في طفولتي كان حلاقي أبكم وأصمّ، كنت أجلس مضطرًا على كرسي صغير فوق الكرسي الكبير، وكان والدي رحمه الله يثبتني بذراعيه، بينما الحلاق يعربد بالموسى، ويحوم بها حول رأسي حتى أخال أنه سيذبحني، فكنت أرتعب وأبكي! كنا في طفولتنا المبكّرة ولسبب ما نخاف من الصم والبكم والمكفوفين وذوي الإعاقات عموما. ربما لأن معظم الشريرين في قصص الجدّات كانوا من هذه الفئة، وربما وهذا الأرجح لاختلافهم عن الآخرين.
مرت سنين، حتى اعتدته وألفته، وصرت أحلق عنده مطمئنا، وأتفاهم إلى حد ما معه بلغة الإشارة! بل وصرت وسيطاً للترجمة بينه وبين آخرين أكثر جهلاً مني بلغته.
أما الإسكافي الذي كنت أصلح عنده الحذاء فقد كان أصمّ، لا يسمع، ولكنه يستطيع النطق، وإن كان بنبرات مشوّهة وبصوت لا يعرف كيف يضبط موجاته، ولكنه كان قارئا جيدا للصحف اليومية وللقصص، وكانت لغته عموما عربية فصيحة، فيتحدث إليك بطريقة مختلفة تبدو مسليّة فيقول مثلا «لقد سافرت بالأمس في الحافلة إلى حيفا، وفجأة صعدت امرأة باسقة شامخة، متبرّجة، في عينيها كُحل كثير وله ذنبة، صدرها ماشاء الله عامر، ورائحة عطرها، يشمها الجميع، (يأخذ نفسا عميقا)..يا سلام ما أجملها، جلستْ إلى جانبي..يا سبحان الله كم هي جميلة» وهكذا.
أما قريبي الكفيف فمتعته المذياع، ولهذا يفاجئك بإلمامه بأسماء المذيعين العرب من جميع دول الجوار ومن البي بي سي ومونت كارلو! يتابع البرامج طيلة النهار والليل،عندما نلتقي في مناسبة ما، يحدثني بتفاصيل الأخبار العالمية والمحلية والحوارات التي يجريها المذيعون مع ضيوفهم!
وفي قريتي شاب كفيف له مقدرة تشبه الخيال، إذ يعرف كل أنواع السيارات لمجرد مرورها إلى جانبه، ويعرف سنة إنتاجها إذا تحسسها بيديه، كذلك عندنا رجل كفيف يعمل وكيلاً سياحياً للرحلات المُنظمة، يعتبر من أفضل دليلي السياحة لمناطق كثيرة في العالم. وأكثر المكفوفين شهرة ثلاثة أشقاء من بلدة كفر قاسم، وهم عباقرة في مجال الحاسوب والبرمجة، اخترقوا كل شبكات الهاتف الكبرى والبنوك وإذاعة الجيش وشركة الكهرباء ومطار اللد وأنظمة المعلومات الأكثر حماية، وتعرضوا للسجن، إذا وقف أحدهم إلى جانبك يعرف رقم الهاتف الذي تتصل إليه، والكلمات التي تكتبها من خلال الصوت الصادر عن كبسات هاتفك، إذا كان من النوع الذي يصدر صوتاً.
في الناصرة تعرفت قبل أشهر قليلة على الشاب الكفيف (عباس عباس) وهو يرفض تسمية «ذوي الاحتياجات الخاصة، أو المعاقين»ويقول إن التسمية الصحيحة هي «صاحب إعاقة»، أي أن في جسده إعاقة، ولكن هذا لا يعني أنه معاق، المعاق هو من يستسلم لإعاقته.
(عباس عباس) حصل على شهادة محاماة بامتياز كما حلم والداه، ولكنه لم يتوقف عندها فأسس جمعية المنارة للمكفوفين، وبدأ من خلالها بتأسيس مكتبة صوتية عالمية للناطقين بالعربية، هدفه توفير أكبر عدد من الكتب الصوتية للمكفوفين العرب من قصص وروايات وشعر ونقد أدبي لجميع الأجيال بلغتهم الأم.
