أكثر الأمثلة المتداولة على لسان الحيوان التي يعيدها ويكرّرها المهتمون في الشّأن السياسي العربي، مقولة الثور الأحمر عندما حلّت نهايته، وتقدم منه الأسد ليفترسه، فنطق بحكمته الشّهيرة «لقد أُكلتُ يوم أُكلَ الثّورُ الأبيض». يزداد تداول هذه المقولة البَقَريّة، كلّما تعرّض طرفٌ عربيٌ إلى «الافتراس»، من قِبَل عَدوٍ خارجي.
يقول كثيرون، إنّ فرار بشار الأسد، وسيطرة هيئة تحرير الشام على مقاليد الأمور في سوريا، الذي واكبه احتلال إسرائيل لمنطقة واسعة في جنوب سوريا، هو مقدّمة لما سيأتي، فلإسرائيل أطماعٌ أكثر، وهذا لا يختلف عليه اثنان، لأنَّ قادة الاحتلال يعلنون هذا بوضوح تام.
لكن أيّة ذريعة، حتى لو كانت تحرير الوطن من الاحتلال الأجنبي، لا تبرّر قمع الشعب وارتكاب مجازر بحقّه وإذلاله، وهو الذي يُفترض أن يكون وقود الصمود، أو الممانعة في وجه الهجمات المعادية. كي تواجه الأجنبي الطامع، يجب أن تكون مستعداً ليس بالعتاد فقط، بل بشعب حُرّ يتمتع بالعدل في وطنه، فالعدل أساس الحُكم.
**لا إسرائيل ولا أمريكا ولا الشياطين قادرة على إرغام الناس أن يخرجوا للاحتفاء في الميادين بإسقاط تماثيل الأب والابن، لولا أنّ الشّعب ذاق الأمرين على يد النظام، حتى بات ينتظر مخلّصاً، كائناً من كان
عندما يشعر المواطن بأنّه في بلد يكفل له العدل والكرامة والمساواة، وأنّ القانون يظلل الجميع من أصغر مواطن حتى رئيس البلاد، حينئذ سوف يستميت دفاعاً عن بلده، أما أن يدافع عن وطن يُجلد ويقمع ويذلّ فيه! فهذا مشكوكٌ في أمره. من يقمع شعبه ويذلّه، يشبه الأحمق الذي يقطع فرع الشجرة، الذي يقعد فوقه، أو البخيل الذي لا يطعم حصانه، ثم يريده أن يفوز في ميدان السباق. فما بالك حين يتحوّل القمع والتنكيل بالشعب إلى نهج في كل مناحي الحياة، حتى في قضايا تعتبر بديهيات يومية، ويتعمّق يوما بعد يوم، حتى يشعر الشعب بالغربة التامة عن بلده، بل إن بلاد الغرباء أحنُّ عليه من وطنه، ويدرك أنّ العدو الأول له هو الحاكم وجهازه القمعي الذي يستبيح كرامته وعرضه، حتّى يبدو العدو الخارجي ذو النوايا التوسّعية، أرحم منه، فالوطن أوّلا هو الناس وكرامتهم، وليس مساحة الكيلومترات التي يرفع فوقها العلَم ولا النشيد الوطني ولا كميات الأسلحة المكدّسة في المخازن. لا قيمة للشّعارات الوطنية والقومية، ولا للفلسفات إذا كانت كرامة المواطن الشّخصية غير محفوظة. وإذا كان الحاكم ومن حوله، قد تحوّلوا إلى عصابات للنّهب والسّمسرة على ثروات البلاد، ولن يصدّقهم أحدٌ عندما يدعون للدفاع عن الوطن، وقد أيقن المواطن أنّ الشعارات الكبيرة لم تعد سوى غطاء لقمعه وحرمانه. هنالك من ما زالوا يشكّكون بما ترى أعينهم، لأنّهم يرفضون رؤية الحقيقة المرّة التي انفضحت، بعضهم ما زال يدّعي أنّ ما يُعرض هو مبالغٌ فيه، ويذكّر الناس بفرية الأسلحة الكيماوية المفتعلة في العراق لتبرير إسقاط النظام. والبعض يُذكِّر الناس بسجن أبو غريب وغوانتنامو، بمعنى أن أمريكا هي أم الإرهاب، فما بالها تزعم حرصها على حرية الشّعوب الآن!
صحيحٌ جداً أنّ أمريكا أم الإرهاب وصانعته وراعيته، وصحيح أنها أكبر قامع لحرّية الشّعوب، وهي شريك في حرب الإبادة الحالية في قطاع غزة، ومن قبلها في كل الحروب ضد شعبنا وأمتنا، ولكن هذا لا يبرّر لأحد طحن المعارضين في سجونه وكبسهم، ولا يبرّر اختفاء مواطنين في غياهب السجون بسبب كلمة قالوها.
