هل كانت الثورات الشعبية أسهل بكثير في الماضي؟ هل كانت الشعوب تأخذ حقوقها بأيديها، والآن أصبحت بلا حول ولا قوة حتى لو ضحت بالغالي والنفيس؟ قلناها مراراً على مدى السنوات السبع الماضية من عمر الربيع العربي: الثورات لم تعد أبداً شأناً وطنياً داخلياً يخص الشعوب وحدها، ليس بالنسبة للعرب فقط، بل أيضاً بالنسبة لكل شعوب العالم، بمن فيها حتى شعوب الدول المتقدمة والمتوسطة القوة، فما بالك بالدول الضعيفة والمتخلفة كدول العالم الثالث عموماً والوطن العربي خصوصاً.
قالها صحافي عربي مخضرم في بداية الثورات: أيها العرب لا تراهنوا على تغيير أوضاعكم من خلال الثورات، فهذا ممنوع عليكم منعاً باتاً. لن تسمح لكم القوى الكبرى التي تمسك بزمام القيادة والتحكم في العالم أن تكونوا أحراراً ومستقلين. هذا مستحيل حتى لو دفعتم أنهاراً من الدماء. لهذا يجب عليكم أن تعلموا بأنه مسموح لكم فقط أن تحسنوا شروط التبعية في أحسن الأحوال، هذا إذا لم يعيدكم ضباع العالم إلى المربع الأول، ويجعلونكم تترحمون حتى على أيام الطغيان الخوالي، كما هو حاصل الآن في سوريا وليبيا واليمن تحديداً، حيث بات حلم الكثيرين أن يعودوا إلى حظيرة الطاعة القديمة التي كان يديرها ويتحكم بها جنرالات عرب طبعاً نيابة عن القوى الدولية، وليس بقواهم الذاتية، فالطواغيت في بلادنا مثل شعوبهم مجرد أدوات وتابعين، وهم يؤدون وظائف محددة لسادة العالم الحقيقيين.
لهذا قلت مراراً إن الديكتاتور العربي ليس المتهم الأول في قضايا القمع والاضطهاد الذي يمارسه بحق شعبه، بل هو أشبه بالسجان في السجون يؤدي وظيفة أوكلتها إليه جهة أخرى. بعبارة أخرى، فإن مهمة الكثيرين في دولنا المزعومة مقررة لهم من الخارج وليست منبثقة من قرارهم الوطني المستقل كما يدعون ويظهرون أمام شعوبهم. لا سيادة أبداً للأنظمة والدول الوظيفية في هذا العالم. كل نظام يتصرف حسب الخطط المرسومة له من الذين وضعوه على رأس السلطة في هذا البلد أو ذاك خدمة للخارج أولاً والداخل ثانياً. بعبارة أخرى، قبل أن تحكم على هذا النظام أو ذاك، انظر إلى التسلسل الهرمي للسلطة في العالم، فهذا العالم مثل شركة كبرى، لها مجلس إدارة، ولها وكلاء وموزعون ومندوبون. لا عجب إذاً أن وصف المفكر التونسي هشام جعيط الكثير من الحكام العرب بأنهم مجرد وكلاء للخارج، تماماً كوكلاء الشركات، كوكيل السيارات ووكيل الساعات ووكيل المشروبات إلى آخر القائمة من الوكالات.
وكي لا يظن البعض أن الشعوب في الدول المتقدمة هي أكثر حرية في تقرير مصيرها من العرب يجب أن يعيدوا النظر في آرائهم. ربما يعاملها ضباع العالم بطريقة أفضل منا، لكنها في نهاية المطاف تخضع لشروطهم وقيادتهم. لاحظوا أن شعوب أوروبا الشرقية ثارت ضد الطغيان الشيوعي السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لكنها لم تقرر مصيرها بنفسها، بل انتقلت فوراً من تحت المظلة السوفياتية إلى تحت المظلة الأوروبية، فوضعتها أوروبا فوراً تحت جناحها، وأدخلتها في الاتحاد الأوروبي طبعاً بإيعاز أمريكي. وهذا شيء إيجابي من الناحية النظرية، ويطمح إليه الكثير من الشعوب المسحوقة في العالم الثالث، لكنه يثبت أيضاً أن ليس كل الشعوب تقرر مصيرها دائماً بنفسها، بل قد يكون الهدف من وراء تحريك هذا الشعب أو ذاك هنا وهناك ضد هذه الجهة أو تلك ليس تحريره فعلاً، بل نقله من معسكر إلى آخر كما كان يحاول الغرب أن يفعل مع دول أوروبا الشرقية على مدى حوالي نصف قرن وهي تحت النظام الشيوعي السوفياتي. لاحظوا أنه في اللحظة التي تخلصت فيها دول أوروبا الشرقية من نير الطغيان السوفياتي، التحقت بالمعسكر الغربي. بعبارة أخرى، لم يساعدها الغرب كي تتحرر، بل كي تنتقل إلى معسكره.
وكذلك الأمر بالنسبة للشعوب العربية التي ثارت. فإذا كان ممنوعاً على شعوب دول أوروبا الشرقية الأكثر تقدماً من الشعوب العربية أن تقرر مصيرها بنفسها، ويجب عليها أن تلتحق بالمنظومة الأوروبية الغربية، وتخضع لإملاءاتها وشروطها ومتطلباتها، فليس من العجب أبداً أن تمنع القوى المتحكمة بالعالم العرب من تقرير مصيرهم عبر ثوراتهم. لهذا رأينا التدخل الروسي والأمريكي وغيرهما فوراً في المنطقة العربية لهندسة الانتقال أو توجيه دفة الثورات في الاتجاه المطلوب خارجياً وليس داخلياً.
ومن سوء حظنا لم يكن حتى مسموحاً لبعض البلدان التي ثارت أن تنتقل إلى مرحلة جديدة، أو أن تقرر مصيرها، فأعادوها إلى نفس الحظيرة القديمة، لكن بوجوه جديدة. وفي سوريا الآن، لن يسمحوا للسوريين بتقرير مصيرهم بعد كل هذه التضحيات، بل يجب أن ينضووا تحت لواء قوة كبرى كروسيا أو غيرها. باختصار فإن وضع الشعوب الضعيفة في هذا العالم لا يختلف عن وضع الحيوانات الضعيفة في الغابة: القوي يُخضع الضعيف، ويضعه تحت جناحيه. باختصار، هذا العالم تحميه، وتتحكم به قوى كبرى كأمريكا وروسيا وأوروبا وغيرها، وما على الصغار الإ أن ينضموا إلى هذا المعسكر أو ذاك، وألا يحلموا بأن يكونوا مستقلين، حتى لو دفعوا ملايين الشهداء في ثوراتهم.
أرجو أن أكون مخطئاً.
أيها العرب: لا تحلموا بالحرية!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 01.04.2017