من يقرأ تاريخ المسرح والدراما في أشكالها الأكثر إكتمالاً – كما نعرفها الآن – وبخاصة في أثينا القديمة، يعلم بأن التمثيل لم يكن مجرد عمل نخبوي ترفيهي لتسلية الطبقة الوسطى، بل هو ممارسة ديمقراطية في صميم الحياة السياسية والإجتماعية للمجتمعات المدنية، تطرح من خلالها أعقد القضايا وتثار التساؤلات حول المواقف والإعتقادات، ومن ثم تؤدي على نحو ما إلى تطوير النقاش وتكوين رأي عام أكثر تنوراً للتعامل مع شؤون الحياة.
ما ذكرني بهذا الدور المحوري للدراما في حياة الناس وعلة وجودها من حيث المبدأ، العمل الدرامي المبدع «لقد قتلني أبي»، والذي قدمته القناة الثالثة لتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» قبل أسبوعين وتطرح فيه مسألة جرائم الشرف والزواج الإجباري في المجتمعات المحافظة ضمن المجموعات الإثنية المهاجرة إلى المملكة المتحدة.
العمل فيلم تلفزيوني مدته 75 دقيقة كتبه البريطاني من أصل هندي (فيناي باتيل) ويتحدث عن شهزاد – والد شرقي كلاسيكي، يعمل جاهدا لإسعاد ولديه سلمى وحسن، لا سيما بعد أن توفيت زوجته بين يديه، قاطعا لها وعدا بأن ينذر حياته من أجلهما وأن يتأكد من تزويج سلمى بطريقة لائقة.
شهزاد – كما معظم الآباء المنحدرين من مجتمعات شرقية – يعمل على ترتيب زواج مدبر للصبية سلمى من رجل تقليدي ناجح بمقاييس الأسر المحافظة، لكن سلمى تخالف توقعات والدها وتقع في غرام شاب شديد الجاذبية، لكنه لا يحظى بقبول من عائلتها. وهكذا تتصاعد القصة الرومانسية لتنتهي نهاية صادمة شديدة الحزن – كما هو متوقع وربما أكثر قليلاً.
هذا العمل الدرامي الخلاب – في رأيي – ويتفق معي كثير من نقاد الدراما التلفزيونية في بريطانيا – ربما يكون أفضل عمل قدمته القناة الثالثة منذ وقت طويل. عبقرية العمل، رغم بساطته الظاهرة، وبغض النظر عن تألق طاقم التمثيل (خاصة عديل أكثر بدور شهزاد، وكيران سوّار بدور سلمى) تبدت من ثلاث زوايا متقاطعة:
أولاً، أسلوب الطرح الذي يقترب من قلب المشاهد بانسيابية منقطعة النظير، بسبب من واقعيته الشديدة: قدم لنا فيناي باتيل معالجة إنسانية شديدة الشبه بحياة أي عائلة شرقية مهاجرة من الطبقة العاملة تعيش في المجتمع البريطاني.
التناقض الدرامي لم يبن على تجريم الأبطال وتصعيد الأحداث ومعها الحبكة بافتعالية زائفة، بل على عواطف إنسانية عميقة في هيكلية جدران بيوتاتنا الشرقية، الحب والأبوة والعائلة والغرام والرعب والغضب والحزن والندم.
ثانياً مادة الكتابة: لم يعتمد فيناي باتيل على خياله الأدبي المحض في تقديم القصة ولا على الحدوتات المأساوية، بل كتب قصة منسوجة من وقائع حقيقية حدثت فعلاً في بريطانيا وقضى وقتاً طويلاً في إستجواب ناجين وضحايا وخبراء سايكولوجيا وجريمة وجمعيات مجتمع مدني معنية بالدفاع عن ضحايا، مثل هذه الجرائم ليفهم الدوافع والأحداث والإنفعالات التي يمر بها المجرمون – الضحايا بدورهم – والضحايا.
وثالثاً، التحدي الإجتماعي: «بي بي سي» كانت تعلم تماماً أية تحديات تواجهها في طرح مثل هذه القضية الحساسة في أجواء مجتمع يعاني أصلاً من تصاعد حدة الإستقطاب بين سكان أصليين ومهاجرين وبين غربيين ومسلمين.
لهذا كان الخيار أن لا تكون القصة تجسيداً لوقائع جريمة واحدة محددة، وإنما هي عمل أدبي يستلهم جرائم شرف حقيقية عدة حدثت – وقد تحدث في أي وقت – في المجتمع البريطاني. لكن المنتجين كانوا في النهاية عازمين على إسماعنا صوت الضحايا المظلومين، وكيف أن الحب الأبوي والعائلي يمكن أحياناً أن يصل إلى حد البشاعة الأقصى في القتل، وكيف أن الثقافات المتخلفة ما زالت قادرة أن تفرض قناعات مريضة حتى ضد مصلحة المؤمنين بها. يقول منتج العمل ماركو سلايفيلاري إنه عزم على الإستمرار في إنتاج «لقد قتلني أبي ….» للنهاية عندما علم أثناء إجرائه الأبحاث على مشروع الفيلم أن عدد حوادث الشرف والإعتداءات المرتبطة بها المسجلة في المملكة المتحدة قد تجاوزت 12 ألف حالة منذ العام 2010 من بينها 60 جريمة قتل (ترعبني المقاربة ومجرد التفكير في العدد الموازي في بلادنا في الشرق الأوسط!).
