في كل أسبوع تُقتل امرأتان على الأقل في المملكة المتحدة نتيجة للعنف المنزلي، الذي يمارسه شركاء تلك النّساء. هذه الإحصائيّة بالطبع لا تغطي الإصابات والجروح الجسديّة والنفسيّة، التي تصاب بها الألوف كل يوم في واحدة من أكثر الدّول الغربيّة تقدماً وخامس أكبر اقتصادات العالم، حتى لتبدو الشهيدتان الأسبوعيتان وكأنّهما مجرد رأس جبل جليدي هائل من الآلام والقهر المتراكمين، تنوء به قلوب زوجات وأمهات وشريكات كثيرات خلف الأبواب المغلقة لمنازلهن، بينما يستمر المجتمع الاستهلاكي في تجاهل معاناتهن، وكأن تسلّط شركائهن الذّكور عليهن من طبيعة الأشياء.
أوديسة في بحر ظلام البشر
وثائقي «… وأخيراً بأمان: من داخل ملجأ النساء» الذي تعرضه القناة الرابعة البريطانيّة هذي الأيّام تسبب بصدمة واسعة للجمهور الذي شغله الشاغل متابعة ماراثون البريكست في البرلمان، وإن ملّ انسحب إلى برامج الترفيه المبتذلة لإزجاء الوقت قبل العودة مجدداً إلى رحى العيش اليومي.
فالحكايا المؤلمة التي ترويها نزيلات الملجأ والعاملات فيه لم تحدث داخل مستعمرات بريطانيّة من ما وراء البحار بل في قلب المملكة المتحدّة ذاتها، والضحايا لسن نساء ملونات من مجتمعات متخلّفة، بل إنكليزيات شقراوات ينحدرن من مستويات طبقيّة متباينة في مدن بريطانيّة عريقة.
فريق القناة الرابعة الخاصة استغرق عاماً كاملاً وهو ينتج الوثائقي، الذي يسجّل وقائع تكاد تحاكي الخيال عن صراعات خاسرة تجري في الظلّ مع بشر تملكهم الشيطان، ورحلات هروب تُقَطّع الأنفاس، وذكريات رعب وآلالام مستمرة لا يمحوها أمان الملجأ المؤقت ولا تسكّنها مخاوف المستقبل المظلم. إنها أدويسة جبليّة صعبة في 45 دقيقة إلى قلب أغوار السواد، الذي يمكن أن يهبط إليه المخلوق البشريّ بتعامله مع أقرب الناس إليه.
إحدى نزيلات المركز أم لثلاثة أبناء وحامل بالرابع تعرضت للضرب والاعتداء طوال علاقة زوجيّة استمرت لأحد عشر عاماً، ولم تجرؤ على النجاة بنفسها إلا عندما منحها أحد الملاجئ أخيراً الفرصة للانتقال 200 ميل بعيداً عن مكان اقامتها، وإن كانت تعيش في قلق دائم من أن يتمكن زوجها من تعقبها هي أو أي من أولادها بعد أن هددها بالقتل عقاباً لها على هروبها.
وهي تشبه قصة نزيلة أخرى كانت ضحيّة دائمة للضرب والاعتداء الجنسيّ من قبل شريكها طيلة ستة عشر عاماً وكثيراً ما تعرضت للإيذاء والخنق أمام ابنها وابنتها اللذين لم يسلما من الضرب بدورهما.
وفي الملجأ تصاب الابنة الصغيرة بنوبات دوريّة من الرّعب خوفاً أن يعثر عليهم والدها، وتبدأ عندها بعويل يقطّع القلوب. نزيلة ثالثة حكت كيف أنها بكت بحرقة عندما استلمت من الملجأ صندوق مستلزمات عنايتها الشخصيّة، إذ لم يكتف شريكها بالاعتداء المتكرر عليها، بل وكان يحرمها الحصول على أبسط الحاجيّات.
شارلوت كنير المديرة التنفيذيّة للمركز ذاتها كانت ضحية معنّفة بدورها، وهي روت في الوثائقيّ كيف أن وتيرة الاعتداءات عليها تصاعدت يوماً بعد يوم، حتى كادت أن تتعرض للموت طعناً وخنقاً قبل أن تقرر اللجوء للسلطات وتستصدر حكماً من المحكمة بمنع زوجها الاقتراب منها دون فائدة، الأمر الذي تسبب بسجنه لسبعة أعوام بتهمة الاعتداء المتكرر والتهديد بالقتل.
ابنتها التي كبرت وصارت مراهقة مصابة بتوتر دائم لعلمها بأن مدّة محكوميّة والدها تقارب على الانتهاء، ويقينها بأنه سيطاردها وأمها لينتقم منهما.
