أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
وززززززززز…. !!
بقلم :  سهيل كيوان  ... 09.05.2019

مرة أخرى حدث هذا عندما كنت جالساً على شرفة بيتي، هاجمتني واحدة من أفراد العدو الأكثر شراسة والمسبب الأكبر للضحايا بين أبناء البشر.
سمعت صوتها كما لو كانت طائرة مغيرة هبطت على أرنبة أنفي، صفعتها، لكنها في أقل من عُشر ثانية كانت قد أقلعت، وبحِرفيّة كبيرة أعادت الإغارة هذه المرة على عنقي، ثم على يدي، صفعتها بقوة قادرة على سحق المئات من بنات وأبناء جنسها، ولكنها حلقت واقتربت من أذني كأنما لتسمعني أزيزها، ساخرة إذ نجحت باستفزاز رجل في مثل سني يزيد عنها وزناً بمليون مرة، وذلك أنني لم أفعل سوى أن صفعت نفسي.
هنالك حوالي ثلاثة آلاف وخمسمئة نوع من البعوض، ولكن التعميم ممنوع، فليس كل البعوض عدوانياً، بل إن أكثرية الأصناف مسالمة، تعيش في الغابات حيث الخضرة الدائمة والظل والمياه الراكدة، تتعايش بسلام مع الأحياء الأخرى، تعتاش على الرحيق، بل وتعتبر غذاء لكثير منها مثل الضفادع والعصافير والزواحف، ولكن هنالك جنس منها يدعى الأنوفوليس ويحوي 430 فصيلة، منها أربع فقط هي القادرة على نقل الملاريا للإنسان.
يعمل العلماء بجد في الحرب على البعوضة التي تسببت وما زالت المسبب الأكبر للضحايا بين البشر، أكثر من الحروب وحوادث الطرق والأمراض الأخرى، إذ تقتل الملاريا إنساناً حول العالم في كل ثلاثين ثانية، أكثر من تسعين بالمئة منهم في أفريقيا، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية الخامس والعشرين من نيسان/أبريل من كل عام يوم الملاريا العالمي.
استفزتني البعوضة، شتمت قومها وكل سلالاتها العدوانية، على كل حال، هي حرب مفتوحة بيننا وبين بني بعوض.
في هذه المناسبة أقول شكراً لأولئك الذين اكتشفوا أسباب الملاريا، ولأولئك الذين اخترعوا الأمصال الحيوية ضدها، وللباحثين الذين اكتشفوا أمصالاً كيميائية أقل تكلفة وما زالوا يعملون، لإنقاذ ملايين البشر.
نحن، بني البشر، لا نفطن لأولئك العظماء، معظمنا لا يعرف من هو ألكسندر فليمنغ الذي أنقذ ملايين الأرواح من خلال اكتشافه البنسلين، ولا مخترعي الأمصال ضد الكوليرا أو الجدري والملاريا وغيرها من أدوية ومستحضرات ومعدات نستعملها يومياً.
إلا أن الإنسان الذي يحارب البعوضة يسجل هدفاً ذاتياً قاتلاً ضد نفسه من خلال تسببه برفع حرارة الكرة الأرضية، وهذا يمنح البعوض حالة تفاؤلية بالمستقبل، بحيث ستفتح أمامه مناطق جديدة بمساحات ملايين الكيلومترات للتكاثر في ظروف رائعة، لأن البعوض لا يعيش في المناطق الباردة، وزيادة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد، ستؤدي بلا شك إلى انتعاش بين جماهير البعوض، ويضع البشرية كلها في مواجهة خطر جيوش البعوض الساعية للانتقام، خصوصاً أن بعض الأصناف منها تقاوم المصل، وتطوّر أجهزتها الدفاعية باستمرار، وقد يأتي يوم تحوِّل فيه المبيدات الكيماويات إلى غذاء مثل الرحيق تماماً، وهناك احتمال، وإن كان طفيفاً، بأن تكون نهاية البشرية على يد البعوض.
نحن، بني البشر، لا نفطن لأولئك العظماء، معظمنا لا يعرف من هو ألكسندر فليمنغ الذي أنقذ ملايين الأرواح من خلال اكتشافه البنسلين، ولا مخترعي الأمصال ضد الكوليرا أو الجدري والملاريا وغيرها من أدوية ومستحضرات ومعدات نستعملها يومياً.
