عكا هي مدينتي الأولى، فهي الأقرب لقريتي مجد الكروم، أصِل إليها هذه الأيام في أقل من عشر دقائق من دون تجاوز السرعة المسموحة.
لا أذكر كم كانت سنّي بالضبط، لكنها بالتأكيد قبل الخامسة، ظهر في فخذي دُمّل عنيد آلمني كثيراً، أخذتني والدتي إلى طبيب سمين وأصلع في البلدة القديمة، غرس مقصاً في الدمّل، آلمني، لكنني ارتحت، ثم قال لها: خذيه إلى البحر، عرجنا عند عائلة ابن عمها الذي كان يسكن في الحي نفسه في الزاوية الشاذلية، استرحنا قليلا ثم مضينا.
لحظة الخروج من البوابة من الجهة الشرقية الجنوبية التي تسمى بوابة السّباع، انكشف لي الأزرق الكبير لأول مرة، تقدمتُ برهبة ممسكا يدها، خلعَتْ ما في قدمها ثم رفعتْ ذيل ثوبها ووقفت في الماء وراحت تفرك قدما بقدم، عرّتني ثم بللتني وغمرتني في المياه الضحلة، جلستُ ثم استلقيت ثم وقفت ولعَبطٍـتْ وتقلبت وفرحتُ بهذه المساحة الكبيرة من الماء الأزرق، كان اسمه شط العرب، لا أنسى فضل البحر في شفائي وامتصاص آلامي، ومنذ ذلك اليوم نشأت بيني وبينه علاقة حميمة.
عندما نقرر أنا وشقيقي الذي يكبرني بعامين الذهاب إلى البحر، تُحمّلنا والدتي تينا وبامية لأسرة ابن عمها الذي كنا ندعوه خالي مهنّا، التين والبامية منتوج قريتنا الشهيران، ولهذا أطلق علينا أهل القرى القريبة (رَبْع البامية).
نوصل الهدية، ونتخفف من ملابسنا، ثم نعدو متلهفين إلى البحر حتى نعود في آخر النهار وقد قرصنا الجوع وأنهكنا اللعب بالماء، ولم يخل الأمر من مشادات تستعمل فيها الأيدي بين العرب بعضهم بعضا، وأحيانا بين عرب ويهود، وهذه تكون ساخنة حيث ينحاز كل طرف لأبناء قومه وتتدخل الشرطة، كان شقيقي يأمرني بالهرب فورا إلى بيت الخال ،ويبقى هناك معتبراً نفسه من الكبار.
هذا الشاطئ الصغير بين السور ومدرسة البحرية، كان يسمى شط العرب، أطلقت عليه البلدية اسم شاطئ الخيول، لأن هناك من يغسل خيله فيه مثل أي شاطئ، باعته لمقاول، لم يعد الشاطئ الذي عرفناه في طفولتنا، صار مكانا مغلقا بحاجز كهربائي لا تستطيع دخوله، والسباحة ممنوعة فيه.
انتقلتُ للسباحة على الشاطئ الأبعد شرقا وجنوبا ما بعد الكلية البحرية التابعة للجيش، وهو مبنى من الحقبة البريطانية جرى توسيعه. اقتُطعت هنا مساحة وسُيجت للمتدينات اليهوديات، وبعدها شاطئ عام، مساحات عريضة من الرمال البيضاء الناعمة وشمسيات وعرائش من خشب وقصب، ومنقذون وحمّامات وغرف تبديل ملابس ومياه نظيفة.
مع مرور السنين عرفت معظم شواطئ البلاد وخصوصا في الشمال، ولكن لا أرتاح إلا لشاطئ عكا الذي أطلقوا عليه اسم شاطئ الأرجوان، تتدرج المياه في عمقها بسلاسة، لا تغدرك حفرة أو عمق فجائي، تشعر برفق الأمواج حتى وهي غاضبة، بعكس شواطئ أخرى مثل شاطئ البصّة القريب من الناقورة، حيث تفاجئك الحفر والصخور الجارحة والأمواج الضارية المحمّلة عادة بأعشاب البحر.
