أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
بريطانيا العظمى نصَبَتْ على جدّي!
بقلم : سهيل كيوان ... 30.12.2021

أقوم بشكل تلقائي بزيارة إلى الماضي كل بضع سنوات، وذلك عبر مراجعة ألبومات صُوَر، وإعادة النظر في بعض الأوراق، والاطمئنان إلى وجود بعضها.
هنالك أوراق لا حاجة لها وانتهى تاريخها، ورغم ذلك أحتفظ بها، مثل وصولات قديمة، وأصول دفاتر شيكات صُرفت منذ سنين، ربما بسبب تجارب سابقة، إذ تظهر لك فجأة على غير توقّع مشكلة تحتاج فيها إلى أوراق قديمة كي تثبت فيها موقفك وحقّك.
بعض هذه الأوراق عبارة عن أمانة أعطاني إياها خالي ربما قبل ثلاثة عقود، بعضُها صور قديمة بالأبيض والأسود، وبعضها وثائق قديمة وسندات رسمية من حكومة فلسطين الانتدابية، وهي عبارة عن قرض جَبَته حكومة فلسطين من مواطنيها لدعم المجهود الحربي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ومع اقتراب نهايتها.
وهي بقيمة عشرين جنيهاً فلسطينياً والذي كان يساوي الجنيه الإسترليني في حينه بالضبط.
هذه السندات ضريبة إجبارية دفعها جدِّي لأمي عام 1944 وعليها توقيعه، كان يفترض أن يبدأ في صرفها بالتدريج ابتداء من العام 1947 حتى العام 1965 مع الفائدة المسجّلة مع هذه السندات بمئات الملاليم! هذه الأوراق البسيطة المتآكلة ذات اللون الباهت تمنحني قوة كبيرة بقيمتها المعنوية، عندما ألمسها أشعر بالدفء، فهي أوراق أمسكَ بها جَدّي ووقّع عليها، قبل النَّكبة التي كانت تتربص به وبأسرته من وراء الباب.
كانت والدتي طفلة حين وقّع والدها على هذه السَّندات، وكان يحسب حساباته كتاجر، فقد كانت له بقالة في عكا بمحاذاة جامع الجزّار، إذ أقام في عكا بضع سنوات، كان يستأجرها من الوقف الإسلامي علماً أنَّه من قرية شَعَب.
كان جدّي في أواخر العقد الرابع من عمره، وكان يحسب كيف سيصرف بعد سنوات ما اعتبره ادخاراً، وكان على ثقة كبيرة بأوراقه، فهي بكفالة دولة عظمى، لا تغيب عنها الشَّمْس.
هذه السّندات هي صورة مصغرة لحياة عاديّة لشعب كان يعيش في وطنه، تحاول الرواية الصهيونية حجبها كي تبدو فلسطين شبه خالية من الحياة، باستثناء المناطق ذات السَّيطرة اليهودية مثل تل أبيب، والتعاونيات الاشتراكية الجديدة التي أسَّس معظمها المهاجرون من شرق أوروبا، أما العرب فليسوا سوى رعاة وبدو رُحّل.
ومثلما دفع جدِّي ضريبة حرب، دفعها والدي من خلال قرض عن حرب 1973، بينما دفع جيلي سندات حرب العام 1982، التي انتهت بمجزرة العصر في صبرا وشاتيلا.
وأعتقد أن الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد ستدفع سندات حروب من هذا النوع، ربما يكون أحدها قرض الحرب على إيران، أو على سوريا، أو على غزة ولبنان، ولا أستثني أية دولة عربية في العقود القادمة من سندات الحرب بما فيها مصر والأردن، لأن الحروب لن تنتهي في منطقتنا إلى يوم القيامة، إذا رجعنا إلى تاريخ المنطقة منذ عشرات القرون سنجد أن جميع الأجيال دفعت ضريبة حرب بشكل أو بآخر، وهذا سوف يستمر إلى الأبد، وهذا سبب للتفاؤل وليس إلى التشاؤم كما يبدو للوهلة الأولى، لأنه يثبت النظريّة البسيطة بأنه «لا الماشي بظل ماشي ولا الراكب بظل راكب»، «وتلك الأيام نداولها بين الناس»،»ولو دامت لغيرك لما وصلتك».