تتعدد سبل الحرب على البعوضة، يجري رشها بالمبيدات وهي في مهدها في المستنقعات، أما البعوضة البالغة، التي تشن الغارات على البيوت بحثاً عن الدماء، فهنالك عدة وسائل منها ما هو بسيط، مثل الورقة الصفراء اللاصقة التي تجذب البعوضة لتلتصق بها لتلقى حتفها، وقد تبقى حيّة لبعض الوقت وتتعذب، إلا أن منظر الورقة وهي ممتلئة بمئات من البعوض ليس لطيفاً، وهنالك كبسولات توضع في أجهزة كهربائية بسيطة تصدر رائحة تطردها أو تسبب لها الدوخة والغثيان وحتى السقوط.
هنالك المواد الكيماوية الأكثر فعالية التي تُرشُ بها البيوت وحولها، وهذه تنتجها مصانع تشغّل ملايين العمال والموظفين والمختصين والخبراء والباحثين، ولهذه المصانع مخلّفات كيماوية يجب التخلص منها بحكمة، لأنها تؤثر على حيوات مخلوقات كثيرة مثل الأسماك والإنسان والنحل، وتقع على الإنسان مسؤولية حماية النحل منها، وإلا قد يفقد واحداً من أهم المخلوقات التي تسهم في غذائه الزراعي. ولهذا، فإن الحرب على البعوض بالكيماويات يجب أن تجري بحسابات دقيقة، بحيث لا تسبب أضراراً للنحل، كي لا نربح معركة ونخسر أخرى لا تقل أهمية.
أقل الطرق ضرراً في البيوت هي الأجهزة الكهربائية التي تجذبها بأشعتها الزرقاء، وتحرق جناحيها في صعقة، معظم هذه الأجهزة مستورد من الصين، خصوصاً في العقود الأخيرة، في بداية كل ربيع أقتني جهازاً جديداً لأضمن نوماً بدون إزعاج، أو جلسة مريحة مع أصدقاء في ساعات الليل بدون صفعات ذاتية متكررة لقتل بعوضة واحدة.
يعجبني صوت احتراق جناحيّ البعوضة أو الذبابة عند اقترابها من الجهاز الكهربائي، ززززز..ثم صمت، كذلك فإن لاحتراقها رائحة شواء خفيفة جداً، محبّبة لدى البعض.
عمر هذه الأجهــزة الكهربائية الصينية قصيرٌ جداً، من عشرين إلى أربعين يوماً، تقريباً مثل عمر البعوضة نفسها، ولي قصص معها.
لا أتهم الصينيين بالغش، لقد أثبتوا أنهم صادقون في تعاملهم التجاري، فهم يعرضون مختلف الأجهزة والبضائع، منها ما هو رخيص جداً وسريع العطب، ومنها ما هو متوسط الجودة، ومنها ما هو ممتاز، وتبقى المشكلة في التجّار الذين يقتنون العتاد الأرخص من الصين، ويبيعونه بثمن منتج أعلى جودةً، مثل التركي الجيّد أو الألماني الممتاز.
في عصر العولمة المتسارعة، صار بإمكانك دخول الدكاكين الإلكترونية بنفسك دونما حاجة إلى وسيط، تعاين البضاعة وتشتريها وأنت في فراشك، تطلبها وتدفع ثمنها، فتصلك من متجر ما في الصين إلى غرفة نومك إذا شئت، بإمكانك أن تشتري ببضعة دولارات وحتى سنتات، وبإمكانك أن تقتني بملايين الدولارات.
البضائع الصينية تغمر العالم، ولا أقول تغزو، لأن الغزو يوحي بالدخول عنوة رغم إرادة الآخرين، بينما بضائع الصين تدخل برقّة وسلاسة وطيب خاطر، وهي نعمة، ليس للشعوب الفقيرة فقط، بل ولشعوب الدول الصناعية الكبيرة، حتى أن الأمريكيين صاروا يقولون دون شعور بحياء أو نقص، «شــــكراً صين»، وذلك أنها توفر مختلف البضائع بأثمان رخيصة، ومنها مستحضرات وأجهزة الحرب على البعوض، إلا أن الرئيس الأمريكي الحسود الشّره النهم لم يعجبه هذا الحال، ويلوّح بفرض ضرائب جديدة عالية على بضائع الصين في محاولة لتعديل الميزان التجاري المائل لصالح الأمة العظيمة الصفراء، تلك قصة أخرى، أما وقد بدأت الحرب، فسأدخل إلى أحد المتاجر الإلكترونية لاقتناء جهاز من نوعية عالية لمواجهة هذا العدو الشّرس الذي يلاحقنا حتى في غرف نومنا.

1