حادثة مقتل أستاذ ثانويّة فرنسي ذبحاً على يد شاب مسلم متديّن، ومجموع ردود الأفعال، التي تردد صداها في وسائل الإعلام – في فرنسا ذاتها رسمياً وبين المجموعات العرقيّة والدينيّة التي تقطنها، كما في الغرب عموماً وبالطبع عبر العالم الإسلاميّ من بروناي إلى المغرب – استعادت إلى الأضواء مجدداً مسألة تزايد رهاب الإسلام (إسلام – فوبيا) في جمهوريّة الأنوار، خلال العقدين الأخيرين، والتي استبدلت بشكل غرائبي متراكم تلك النماذج الكلاسيكيّة للعنصرية الفرنسيّة المشهورة منذ العصور الإمبرياليّة لتصبح اليوم غلافاً مثيراً لأيديولوجية عنصريّة ما بعد حداثة النّخبة الفرنسيّة وحكماً الدّولة التي تهيمن عليها.
ورغم المحاولات الحثيثة التي يبذلها الفريق الليبراليّ الحاكم بقيادة الرئيس ماكرون وجوقة الشوفينيين الفاشيين في التلفزيونات والصحافة والأكاديميات لإدراج مسألة نشر الرسومات المسيئة لنبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) في الإطار البرّاق لحريّة التعبير والرأي والاعتقاد – وهي قيم تفاخر بها فرنسا العالم، لكنّها لا تُستدعى إلإ ضدّ المسلمين، بينما يعاقب بشدّة مثلاً من يشكك بتاريخيّة «الهولوكوست» أو يدين الصهيونيّة، فإن الحادثة الأخيرة لا يمكن في أي حال قراءتها بمعزل عن مجمل السّياق الكليّ لعلاقة الجمهوريّة بالإسلام، أقلّه في طورها الجديد منذ بداية الألفيّة الثالثة.
لا يمتلك المراقب لتطورات الحياة في فرنسا إلا أن يلحظ تلاقي جهات عدّة من مختلف ألوان الطيف في المشهد السياسي لهذا البلد ومنذ بعض الوقت على وصم جماعيّ للمسلمين كتلة واحدة بوصفهم مصدر تهديد حضاري وجوديّ للغرب وقيمه وثقافته وأسلوب حياته.
وقد تسربت هذه السرديّة عن مكوّن أساس من الواقع الفرنسي (حوالي 5 ملايين نسمة) رويداً رويداً على أيدي السياسيين اليمينيين الشعبويين والإعلاميين المنحرفين المرتزقة إلى سياسات رسميّة عنصرية ممنهجة تتفوق في مقدار العبث الذي تحمله على أسوأ منتجات الفاشية الأوروبيّة قبل الحرب العالميّة الثانية، توجه كقوّة عمياء ضد الآخر – المسلم –المختلف، ليس فقط لناحية موروثه الثقافي أو عقيدته الدينيّة، بل تمددت لتشمل بلد المنشأ (العربي المسيحي كما المسلم) أو نمط اللباس، أو النظام الغذائي أو لون البشرة أو حتى الحي السكنيّ إلى غيرها من الدّلالات على التناقض مع الفرنسي الأبيض – النموذج -، والتي تؤهل أصحابها للتصنيف تحت نمط من السكان اللامنتمين والذين هم لذلك بحاجة إلى رصد ومتابعة وقائيّة وتدخلات حاسمة في شؤونهم حتى أشدّها تفاهة.
فتّش عن الأمريكي، و»الحرب على الإرهاب»
تفشّي ظاهرة «الإسلام – فوبيا» ونشرها الممنهج وتبنيها كسياسات رسميّة ليس مقتصراً بالطبع على الفرنسيّ حصراً، بل هي ظاهرة عمت العالم الغربيّ من أقصاه إلى أقصاه.
