لو كانت الثورات العربية قد حدثت في بلدان خارج منطقة الشرق الأوسط لربما نجحت، وانتهت، واستقرت أوضاع بلدانها بسرعة أكبر بكثير مما هي عليه في منطقتنا المنكوبة بموقعها الإستراتيجي منقطع النظير، ووجود إسرائيل، وطبعاً المادة الأكثر إسالة للعاب العالم وهي النفط. إن العوامل الثلاثة تلك تجعل أي تغيير في المنطقة العربية ليس مستحيلاً طبعاً، بل في أحسن الأحوال محفوفاً بالقلاقل والمد والجزر وفي أسوأ الأحوال ربما الإفشال وإعادة الأمور إلى أسوأ ما كانت عليه، لأن مصالح القوى الكبرى في منطقتنا أكبر بكثير من أن تترك شعوبها تقرر مصيرها بنفسها، وتختار الحكومات التي تريدها، بعد أن كان الكبار يختارون لها أنظمتها ويقررون سياساتها منذ عشرات السنين.
لا أبالغ إذا قلت إن أي شعب عربي يريد أن يثور من الآن فصاعداً يجب أن يجمع تواقيع الدول الكبرى والإقليمية والمجاورة قبل أن يبدأ ثورته، وإلا حولوها وبالاً عليه، فالثورات لم تعد شأناً داخلياً كما كانت. في الماضي لم يكن هناك عولمة سياسية وإعلامية واقتصادية وثقافية، فكانت الثورات تمر دون أن يسمع بها بقية العالم. هذا إذا كانت في بلاد لا تحظى بأهمية إستراتيجية واقتصادية كبرى كبلداننا. أما اليوم فلا يمكن لثورة أن تمر إلا إذا حصلت على مباركة القاصي والداني. وإلا استخدموا ضدها كل وسائل العولمة الخطيرة ليحولوها نقمة على الشعوب التي قامت بها.
لا نقول هذا الكلام انطلاقاً من نظرية المؤامرة، بل بناء على ما نراه من محاولات دولية مفضوحة للعبث بالثورات العربية وحرفها عن مسارها وتجييرها لمصالح القوى الكبرى. هل كانت الثورة السورية لتتعثر، وتتسبب في تدمير معظم البلاد وإزهاق مئات الألوف من الأرواح لو لم تتدخل روسيا لعرقلتها من أجل الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية في سوريا؟ بالطبع لا. لم يأت الدعم الروسي للنظام السوري سياسياً وعسكرياً واقتصادياً إلا من أجل ضرب مسار الثورة كي لا تتأثر المصالح الروسية في سوريا في حال جاء نظام آخر. فقد تعلمت روسيا الدرس من مصر، حيث فقدت نفوذها هناك بعد وصول نظام الرئيس أنور السادات.
وحتى في مصر، لا يمكن أبداً عزل المخططات الغربية عما يحدث هناك. لا شك أن من حق الشعب المصري أن يقوم بعشرات الثورات كي يصحح مسار ثورته الأولى، لكن هل تسير الأمور في مصر بعيداً عن التدخلات والضغوط الخارجية؟ نرجو ذلك، مع العلم أن الأمور ليست بحاجة لتوضيح. لقد اعتبرت صحيفة الجارديان البريطانية الرصينة أن "الثورات العربية المتصاعدة تشكل تهديداً فعلياً للنظام الإستراتيجي العالمي، وأن الغرب لا يكل، ولا يمل أبداً في سعيه للسيطرة على الشرق الأوسط، مهما كانت العقبات، ومعيدة إلى الذاكرة سنوات الاستعمار الغربي للبلدان العربية بعد تقسيمها".
وتشير الجارديان إلى أنه ومنذ يوم سقوط حسني مبارك في مصر، ظهر اتجاه مضاد متعنت بقيادة القوى الغربية وحلفائها "لرشوة أو تحطيم أو السيطرة على الثورات العربية". وتربط الصحيفة بين ثورات الربيع العربي والثورات التي حدثت في العالم العربي في بداية ومنتصف القرن الماضي. ومن المدهش أن بعض المصادر الغربية توقعت قبل أكثر من سنة أن يكون مصير الإسلاميين فيما لو وصلوا إلى السلطة مشابهاً لمصير القوميين العرب الذين وصلوا إلى الحكم في بعض البلدان العربية في منتصف القرن الماضي، حيث هددوا المصالح الغربية، فما كان من القوى الاستعمارية إلا أن عملت على إزاحتهم بطرق شتى كما حدث في مصر جمال عبد الناصر وعراق صدام حسين. فقد درج الغرب كما ترى الجارديان مثلاً أن يوصم العرب الذين "يصرون على إدارة شؤونهم الخاصة دون تدخل خارجي بأنهم ثلة من المتعصبين الإرهابيين بقطع النظر عن انتماءاتهم الأيديولوجية والحزبية". وترى الصحيفة أنه حتى لو سمح الغرب بوصول الإسلاميين إلى السلطة فإن "أمريكا وحلفاءها يحاولون ترويضهم - على السياسة الاقتصادية الغربية بدلاً من تفسيرات الشريعة. والذين يخضعون لذلك سوف يتم اعتبارهم "معتدلين، أما الباقي فيسمونهم متعصبين، متطرفين".
باختصار شديد يرى كثيرون على ضوء تعثر حركة الربيع العربي في أكثر من بلد بأن الغرب "منهمك بالفعل في إجهاض مقاصد الثورات العربية من الانعتاق من سيطرة الغرب على البلدان العربية مؤكدين أن الغرب لن يسمح بأن تخرج المنطقة العربية عن سيطرته، لأنها تعيش فوق بحيرة من النفط لا غنى للغرب عنها"، ناهيك عن وجود إسرائيل فيها. وهناك طبعاً الكثير من الشواهد التاريخية على تدخل الغرب "لإجهاض كل الثورات والانتفاضات العربية ضد سيطرته عبر دعم أنظمة صديقة له. بدءاً بثورة يوليو في العراق بقيادة مجموعة عبد السلام عارف القومية المتأثرة بالرئيس جمال عبد الناصر على الملكية الموالية للغرب. خذ المرة الأولى التي حاول فيها العرب أن يقذفوا بأنفسهم بعيداً خارج المدار الغربي في خمسينيات القرن الماضي تحت تأثير قومية ناصر العربية. ما ذا حدث؟ لقد قام الغرب بدعم انقلاب البعث عليها. ذلك الانقلاب الذي مكن صدام حسين من الوصول إلى السلطة عام 1963. ولم تتوقف جهود أمريكا وبريطانيا عن مسعاها في استرداد العراق الغني بالنفط منذ ذلك الوقت حتى تحقق لها ذلك في عام،2003 حيث تمكنتا من إعادة احتلال العراق بالكامل والسيطرة التامة على ثرواته النفطية".
هل سينجو الربيع العربي من مخالب القوى الكبرى هذه المرة، أم أنه سيكون في أحسن الأحوال مجرد "تحسين لشروط التبعية" كما تساءل أحدهم قبل مدة؟ الجواب عند الشعوب العربية الحية التي كبرت كثيراً على الألاعيب الاستعمارية المفضوحة. نتمنى أن لا نكون مخطئين.
هل ينجو الربيع العربي من مخالب القوى العظمى!؟
بقلم : د.فيصل القاسم ... 14.07.2013