القصص يقرأها الكاتب نفسه في أستوديو الجمعية، حيث تُسجل وتخزّن، أو تقرأها متطوعات مُدرِّسات اللغة العربية مُعظمهن من المتقاعدات.
يوم السبت الأخير جرى لقاء مميز عبر (السكايب) في إحدى قاعات الناصرة مع الروائي الشاعر إبراهيم نصر الله حول روايته «أرواح كليمنجارو»! كان معظم الجمهور في القاعة من أصحاب الإعاقات، وقد اختيرت هذه الرواية الرائعة لكونها تتحدث عن مجموعة من الشابات و الشبان المعاقين الذين فقدوا أطرافهم، ولكنهم قرروا في تحدٍ لأنفسهم صعود قمة جبل كليمنجارو في تنزانيا، الأمر الذي يتطلب صبرا وعنادا وإصرارا ولياقة بدنية هائلة، حيث يرافقهم الكاتب في رحلتهم ليبدع روايته الجميلة بين تفاصيل الواقع وأجنحة الخيال.
بمرافقة مترجمة إلى لغة الإشارة للصم والبكم جرى حوار مع نصر الله، حاوره الكاتب النصراوي جودت عيد، والمحامي عباس عباس، ثم فُتح المجال لمداخلات وأسئلة الجمهور.
تغمرك مشاعر غريبة، عندما يكون كل من حولك من ذوي الإعاقات، تنحني احتراما لإصرارهم على أن يكونوا متساوين بل ومتفوقين، وتكتشف أنهم قارئون جيدون، خصوصا البُكم والصم منهم، حيث تعتبر القراءة متعتهم الأكبر، أما أصحاب الإعاقات في الأطراف، فقد تماهوا مع أبطال رواية كليمنجارو الفاقدين لأطرافهم! يبتسمون كأنهم جميعهم يقولون نحن قادرون. أما المكفوفون فقد كان حماسهم كبيرا لفكرة المكتبة الصوتية العربية، وستشعر بسعادة مضاعفة عندما يقول لك أحدهم إنه استمع إلى قصة من قصصك من المكتبة الصوتية.
قلت لإحداهن يبدو أن المرحوم ياسر عرفات قصدكم أنتم بوصفكم «شعب الجبارين» فـ»كل ذي عاهة جبار»!
هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على شعب سبب له الاحتلال مئات آلاف العاهات والتشوهات الجسدية والنفسية، حيث يعيش في قطاع غزة والضفة الغربية والشتات عشرات الآلاف من ذوي الإعاقات الدائمة بسبب العدوان المستمر على شعبنا. ولا زالت أعدادهم في تزايد، فمنذ بداية هبة القدس الحالية أصيب حوالي 13 ألف شخص من بينهم حوالي 1650 إصابة بالرصاص الحي، الأمر الذي يعني إعاقات دائمة للمئات منهم، أما في سوريا والعراق واليمن فأغلب الظن أن عدد الجرحى أكثر من مليون، وسيكون من بينهم مئات آلاف من أصحاب الإعاقات الدائمة، وكثير منهم فقدوا نعمة البصر.
عدد المكفوفين وأصحاب الرؤية المحدودة جدا في العالم العربي يصل إلى سبعة ملايين، يحتاجون للكتب المسموعة، وخصوصاً أنه لا يوجد الكثير من القصص العربية المكتوبة بلغة المكفوفين (أبجدية بريل)، ثم أنه ليس لدى جميع المكفوفين القدرة على قراءة لغة بريل حتى إذا توفرت، رغم وجود مشاريع تنموية في بعض الدول العربية، خصوصا في دول الخليج العربي، إلا أنها قليلة حتى الآن، ولا ترتقي إلى المستوى المطلوب.
تزداد أهمية مشروع المكتبات الصوتية أكثر، لأنها قد تخدم مائة مليون إنسان في العالم العربي من الأميين العاجزين عن القراءة، فالأمّي لا يختلف عن الكفيف في هذا المجال، وهذا يزيد من أهمية المشروع الذي يجب تطويره وتعميق الوعي بأهميته ودعمه في كل أرجاء العالم العربي.
علاقتنا بأصحاب الإعاقات الجسدية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 24.12.2015