في بريطانيا مثلاً، تشكلت في الكواليس آلية معقّدة للتعامل مع هذا «العدوّ الداخلي» المتخيّل تمددت خلال كل المجالات العامة تقريباً، من التعليم والصحة إلى الشرطة ودوائر الهجرة وإدارات المنافذ، ودون شك مختلف أجهزة أمن الدولة.
البرّ الأوروبيّ أيضا، يعجّ بالمبادرات المعادية للمسلمين التي يتولى الإعلام المتواطىء الترويج لها عبر تضخيم «الخطر الآتي من الجنوب» نحو القلعة الأوروبية، ولا يجد سياسيّو تيارات اليمين المتطرّف الديماغوجيّون أفضل منها أدوات لتسويق بضائعهم المسمومة في المجر والنمسا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا والدول الاسكندنافيّة، إضافة إلى فرنسا.
والواقع أنّه يمكن الزّعم أن تضّخم «الإسلام – فوبيا» والدّفع بها إلى مقدّمة المسرح الاجتماعي – السياسي تزامنت وبشكل يبدو مدعاة للارتياب مع البدعة الأمريكيّة المسماة «الحرب على الإرهاب» التي أطلقها البوشيّون (نسبة إلى الرئيس جورج دبليو بوش) بعد حادثة 11 سبتمبر/أيلول والتحضير لغزو العراق، وتسارعت تحت مظلتها استراتيجيات مكافحة التّطرف التي استهدفت المسلمين في شيطنة لا هوادة فيها استمّرت في ظل الإدارات المتعاقبة، توازياً مع تكثيف وانتشار العمليات العسكرية الأمريكية في مناطق عربيّة وإسلاميّة وما نتج عنها من موجات لاجئين وهجرة، ووصلت إلى مطلق الهستيريا في عهد جنون الاستعراض الترامبي (نسبة إلى الرئيس دونالد ترامب).
في فرنسا التي ومنذ ثورة الباستيل عام 1789 وتأسيس الجمهوريّة قدّمت نفسها – زوراً – في موضع التنوير والتحديث والقيم الإنسانيّة والمواطنة، اتخذ إضفاء الطابع العنصري على المسلمين ورسمهم نقيضاً مجسّداً للقيم والحساسيات الوطنية الفرنسيّة أشكالاً خبيثة وسخيفة بشكل خاص تحوّلت في تدحرجها وتراكمها إلى مهرجان مستمر للعبث الأيديولوجي العموميّ يتنافس على مسرحه الجميع – تقريباً مع استثناءات نادرة تؤكد القاعدة: رؤساء جمهوريّة، رجال دولة وموظفون رسميّون، أحزاب وناشطون، مشاهير مهووسون، إعلاميّون متصهينون، عمداء مدن، رجال شرطة واستخبارات، أكاديميّون ومثقفون مرتزقة، فاشيست ويساريّون، أفرغوا طاقتهم على مدى السنوات الأخيرة لتهميش وعزل ومعاقبة أقليّة وازنة من مواطنيهم واللاجئين – ومنهم لسخرية الأقدار أغلبيّة قاتل آباؤها من أجل فرنسا ضدّ أوطانهم الأم المستعمرات ما وراء البحار جنوداً وعمالا وجواسيس ومترجمين – كما ضحايا وفارون من حروب الإمبراطوريّة الفرنسيّة البائدة ومساهماتها الأثيرة الأخيرة في الحروب الأمريكيّة على غير ما بلد عربي وأفريقي ومسلم من أفغانستان إلى ليبيا، ومن مالي إلى الجزائر.
هذا التشكل الجديد للعنصريّة الفرنسيّة خرج إلى العلن مقونناً في إجراءات رسميّة بداية من العام 2004 عندما منعت الفتيات الصغيرات في كل المناطق من ارتداء الحجاب داخل المدارس، ثم حظرت عام 2011 النقاب في الأماكن العامة (رغم أن عدد المتنقبات في فرنسا وقتها لم يزد عن 357 امرأة، وفق الإحصاءات الرسميّة وكثيرات منهن فرنسيّات من ذوات البشرة البيضاء).