العائلات التي فقدت أبناءها في سجون النظام لا تكذب، والناس الذين اختفى أبناؤهم ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم، ليسوا مُمثّلين، والبيوت التي طُرد أصحابها منها موجودة، وبعض المجازر التي ارتكبت بحق المدنيين موثّقة، وما يوثّق عادة أقل بكثير مما يحدث في الواقع! المكبس الموجود في صيدنايا، إلى جانب حبال المشانق وعشرات آلاف الشّهادات. يتجاهلون كل هذه الحقائق، ثم يتحدثون عن مؤامرة على «قلعة الصمود العربية» في وجه الاحتلال والهيمنة الأمريكية.
الاحتلال ليس مؤامرة، لأنّه واضح تماماً، إسرائيل تحتل الأرض عنوة وليست بحاجة لبراهين أن لها أطماعها، فهي تعلن هذا صراحة، وها هي تمارِسُ الإبادة علناً، ضد الرُّضَع وحتى العجزة في قطاع غزة، الملاصق لحدود جمهورية مصر العربية. خروج مئات الآلاف من السّوريين في كل مدينة ومدينة احتفاء برحيل بشار الأسد يقولُ كلَّ شيء، فلا إسرائيل ولا أمريكا ولا ألمانيا ولا الشياطين قادرة على إرغام الناس أن يخرجوا للاحتفاء في الميادين بإسقاط تماثيل الأب والابن، لولا أنّ الشّعب ذاق الأمرين على يد النظام، حتى بات ينتظر مخلّصاً ، كائناً من كان هذا المخلّص. الغريق الذي أنهكته الأمواج وصارت أسماك القرش تقضم من أطرافه، لن يسأل عن لون الذراع التي تمتدُّ إليه، لن يسأل صاحبها إذا كان سيسمح بحريّة نشر رواية فيها مشهد جنسي! ولن يسأل عن الرقابة على الصحافة! وإذا ما كان سيحق له احتساء زجاجة جُعَّة في مقهى عام. أنت تفرح بنجاتك وخلاصك، بعد هذا تستعيد أنفاسك، وفي ما بعد تفكّر في الأمور الأكثر اتساعاً، ثم في تفاصيل الحياة المادّية والرّوحية.
صحيح توجد مؤامرات، وليس على سوريا فقط، بل على كل الوطن العربي، لإبقائه ضعيفاً ولنهب ثرواته واحتلال أقسام منه! ولكن ما الذي فعلته الأنظمة لمواجهة هذه الأطماع والمؤامرات! ربما أطلقت رصاصة واحدة على الطامع الأجنبي، ولكنها أطلقت مئة على شعوبها! وأشغلت نفسها في الحفاظ على سلطتها المطلقة، وتفنّنت في قمع شعوبها.
النظام يحوك المؤامرات ضد كل من يحاول التغيير، خصوصاً عندما يجري الحديث عن تداول السّلطة، وعدم حصرها بفئة دون غيرها، حينئذ فهو مستعد للتحالف مع الخمير الحمر، المهم أن يبقى. ويجري تعقيم الوطن بين حين وآخر من الأصوات المعارضة، واستبعاد القوى ذات التّأثير والشّعبية، وذات المصداقية، لأنّها قد تشكّل خطراً على الديكتاتور، فيحيط نفسه بالفاسدين، ولا يتقدم عنده سوى المنافقين، ويصم أذنيه عن أية نصيحة من مخلصٍ، لأنّه لا يحب أن يسمع سوى «إلى الأبد». ثم يصدق الكثير من المسرحيات، تتصدرها مسرحية الانتخابات. الديكتاتور يعرف الحقيقة، ولكنه يقنع نفسه، بأنّ هذا الشعب لا تمكن سياسته إلا بالقمع. حتى إن كثيرين يردّدون فرية الأنظمة «نحن العرب لا يستطيع أن يحكمنا إلا ديكتاتور، الدّيمقراطية صناعة غربية لا تليق بنا». ويستمرئ القائد أو الزعيم انتشار الخوف والنفاق والكذب وإخفاء ما يُضمر الناس إلى أن تحدث المفاجأة، وتنفضح الكِذبة التي كان يعرفها الجميع. تتفجّر مشاعر الشعب الحقيقية، وحينئذ يتحفنا منظّرو الديكتاتور بنظريات المؤامرة، ولكنه لا يجد من يدافع عنه، سوى قلة قليلة ممن شاركوه قمعه وبعض المغفّلين والمساكين، ويتفاجأ العالم كلّه بمدى فرحة الشعب بخلعه. سيحذّر بعضهم ويقول «لقد أكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض» لكن الحقيقة هي أنّك أُكلتَ يوم أكلتَ وقتلتَ شعبَك.
أنت أُكلتَ يوم أن قتلت شعبك!!
بقلم : سهيل كيوان ... 02.01.2025