اعتدت التردد على الشاطئ بلا ملل، سواء في أيام العطل أو بعد ساعات العمل، هنا تعلمت ليس الرقص مع الأمواج فقط، بل تعلمت ضبط النظر إلى المستجمات بحيث لا تبدو نظرات وقحة أو شرهة، وأن اللباس لا يحدد أخلاقيات الناس والنساء بشكل خاص، ولا يحدد من هي الخفيفة أو الثقيلة، وتعرّفت إلى ثقافات ومفاهيم مختلفة خصوصا مع الأوروبيين، وفائدة اللغة الأجنبية ليس فقط كي تأمن شر قوم ما، بل كي تحظى بالمتعة معهم، مثل حسن ابن بلدنا الذي أتقن الإنكليزية بطلاقة، المحترف في بناء علاقة ودّ مع الأجنبيات، كان يبادر عادة بترديد أغنية للبيتلز على مسامعهن فتفعل مفعولها كالسحر عليهن، لم أكن أفهم منها سوى كلمات قليلة، كنت أحسده على إنكليزيته، سافر إلى أمريكا وعاد بعد عقدين، وصار يعمل مرشدا سياحيا في جامع الجزار حتى يومنا هذا.
في بداية هذا الصيف اللاهب ذهبت إلى الشاطئ الذي أحبه كالعادة، وإذ بالبوابة مقفلة وقد علقت عليها لافتة «هنا تجري أعمال بناء الاقتراب ممنوع». كنت وآخرون مثلي نحاول العثور على مدخل إلى الشاطئ، ولكن البوابة مقفلة، وعُلقت على نافذتيّ المطعم والمقصف لافتة «ممنوع العبور إلى الشاطئ من هنا».
لم أكن وحيدا في حيرتي ودهشتي، فقد وصل في كل لحظة أناس من أعمار مختلفة، عرب وروس ويهود يحاولون الدخول ولكن لا مدخل للشاطئ، بل لم يبق شاطئ أصلا، جرافات وعمال بناء وشفاطات إسمنت مسلح ورافعات وعتاد ثقيل وحديد وأخشاب، تحول الشاطئ إلى منطقة خاصة ولن يتاح الدخول بعد اليوم، لا أعرف ما هو المشروع، ولكنه لن يكون بعد اليوم الشاطئ الذي عرفناه.
نزحنا شرقا وجنوبا إلى ما تبقى من الشاطئ القريب من المنطقة الصناعية، قضم الفندق الوحيد هناك مساحة بعرض نحو المئة متر وسيّجوها لتكون خاصة بنزلاء الفندق فقط. لم يبق للناس سوى مساحة ضئيلة من الشاطئ، واندحروا أكثر فأكثر جنوبا وشرقا.
بالقرب من مصب نهر النعمين الآتي من السهول الممتدة تحت أقدام سفوح الجليل الغربي، على مسافة بضع مئات من الأمتار عن الشاطئ، ما زالت هناك بيوت عربية متشبثة في المكان، برغم محاولات اقتلاعها منذ عقود، وإغراء سكانها بتركها والانتقال إلى المدينة، وهي ممنوعة من التوسع ومن استخدام الإسمنت المسلّح، تماطل البلدية منذ عقود بإدخالها كمنطقة سكنية. على هذا الشاطئ إذا رأيت سمكة كبيرة متعبة في المياه الضحلة فلا تسرع لالتقاطها، فهي مسممة بسبب المياه العادمة التي تتقيأها المنطقة الصناعية القريبة.
الخصخصة والرأسمال يلتهم كل شيء جميل، تباع الشواطئ للمقاولين والمستثمرين، مثلها مثل مباني المدينة التي هجرها أهلها عام النكبة. كيف يمكن تدمير الشواطئ بهذه الصورة الإجرامية، الفساد يغرق ويلوث كل شيء، من رئيس الحكومة وزوجته مروراً بالكثير من الوزراء وأصحاب الشركات الكبيرة المهيمنة على كل شيء.
من بعيد ترسل نظرك في اتجاه البلدة القديمة وسورها وتسرح، عكا تعني الرمل الحار في لغة مؤسسيها الكنعانيين القدماء، عرفت الزجاج وصبغة الأرجوان في حقبة سيطرة الفينقيين، فتحها شرحبيل بن حسنة، أقام فيها معاوية بن أبي سفيان حوضا لبناء السفن، مرت بها أمم لا تحصى منذ قدماء الإغريق حتى يومنا، في غزو وغزو مضاد وتحرير وغزو جديد.
الأمواج والرمال الملوثة تفصح عن مشروع اقتصادي استثماري كبير لا علاقة له بجمال المكان ولا بعاطفة وجدانية معه، إنه مشروع ربحي لرأس المال الصهيوني اسمه دولة ولكنه ليس وطنا، الدولة لا تعني الوطن، لأجل هذه المشروعات طرد شعبٌ من رماله ومياهه وحجارته وترابه وأشجاره وما زالوا يحاولون إذابة وتبديد ما تبقى منه، تتحسر وتتألم، ما الذي ستراه أعين الأجيال القادمة من هذا الوطن الذي غزته وأنهكته الدمامل والقروح!!
ذاكرتي البَحرية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 17.08.2017