«وأخيراً بأمان» صرخة الملجأ فوق أنين المُعنّفات
شارلوت كنير عندما قررت التعاون مع فريق التحقيقات في القناة الرابعة والسماح بإدخال الكاميرات إلى ملجأ نساء في بريطانيا للمرّة الأولى لم تكن معنيّة بإسماع أنين المعنفات وسرد قصصهن المؤلمة أمام الآخرين بما يمكن أن يمثله ذلك من خطر شخصيّ على كل منهن، لكنّها كانت تراهن على جلب انتباه الرأي العام إلى حقيقة أن حكومة المحافظين التي تتبنى سياسية تقشفيّة قاسية تجاه الإنفاق المخصص للمسائل الاجتماعية منذ بعض الوقت قد أغلقت واحداً من كل ستة ملاجىء داخل بريطانيا، وقلصت موازنات البقيّة، وهي بصدد إغلاق المزيد منها مستقبلاً في الوقت ذاته الذي كشفت إحصاءات رسميّة عن أن أكثر من 21 ألف تحويل لمعنّفات إلى ملاجىء نسائيّة ألغيت العام الماضي وحده بالنظر إلى عدم توفر شواغر لهن، مما يعني أن كثيراً من النساء يتركن وحدهن لمواجهة مصيرهن، وربما الانتهاء شهيدات يسقطن على أيدي الذئاب البشريّة.
شارلوت وضيفاتها تجاوزن على جراحهن وحكين قصصهن لأجل إنقاذ فكرة الملجأ، وربما حماية حياة ومستقبل نساء أخريات لم يتجرأن بعد على هجرة قن التعذيب الذي يَسْكُنّ، وهو أمر يتطلب سياسة اجتماعيّة شاملة تسندها منظومة قانونيّة رادعة، وبرامج صحيّة وتعليمية وأنظمة هجرة وميزانيات كبيرة بدلاً من الاكتفاء بمجرد توفير الملاجىء ومن ثم استهدافها بالتقشف والإغلاق.
نساء بريطانيا كما يوثّق شريط «…. وأخيراً بأمان» هن ضحايا السياسات النيوليبراليّة الظالمة، وضحايا المجتمع المتخاذل الذي يقبل بتقليص مظلة الحماية عن الضعفاء، قبل أن يكنّ ضحايا الذئاب البشريّة المتوحشة. ضحايا كثيرات، ووحوش أكثر، وملاجىء أقل: هذه هي حقيقة الغرب المتباكي على حقوق الإنسان والذي يشن الحروب لتحرير الفقراء من حكم الطغاة.
موسم التقطيع:
الهروب من ذئاب المنزل إلى وحوش الغابات
تصادف عرض «… وأخيراً بأمان» على القناة الرابعة مع موعد وثائقيّ «ستوريفايل: الهروب من موسم التقطيع» الذي أنتجته «بي بي سي» ويسجل حكاية نزيلات ملجأ نساء يتيم شمال تنزانيا.
هناك بالطبع قصص الضحايا التقليديات للذئاب البشريّة أسوة بشقيقاتهن الإنكليزيات، لكن يضاف إليهن هنا أعداد هائلة من البنات الصغيرات اللواتي يهربن من حبّ أهاليهن الزائد الذي يتسبب في إجراء جراحات تقليديّة لتشويه أعضائهن التناسليّة كممارسة تراثيّة موروثة – منتشرة كذلك على نطاق واسع داخل بلاد عربيّة كثيرة في أفريقيا – وتضع هذه الممارسة فتيات صغيرات تحت ضغط شديد لقبول الخضوع للجراحة أو الهرب من المنزل ومواجهة أخطار المجتمع الكبير الذي لا ينظر إليهن بكثير من التعاطف. بل إن بعضهن ممن يهربن فعلياً من بيوت أهاليهن يضطررن لعبور مناطق غابات تنتشر فيها كواسر وضوار قبل وصولهن إلى الملجأ النادر، ولا يعلم أحد بالتحديد عدد هؤلاء اللواتي قضين شهيدات، ولم يسعفهن القدر للوصول إلى الملجأ.
عربياً … لنا أن نتخيّل
مشاهدة مثل هذه الوثائقيات – الشهادات عن معاناة النساء شمالاً وجنوباً من النّاجيات إلى الملاجىء تدفع دون شك إلى إحساس بالرّعب مما قد تكون عليه حال النساء والبنات العربيّات، فلا وثائقيّات لتسجّل معاناتهن، ولا ملاجىء تتوفر لهنّ أصلاً، وإن وجد عدد قليل منها لا يزيد على أصابع اليدين فأغلبها أشبه بسجون لحماية المعنفات الفارات من القتل بألف ذريعة وذريعة، بدل أن تكون فرصة لبدء حياة جديدة بعيداً عن نهش الذئاب البشريّة.
ولعل مما يزيد الصورة قتامة في مناطقنا أن الثقافات المجتمعيّة القروسطيّة السائدة تصم النساء الهاربات من التعنيف والاعتداءات باعتبارهن خارجات عن تقاليد المجتمع، بينما تجد الذئاب البشريّة المتوارية وراء الأبواب الموصدة نفسها محاطة بسياج كثيف من الأفكار المغلوطة والخزعبلات المعروفة التي تبرر لها جرائمها وتحميها عند انكشاف أمرها. الهروب من الذئاب في بلادنا قرار بالانتحار، قد يكون بطيئاً لكنه محسوم ولا رجعة عنه. للأسف.
ضحايا كثيرات وحوش أكثر وملاجئ أقل: عن ذئاب بشريّة يحميها التخاذل المجتمعيّ !!
بقلم : ندى حطيط ... 08.03.2019
٭ إعلامية لبنانية تقيم في بريطانيا..المصدر : القدس العربي