عشنا كمشاهدين لحظات عصيبة، نتجمد من التجسيد الإبداعي لأرقى المشاعر الإنسانية في عذاباتها، في تقنية تمثيلية مذهلة، وكادت قلوبنا تنفطر كمداً على النهاية المحتومة ولم نفقد الأمل حتى اللحظات الأخيرة في تحول سحري نحو نهاية سعيدة على نحو ما وهو ما لم يحصل للأسف.
جريمة حية وتتمدد
بالطبع فإن قضايا جرائم الشرف والزواجات الإجبارية موضوعات ما زالت حية في مجتمعات الشرق المسلمة أساساً (العرب والأكراد والأتراك والهنود والأفغان والباكستانيون والإيرانيون) لكن الأعمال الدرامية القليلة التي قدمتها الشاشات العربية – رغم شجاعة القليل منها – ما زالت بعيدة، مسيرة أميال عن تقديم طرح يتسم بالواقعية، يمكن أن يدفع بالعمل الدرامي إلى إثارة نقاش مجتمعي عميق حول مأساة إجتماعية عميقة تمثل أسوأ ما في ثقافة الشرف المزعوم من مثالب.
فالكثير من الأعمال، التي قدمت وظفت المأساة الإجتماعية لخدمة العمل الدرامي لا العكس وبالتالي إنتهت إلى تقديم تسلية وترفيه للجمهور عن عجائب مجرد إنحراف آخر (جرائم الشرف) في مجتمعات تتآكلها المحافظة وتقيس شرفها بمسطرة العذرية الإفتراضية، وذلك ضمن مجموعة إنحرافات أخرى – سفاح القربى والخيانات الزوجية والفساد وتعاطي المخدرات وبيوت الدعارة.
هذه الأعمال (كأمثلة: «غزلان في غابة الذئاب»، «ولادة من الخاصرة»، «الخبز الحرام» وغيرها من الأعمال السورية، لم تخدم قضية جرائم الشرف بإدراجها كجزء من كتالوغات جرائم لها أسباب وعوامل إجتماعية مختلفة تماماً – بل واستخدمت جرائم الشرف لتقديم صورة شديدة القتامة وغير واقعية عن مجتمعاتنا، التي بدت أقرب إلى ماخور كبير أكثر من أن تكون مجرد مجتمع بشري آخر فيه الحسن والسيء معاً.
جرائم الشرف في الأردن مبررة وفي لبنان خيالية
كذلك فإن المحاولات الدرامية العربية الأخرى في البلدان المصنفة ذاتها، والتي تتصدر لوائح جرائم الشرف كالأردن ولبنان، تقتصر الدراما فيها على محاولات ما زالت تتلمس طريقها، ففي الأردن مثلا تتحول إلى مجرد تقارير مقتضبة في قسم المحليات، تتبع نموذجًا محددًا وموحدًا في الصياغة والأسلوب الأبويين لإعلام وشاشات تميل إلى الروتينية الإنتقائية المنفصلة تماما عن وجع الناس الحقيقي.
أما في لبنان فهناك محاولات على مستويات أشمل، لكنها تتعامل مع جرائم الشرف من خلال لجوئها إلى التصعيد الحاد في خلق وقائع العمل الدرامي، فتجعل من القصص إستثناء خارقاً يقوم على مصادفات حادة وظروف مغرقة في الخيال ولا تتكرر – في محاولة ربما لتبرير الجريمة، وهي لم تستلهم الوقائع الحقيقية ولم تقترب من حياة الشخصيات، التي تدفع الثمن لهذه الظاهرة المؤسفة.
هذا التقصير من طرف المبدعين والجهات المنتجة، وإن كان يمكن تفسيره بالتابو، الذي ما زال مسيطراً على عقول معظم المشرقيين، وغياب الدراسات والمعالجات المباشرة لهذه الجرائم من الفضاء العام، فإنه لا يعفي القائمين على الإنتاج الدرامي العربي من تهمة الإشتراك الرمزي في هذه الجرائم من خلال الطرح المجتزأ والسطحي، إن لم يكن التغييب من الشاشات لمصلحة برامج الثرثرة وإستعراض مفاتن النساء المغيبات.
لفيناي باتيل كاتب «لقد قتلني أبي» وطاقم ممثليه المبدعون وفريق الإنتاج وقناة «بي بي سي» الثالثة، عمل درامي خارق بأدواته، وطرح واقعي متقدم إنساني في مواجهة «التابو» وفي تحديه كذلك.
«لقد قتلني أبي»: جرائم الشرف والزواج الإجباري لمسلمي بريطانيا!
بقلم : ندى حطيط ... 22.04.2016
إعلامية لبنانية تقيم في لندن..المصدر: القدس العربي