شعرتُ أن جلوسي في مكاني قد طال، وتنقلاتي بين السّرير وطاولة العمل والمكتبة لا تكفي، بدأت أطرافي تَنْمُل، وصار عليّ أن أتحرّك، قبل أن أتحوّل إلى عمودٍ من ملحٍ أو سُكّرٍ أو نشارة خشب مثلاً.
خرجت إلى الشارع العام القريب من المنزل، وحسب توجيهات خبراء في الصحة والأمن وممثلي الجمهور، لا يُسمح بالابتعاد عن البيت أكثر من مئة متر، وذلك لمن ليس له عملٌ ضروري.
أهرول حتى أصل مَحَلاً مغلقاً للأراجيل والمعسّل وملحقاتها، وأرجع مكرّراً الشَّوط، علّني أعوّضُ توقفي شبه التام عن الحركة.
بعد المشي حوالي ربع ساعة، جيئة وذهاباً يتحسّن المِزاجُ، فالرياضة لها تأثير مدهشٌ في تحسينه، وأهلاً وسهلاً بهرمونات السعادة.
رأيته قادماً من الجهة المعاكسة، علاقتنا من النوع الذي لا تفطُنُ له إلا عندما تلتقيان. يسألني عن حالي وأموري فأردُّ عليه بسؤاله عن حاله وأموره، كلانا نردّد «الحمد لله، كل شيء تمام، الحمد لله»، ونمضي، كلٌ في طريقه وابتسامة قبول على وجهه.
صارت خطواتنا تقترب، وبدأت أفكر في كيفية تجنّب المصافحة بيننا من دون إحراج، والاكتفاء بالتحيّة والحفاظ على مسافة معقولة، لم أرتد الكمّامة اليوم، رغم أنني جرّبتها بالأمس واستحسنتها، فهي تقي من الغبار ودخان السيارات كذلك.
اقتربنا، بقيت بيننا بضع خطوات، وصرت أتباطأ استعداداً للّقاء العابر المألوف، الذي يُختصر بـ«كيف حالك؟ الحمد لله الله يسلّمك». وصلني فمدّ يده، وبما أننا لسنا أصدقاء فقد شعرت بالإحراج.
ممكن أن ترفض مصافحة صديقك، تقول له بصراحة، ابتعد عني مترين يا صديقي، يا ولد دعك من المصافحات، صديقك القريب يتفهمّك، ولا تشعر بإحراج معه، حتى لو قلت له انقلع لا أريد مصافحتك، ثم تخرج متراً من جيبك وتقيس المسافة بينكما، ثم تقول له، ابتعد خمسة عشر سنتمتراً أخرى.
أما هذا، فهو ليس صديقاً ولكنه ليس غريباً، لم أتقبّل ترك يده معلقة بيننا في الهواء، فمددت يدي برخاوة، فصافحني وضغط كفّي بقوة، ورغم محاولتي الثبات فقد جذبني إليه وضمّني، قلت بما يشبه الذهول محاولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه: بس بلاش بوس.. بس بلاش بوس، إلا أنه وكما لو كنا مشجِّعَيْن لفريق كرة قدم في مباراة حاسمة وسجلّ فريقنا هدف النصر في الثواني الأخيرة من المباراة، طبعها على خدّي، لم أشعر بشراهة قبلة كهذه منذ سنين، فقد أطبقت شفتاه على وجنتي مع مصدر تسميتها صوت البوسة: بْسِئ، ثم أتبعها بضحكة بلهاء وسؤال استنكاري: إن شاء الله خايف من الكرونة؟
بما أن السهم قد انطلقت، وسبق السيف العذل، وقضي الأمر، قلت: لا أبداً، ليست قضية خوف يا عزيزي، ولكن الحذّر مطلوب، لسنا مضطرين للدخول في تجربة ارتفاع حرارة الجسم حتى الغليان ثم التبخّر، ولست متلهِّفاً إلى صداع شديد وهذيان وسعال جاف وتراخٍ في العضلات وفقدٍ لنكهة القهوة ورائحتها، يعني أنت سيد الفاهمين، ثم أن القضية ليست متعلقة بنا وحدنا، معنا يعيش شركاء وعلينا مسؤوليات.
قهقه- يا رجل، نحن ما زلنا شباباً، وهذا الفيروس لا يقترب من الشبان، ثم أنني من مؤيّدي نظرية مناعة القطيع.
