رغم المآسي التي عرف العالم منها الكثير، وأكثر منها ما لم يره ولن يراه، رغم المشاهد المروّعة التي لن تمّحي من أذهان الناس، والجرح العميق في الجسد الفلسطيني والعربي والإنساني، فقد انفجرت فرحة مكبوتة في شوارع وبيوت وخرابات وخيام أهالي قطاع غزة، عندما تناقلت القنوات الإخبارية خبرا أفاد بأنّ حماس وافقت على صفقة وقف إطلاق النار، التي جرت بوساطة مصرية قطرية ورعاية أمريكية.
خرج الناس من الخيام، ومن مراكز الإيواء والشقق، إلى الشوارع للاحتفال بالهتافات والغناء وأبواق السيارات والدراجات.. هدنة، هدنة.. هدنة. وكما كان متوقّعاً رفض كابينيت الحرب الإسرائيلي الموافقة على الصفقة، فالأهداف التي وضعها نصب عينيه لم تنته بعد، ولن تنتهي، فهناك الكثير جداً من الموانع التي تعيق موافقة حكومة الاحتلال على وقف إطلاق النار. وقف إطلاق النار، يعني فشل مشروع إرغام مئات آلاف الفلسطينيين على هجر وطنهم إلى غير رجعة، رغم كل الجرائم غير المسبوقة التي ارتكبت خلال الأشهر السبعة الأخيرة.. يعني فشل حرب الإبادة في تحقيق أهم أهدافها.. هناك قيادات من حركة حماس والجهاد وغيرها ما زالت حية وقادرة على إعادة التنظيم، رغم الخسائر الكبيرة التي منيت بها.
أمريكا الجهة الوحيدة القادرة على الضغط الفعال والفوري لا تفعل هذا، وكل ما تفعله هو رجاء وأمل بأن لا تكون هناك خروقات للقوانين الدولية، وخسائر كبيرة في المدنيين، وهي قوانين لا تعترف بها أمريكا أصلا، وتتعطل المعايير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فهي تتسامح مع إسرائيل أكثر مما تتسامح مع نفسها في ما يسمى القوانين الدولية، أما التلويح بوقف إمداد جيش الاحتلال بصنف ما من الذخائر الفتّاكة، التي دمّرت معظم المباني في قطاع غزة، فهو يشبه تهديد الأم لابنها المشاغب بحرمانه من تناول البوظة بعد الوجبة الدّسمة. المواقف العربية التي يمكن لها أن تؤثّر بصورة مباشرة مثل الأردن ومصر، هي مواقف هلامية وتصل إلى درجة التواطؤ، وليس فيها ما يجعل الشارع الإسرائيلي يقلق على ما أنجزه السابقون من السياسة من اتفاقات سلام، تجعله يمارس ضغطا على حكومته الفاشية، بل إن مواقف العرب، خصوصا مصر والأردن، مشجّعة إلى حد كبير للاستمرار في الحرب، لسحق فكرة المقاومة وليس المقاومة فقط، حتى المساعدات الأردنية المصرية والعربية الأخرى، التي تجري بالتنسيق مع الاحتلال بهدف حفظ ماء الوجه، جرى تعطيلها من خلال اعتراض شاحنات المساعدة من قبل جمهور المتطرفين الذين تصدوا لها ورموا محتوياتها من طحين وغيره في الشوارع. القبول بوقف إطلاق للنار وصفقة وافقت عليها حماس، يعني أنّ حماس استطاعت البقاء في السُّلطة وفي إدارة قطاع غزة، رغم مرور سبعة أشهر على أشرس الحروب وأطولها، حلم خلالها الاحتلال باختفائها تماماً. وقف إطلاق النار يعني عودة شرطة حماس إلى كل موطئ قدم في قطاع غزة للقيام بواجبها تجاه المواطنين، وهذا يعني اندحار اللصوص وعصابات التّخريب التي رافقت الاحتلال، لتضيف إلى معاناة الناس معاناة ونشر الفوضى. القبول بالصفقة يعني عودة النازحين إلى المناطق التي هجّروا منها، وفشل مشروع التهجير. وهذا يعني أيضاً أنّ مشاركة حزب الله على الجبهة الشمالية في الضغط، أو مساهمته في شلّ منطقة الشّمال، وتهجير عشرات آلاف المستوطنين والخسائر المادية الهائلة التي سبّبها، إضافة للخسائر البشرية، تعني أنّ الحزب لعب دوراً مهمّا في الضغط على الاحتلال، وهو ما لم يفعله الآخرون من العرب، رغم قدراتهم الأكبر بكثير، وهذا يعني ترسيخ حزب الله كقوة عسكرية فاعلة تضاهي قوة دولة إقليمية كبيرة في المجال العسكري. وقف إطلاق نار يعني أنّ موقف اليمن بقيادته المنسّقة مع إيران وحصاره البحري، ومساهمته في الضغط على الاحتلال وحلفائه أثبت نجاعته، وأنّه لولا الحماية الأمريكية الغربية – العربية لإسرائيل، لكان وضعها أسوأ بكثير، وهذا يعني أنّها أضعف بكثير مما رسمت صورة لنفسها أمام المنطقة والعالم، وهذا يعني افتضاح فكرة أن إسرائيل قادرة على محاربة العرب كلهم مجتمعين.
