناورات عسكرية بالذخيرة الحية على أراضي قرية عربية غير معترف بها، فيقصف أشجار الزيتون، وتسحق دباباته المزروعات ويقتل البهائم، ثم يترك وراءه هدايا متفجرة للناس، والمسؤولية تقع على عاتق أهل القرية الموجودين في حيز «غير قانوني».
هذا النموذج من المنطق،عرفه أهل قرية الحسينية البدوية المجاورة لقريتي، على قمة جبل الكمانة بين الجليلين الأعلى والأسفل، أهلها شقوا الصخور بعتاد بدائي بأذرعهم، وبنوا بعض المساكن الحجرية إلى جانب خيام الشّعر وبيوت التنك منذ العهد العثماني، بيوت أشبه ما تكون بقلاع صغيرة ربطت أصحابها بالمكان، يعودون إليها مهما ابتعدت رحلاتهم مع الحلال بحثا عن المرعى، كانوا يرسلون بعض أطفالهم للدراسة الابتدائية في القرى المجاورة، في مسيرات الوحول ومخاطر الوديان شتاءً، وتحت الشمس اللاهبة صيفا، ولمسافات بعيدة.
لم تكن قرية (الحسينية) في حالة حرب، وليس من بين كل سكانها مسلح واحد، كان هناك بشر بلون التراب وأشجار وحلال، بدون أي مقومات للحياة المدنية، تمسّكوا بوطنهم الصغير، ورغم قلتهم وضعفهم، فقد تعرضوا لقصف القذائف والرصاص والألغام على فترات متقاربة، كان جيش الاحتلال يجري مناوراته، غير آبه بحياة البشر، لأن وجودهم غير معترف به أصلا، إلى جانب صعوبة الاعتراف بهم كبشر!
عندما تبدأ المناورة، كانوا يختبئون في أعباب الشجر والبلان وأحضان الصخور الرحيمة، التي تمنحهم البرودة صيفا والدفء شتاء، وتحميهم من وحشية الإنسان، كانوا يزحفون زحفا إلى الوديان، ليمكثوا فيها أياما ريثما تهدأ المعركة، التي يشنها جيش الاحتلال على القرية في تدريباته العسكرية «القانونية».
لم تكن وقتها أسماء، مثل بيبي نتنياهو وليبرمان وبينيت وياعلون وغيرهم، لم يتحدث أحد عن دولة فاشية، إسرائيل كانت تعتبر في العالم دولة حديثة العهد، طرية العود، مدللة، حتى أن بعض اليسار اعتبرها اشتراكية بسبب إنشائها للتعاونيات (الكيبوتس)، بتجاهل تام أن هذه التعاونيات أقيمت على أراضي الفلسطينيين المطرودين بالقوة منها.
هذه المناورات العسكرية «البريئة»، ما زالت تجري وبشكل خاص في النقب، حيث عشرات القرى غير المعترف بها، إلى جانب المناورات والهدم، فقد حاصر الاحتلال الناس بالقوانين الضرائبية على قطعان الحلال، وتعامل معها كما لو كانت ثروات رأسمالية هائلة، بتجاهل تام لطبيعة حياة هؤلاء الناس وانشغال أسرهم كلها في رعاية القطيع، ومن تأخر في دفع الضرائب الباهظة صودر قطيعه، وأقاموا لها أسموها «دوريات خضراء» سمّمت المراعي، وأعدمت عشرات الآلاف من رؤوس الماشية، بحجة أنها رعت من أعشاب الدولة! أو بحجة وجود مخاطر صحية، الدوريات تعتقل الحلال وترغم صاحبه على دفع أجرة احتجازها وضيافتها، وقد تذبحها كلها في مسلخ «حسب القانون» ولا يعوّض أصحابها بشيء، أو يعطونهم من الجمل أذنه، وهذا أدى لإفلاس عائلات ودمارها، لم يكن وقتها ليبرمان ولا بينيت ولا ائتلافات يمينية متطرفة كالتي أقيمت اليوم، كان في الحكم ما يسمى اليوم (اليسار الصهيوني)! لم تكن مصطلحات الفاشية قد ظهرت على السطح، لم تكن حروب أهلية في الوطن العربي، ولا أصوليات ولا دواعش ولا حماس ولا جهاد يتخذونها شماعة يعلقون عليها جرائمهم بحق بشر ذنبهم أنهم متمسّكون بوطنهم!
كان العالم منشغلا في الحرب الباردة، ولم ينتبه أحد لما يجري على أرض فلسطين عموما، فما بالك بما يجري في قرى شبه معزولة عن العالم!
قبل أيام أهداني ابن إحدى هذه القرى، كتابا نثريا جميلا بعنوان (تحت النار-الحلم والرماد)، وهو الشاعر (حسين سواعد)، والذي يتذكر بعيني طفل صار كهلا مسيرة الآلام والأهوال التي عاشها أهل بلده (الحسينية) على مدار عقود لتحصيل اعتراف من السلطة بالقرية، وما زالت المعاناة مستمرة، لعشرات من شبيهاتها!
المنطق الصهيوني، الذي يحمّل الضحية مسؤولية قتلها وسرقة أرضها وجثتها، ما زال يعيشه الفلسطيني على جلده ودمه في كل أرض فلسطين، بل ويتفاقم يوما بعد يوم، أما من في الشتات، فلسان حالهم يقــــول، ليتـــــنا لم نطرد من وطننا وبقينا فيه، حتى وإن كان في ظلال الفاشية والمنطق الصهيوني المقلوب، فالعودة إلى التراب في تراب الوطن نعمة يتمناها كثيرون، كانت اختصاصا فلسطينيا، فصار للفلسطيني شركاء في هذه الأمنية، من الأشــــقاء السوريين والعراقيين والسودانيين والليبيين وغيرهم وغيرهم من أبناء شعوبنا العربية المقهورة المحكومة بالحديد والنار..ولكنها الثائرة التي حتما ستنتصر…
الضحية تتحمل مسؤولية قتلها والجثّة للصالح العام!!
بقلم : سهيل كيوان ... 26.05.2016