أذكر جدّي عابساً، ومعه كل الحق في هذا، فقد طُرد من بقالته في عكا ونُهبت، وصودر الوقف الإسلامي واستبيح، ثم طُرد من بيته في قرية شعب مع جميع أبناء أسرته بقوّة السِّلاح، ومُنع مثل بقية أهل قريته، من أخذ أي شيء من أثاث بيوتهم، حتى عندما أخذَت والدتي مرآة على رأسها، لحق بها موظف لدى حارس أملاك الغائبين على حصانه، واستعاد المرآة عن رأسها.
خسِر بيته وعشرات الدونمات من الأرض، منها ما كان مزروعاً بأشجار الزيتون وما زال، تؤجِّره دائرة أملاك الغائبين حتى يومنا هذا لأيٍ كان، إلا لأصحابه أو لورثتهم.
لجأ جدّي على بعد خمسة كيلومترات فقط في بلدة مجد الكروم، حيث عاش كلاجئ حتى آخر أيامه كحاضر غائب، وهو قانون لا يوجد له مثيل في التاريخ البشري إلا في قصص الجن وقُبعة الإخفاء، أن تكون حاضراً وفي الوقت ذاته أن تعاملَ كغائب.
إضافة إلى سندات القروض لبريطانيا العظمى، يوجد وصولات دفع ضرائب على الأرض لحكومة فلسطين الانتدابية، ولكل قطعة أرض اسمها الخاص وضريبتها، قد تكون بالملاليم أو بالقروش.
بعض الأوراق عبارة عن حُجَجِ بيع وشِراء مع أسماء وتوقيعات وبصمات من نفّذوا الصفقة والشُّهود، ويبدو أن جدّي الذي مُنع من أخذ أي قطعة أثاث من بيته، أخذ معه الأوراق التي اعتقد أنها ستكون وثيقة دامغة بيده في يوم من الأيام، خصوصاً أنها أوراق حكومة فلسطين التي تحكمها بريطانيا العظمى وليست من توقيع نصّاب عابر.
لا نحتاج إلى تلسكوب جيمس ويب، كي نرى ما كانت عليه الحياة قبل نكبتنا عام 1948، فالشواهد ما زالت حيّة وتصرخ بين أيدينا وتحت أبصارنا، وما حدث عام النّكبة الأولى ما زال مستمراً ويتكرَّر يومياً في صور شتى.
خلال كتابتي لهذا المقال، نُشر بيان موقّع من وجهاء قريتين في النقب، هما قريتا رخمة والبقار، وقّعه الشيخان هليِّل أبو جليدان وعطا الله الصغايرة، يعلنان رفضهما لمخطط التّهجير والترحيل لقريتيهما، ويناشدان أصحاب الضمير الوقوف إلى جانب سكان القريتين، إذ تعمل السلطات على ترحيلهم إلى منطقة عبده.
في الوقت ذاته، ولليوم الثالث على التوالي، تعمل قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصة في تجريف أراضٍ ومحاصيل زراعية تابعة لعشيرة الأطرش في قرية الرويّس في النقب، وتعتقل وتعتدي بالضرب على كل من يحاول الوقوف في وجهها، النَّكبة مستمرة.
أتساءل أحياناً، هل لهذه الأوراق التي تركها جدِّي قيمة أمام القوة الغاشمة التي ما زالت تقتلع شعباً من تراب وطنه أمام بصر وسمع العالم؟
المملكة المتحدة لم تكن حيادية، بل شريكة بما حدث لشعبي ولجدّي ولوالدتي وأسرتهما الصغيرة والكبيرة وما زال يحدث، وأعتبر أن بريطانيا نصبَت على جدّي وأخذت منه قرضاً لحربها ولم تُعده، بل غدرَت به وبمئات الآلاف من أبناء شعبي بِخِسَّة ولؤم مثل أي نصّاب محترف، وسلّمت بقالته وبيته وأرضه على طبق من ذهب لحركة عنصرية إجرامية مع سبق الإصرار والترصّد.

1