الصفقة ستُعتبر محليا وعربيا وعالميا نكسة إسرائيلية أمريكية، إذ أنها رغم الدعم اللامحدود في المال والسّلاح والرجال لم تحقق أهدافها. وقف إطلاق النار يعني قوة وتأثير الرأي العام الدولي الذي انقلب في أكثره ضد الاحتلال، وأن هنالك من يستطيع أن يلعب دورا متمرّداً على رغبة الأنظمة الرسمية، وأظهرته قوة الطلاب الجامعيين وتأثيرهم على سياسة بلدانهم، خصوصاً ما ظهر في أمريكا، يضاف إلى هذا فشل نتنياهو في جرّ إيران إلى الحرب في مواجهة مع أمريكا والدول الحليفة لها في المنطقة، وهذا يعني أن إيران تجاوزت مرحلة خطيرة، من دون مواجهة عسكرية مدمِّرة. وهذه تعتبر من إخفاقات نتنياهو الكبيرة، إذ وعد في كل برامجه الانتخابية بأنه لن يسمح لإيران بالتقدم في التكنولوجيا النووية، ولن يسمح بأن تصل الى نادي الدول النووية، ولو كلفه هذا مواجهتها عسكريا. وقف إطلاق النار يعني أن صورة النصر التي حلم بها لم تتحقق، لا صورة لجثة السِّنوار، ولا لخروجه من آخر النفق رافعا يديه فوق رأسه، ولم يخرج الأسرى بمرافقة الجنود ينشدون ويدبكون فرحين بتحريرهم بالقوة، وإنما من خلال صفقة يجري فيها تسليم أسرى مقابل تسليم أسرى. وقف إطلاق النار يعني أنّ محاولات الاحتلال دمغ حركة حماس وربطها بـ»داعش» والنازية قد فشلت، بل أن كثيرين اعترفوا بها كحركة تحرّر ومقاومة مشروعة. وقف إطلاق النار، يعني أن المقاومة بسلاحها البسيط والمحاصر تصدّت لأعتى جيوش العالم وأكثرها تسلُّحا، وشكّلت ندّا في ميدان القتال، وهذا ما يضع علامة سؤال كبيرة عن جدوى التسلّح التقليدي الذي تصرف عليه مليارات الدولارات، ولا يستفيد منه سوى مصانع السلاح الأمريكية. فشل نتنياهو في حسم الحرب، يعني إمكانية انتقال فكرة المقاومة إلى ساحات أخرى وفي تجليات أخرى. الهدنة تعني الملاحقة القانونية لمحكمة العدل الدولية، وإمكانية صدور قرارات باعتقال قيادة وضعت نفسها في مقام الآلهة، بغض النظر عن قدرة المحكمة تنفيذ قرار كهذا أم لا. إضافة إلى عار قتل الصحافيين وقمعهم وإغلاق مكاتب «الجزيرة»، ما يعني انكشاف كذبة ديمقراطية إسرائيل وسط غابة الديكتاتوريات العربية. وقف الحرب يعني التفرّغ للمحاسبة والتحقيق في هجوم أحداث السابع من أكتوبر ومن ثم تداعياته على الصراع والحرب وإدارتها. وقف الحرب يعني التعامل بندّية بين الأسرى والمعتقلين من طرفي الصراع. وقف الحرب من خلال صفقة يعني نهاية سياسية غير متوقعة لنتنياهو وحلفائه من غلاة المتطرفين بصورة مُذلّة، بعدما بدا في لحظة ما من الزمن داهية غير قابل للهزيمة، وفجأة ينكشف الوهم لدى قطاعات واسعة محليا وعالميا، ولهذا سيعمل نتنياهو وإدارته كل ما يستطيعون لمنع صفقة تشمل وقفا ثابتا لإطلاق النار.
هُدنة أم لا هُدْنة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.05.2024