وشهد العام نفسه منع المصلين المسلمين من الصلاة في الشوارع قبل أن تصبح الشواطىء وحمامات السباحة محور ذعر وطني شامل بعدما ترك المرشحان الرئيسيان في حملة الانتخابات الرئاسية لعام 2012 (فرانسوا هولاند – يسار، ونيكولا ساركوزي – يمين) كل المصاعب البنيوية المستعصية اجتماعياً واقتصاديّاً لإثارة عاصفة هوجاء حول قرار حمام سباحة بلدي في مدينة ليل بالسماح لمجموعة من النساء ذوات الوزن الزائد (وبعضهن مسلمات) بعقد صف رياضية مائيّة منفصل، وأعلن ساركوزي بصوت عال أن أولئك الذين يدعون إلى هذا التعديل لجداول السباحة إنما يعتدون على مبدأ المساواة – المقدّس في أساطير كهنوت النظام الفرنسي – و«لا مكان لهم على أراضي الجمهورية».
ولاحقاً في صيف عام 2016 عندما أصبحت الشواطئ الفرنسيّة الممتدة مناطق «مغلقة» عملياً على النساء المسلمات إن هنّ يخترن إبقاء أجسادهن مغطاة عند السباحة والتمنع عن مباركة الشمس للتعرّي.
وفرض رؤساء بلديات موتورون حظراً على ارتداء البوركيني، وهو شكل جديد من ملابس السباحة المصممة للنساء المحجبات، وعلى أشكال أخرى من الملابس غير المناسبة للبحر وتم تغريم العشرات من قبل رجال الشرطة الناهين عن المنكر الذين تركوا كل الجرائم، التي يغرق بها المجتمع واندفعوا بحماسة حملة صليبيّة قديمة على تجريدهن من القمصان ذات الأكمام الطويلة قبل أن يلغي مجلس الدّولة الفرنسي الحظر بعد الضغوط، ليلتزم به رؤساء البلديات على مضض.
في الحادثة الأخيرة المدانة بشدة لذبح الأستاذ الفرنسي – والتي تعكس همجيّة غير مقبولة في مجتمعات بشريّة مستقرّة – كما يُدان في الوقت ذاته أيّ احتفاء بأعمال الكاريكاتير المسيئة لمشاعر المسلمين، والمسّ برموزهم الدينية وعقائدهم فإن وضع الأشياء في سياقها التاريخي والفكري والاجتماعي يُظهر أن النخب الغربية في دول الشمال على اختلاف سياساتها الأيديولوجيّة تشترك معاً بالضيق والتأزّم من صعود دور دول الجنوب، وترى في المسلمين الهدف الأسهل بحكم الجوار التاريخي والجغرافي معاً في صيغة «عدو مثالي» يمكن استنفار عصبيّة قوميّة – دينيّة لذوي البشرة البيضاء (عمّالاً وأصحاب أعمال) ضدّه، لا سيّما بعد أن طال تململ الطبقة الأدنى مهنياً في فرنسا معبراً عنه بحراك السترات الصفراء.
وما لم يقرأ الفرنسيون والغرب هذه الحادثة بوعي وتجرّد ويدينون الأطراف التي تدفع بهم لاستقطابات جانبيّة، فإن أوطانهم على موعد مع المزيد من النزاعات (داخليّة) وأعمال العنف المجاني، ولن يبخل سياسيوها ببعض الآلاف من القتلى والمتألمين إذا كان السعر الذي يتوجب عليهم دفعه للاستمرار في امتلاك مناصب السلطة ومفاتيح الهيمنة.
لمصلحة مَن تعميق «الإسلام – فوبيا»؟ عن مسرح العبث الأيديولوجيّ العموميّ في جمهوريّة الأنوار!!
بقلم : ندى حطيط ... 30.10.2020