عن أي شباب يتحدث هذا وشعره مصبوغ ويطلُّ من فوديه بياض كأنه مُخِبر يشي بالحقيقة؟ قلت، لسنا أكثر شباباً من بوريس جونسون، وها هو في العناية المكثفة، وما فهمته أنه ليس كسولاً ويمارس الرياضة، هذا يعني أن الفيروس لا يميّز بين جسمٍ قويٍ وضعيف، وحيث يجد فرصته ينقضّ.
-المهم أنت كيف أحوالك؟
-أنا ممتاز الحمد لله، رددتُ، ولكنني صرتُ أفكّر بالاستعجال في دخول البيت لغسل اللعاب، وأشعر بأن أخطبوطاً لزجاً التصق في وجهي. لم يكن هناك مفر من دعوته، لقربنا من البيت: طيّب تفضّل اشرب قهوة؟؟
-لا لا، أنا مستعجل، بالأفراح إن شاء الله.
الحمد لله أنه لم يقبل دعوتي، استدرت عائداً إلى البيت، وفوراً إلى المغسلة والصابون وغسلت وجهي..يِخرِبْ بيتك، من أين أتتك هذه الحميمية المفاجئة؟ غسلت وجهي جيّداً، وخلال هذا كانت نظرته وكفّه و«بَسْبأة» قُبلته، وكلماته تتفاعل في ذهني. مناعةُ القطيع؟ «شعبٌ واحد مرض واحد؟!» لا ليست كل الأجساد سواء، هناك ضعيف وقوي، هناك مريض وبريء، هنالك جينات تختلف عن أخرى.
هل قبّلني في لقاءات سابقة؟ حماسُه فاق مستوى الودّ الذي نحفظه لبعضنا بكثير، هل كان تصرفه ناتجاً عن توتّر أراد تبديده؟ فجأة فكّرت.. هل هو مريض ويريد نشر هذا بين الناس؟ هل قبّل غيري في طريقه؟ لقد نُشرت أشرطة فيديو لأحدهم وهو يلوّث بلعابه شاشة صرّافٍ آلي، وآخر يلوث أيدي العربات في أحد المراكز التجارية.
آه… إنه الشيطان الآن، شيطاني الذي يزيّن لي أموراً لم تخطر لي حتى قبل لحظات، هل كان جونسون يعرف أنه مصاب من قبل الإعلان الرسمي عن مرضه؟ هل أطلق نظرية مناعة القطيع كي نكون «كلنا في الهوا سوا»؟ هل مصافحته لغيره بحماس أمام الكاميرات كانت تهدف إلى التشويش على حقيقة أنه مريض، وأنه هو الذي ربما نقل الفيروس إلى غيره، وليس العكس، هل كان واثقاً بمناعته أم أنه كان يريد الصراخ، أنقذوني فحرارتي مرتفعة وحلقي ملتهب.
القطيع يمقت التفكير، القطيع يردد نفس الكلمات والنغمات، مثل الأسطوانة حتى لو شغلتها ألف ألف مرة. القطيع، ينبذ الغرباء ويكفّر المختلفين، يهزأ من أذواق الآخرين وعاداتهم وأشكالهم، لا يخالف القطيع إلا جرذ، قملة يجب سحقها، فيروس يجب تطهير الأرض منه، يجب القضاء عليه قبل أن ينقل المرض إلى غيره.
لكن يجب الاعتراف بأن القطيع قوة لا يستهان بها، انظروا قطيع الثيران كيف يواجه الأسود، انظروا قطيع الضباع كيف يتغلب على الفهد بل ويفترسه، القطيع يرفع جداراً فولاذياً مكهرباً من حوله، واختراقه ليس سهلاً، بل ويحتاج إلى تضحيات، ولكن نقطة ضعف القطيع بأنّه لا يُصلِح نفسَه، فهو يخشى كلمة أو نكتة، حتى يصدأ ويتآكل من داخله، إنه يبدو قوياً ومتماسكاً منيعاً مثـــــل قلعة، وفجأة ينهار في دفعة واحدة، في انفجار هائل يصم الآذان، ويتفتت كما لو كان تمثالاً زجاجياً مطلياً بألوان أخفت حقيقته الهشّة إلى درجة تدعو إلى الدهشة.
بلاش بوس بلاش بوس!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.04.2020